فبراير 28, 2024 - 18:08
الأديب يحيى حقي.. شيء من السيرة الذاتية


خالد الأشموري
صباح يوم 9 ديسمبر/1992م طالع قراء صفحة الوفيات في " الأهرام " هذه الكلمات القليلة: " شيعت أمس جنازة الكاتب الكبير الأديب يحيى حقي.. من يقرأ هذا النعي يقرأ له الفاتحة".
يقول.. فاروق عبد القادر الكاتب والناقد الأدبي من مصر – أحد أحباب الأديب حقي، وصاحب هذه السطور وهو يسترجع من سيرة وإبداع الأستاذ يحيى حقي: كان الأستاذ قد أمضى أياماً في المستشفى بين الغيبوبة والإفاقة يقول لمن حوله إنه يعرف، يقينا، أنها النهاية، فلا حاجة له بطب أو دواء ، ويترنم بشعر المتنبي وأبي فراس وجاءت وصيته الأخيرة دالة عليه: أوصى بأن يدفن فور موته، وألا تقام له جنازة أو ينصب سرادق عزاء ، وألا يُنشر نعيه إلا بعد دفنه وهكذا سار وراء جثمانه نفر لا يبلغ العشرة ، وصباح اليوم التالي قرأ الملايين تلك الكلمات قال بعض عارفيه إن هذه الوصية هي الدعابة الأخيرة من رجل عاش عمره الطويل يتعشق الدعابة، وأنه هو الكاسب في كل الأحوال، فثمة ملايين سيستجيبون لطلبه ويقرأون له الفاتحة .. أما أنا فقد رأيت فيها دلالات أخرى: رأيت فيها تجسيداً لنفوره الدائم من الشكليات والمظهريات الفارغة، ورغبة في أن يفوّت على حملة القماقم والمباخر أن يتخذوه هدفاً لهم ، واستمراراً لمسلك كان يتغياه دائماً وهو أن يكون بين من أسماهم " ناس في الظل، ورأيت فيها – أخيراً رده العملي على أولئك المسئولين والرسميين الكبار الذين لم يأبهوا به في حياته، لكنهم سيسارعون إلى الحفاوة به بعد موته!.
رحل يحيى حقي قبل أن يتم عامه الثامن والثمانين بشهر واحد " 7/1/1905م-9-12/1992م " رحل وقد أكتمل لا أعني – فقط – أنه عاش حياة مترامية خصبة ، أقام خلالها وعمل في القاهرة الإسكندرية ومنفلوط وجدة وأستانبول وروما وباريس وطرابلس وأنه أنفق أيامه ولياليه قارئا للتاريخ والتراث والآداب العربية والشرقية والغربية، وأنه أقبل على كل الفنون مستمتعاً ومتذوقاً ثمار الشعر والنثر والنحت والموسيقى والسينما والفولكلور، وأنه كتب المقالة الأدبية والصورة الوصفية والقصة القصيرة والرواية والبحث ، وأنه ترجم المسرحية والرواية والدراسة لا أعني هذا كله فقط، لكنني أعني أنه قد رحل بعد أن اكتمل صدور أعماله الكاملة في ثمانية وعشرين مجلداً " حين صدر آخر الأجزاء – أبريل 1991م – تلفنت له مهنئا ومحييا ، جاءني صوته مترعاً بالفرح: " انا سعيد لأن هذه الاجزاء قد اكتملت ولا أزال على قيد الحياة،،" كان قد أطلق على هذا المجلد الأخير عنوانا يشي بحبه الدائم للفكاهة ، أسماه " كناسة الدكان " . ولم يشأ أن يضيف بقية العنوان المعروف " بعد رحيل السكان " ! صمت الأستاذ لحظة ثم أضاف : " في الحقيقة إن الفضل يرجع لفؤاد دوارة ولولاه ما اكتملت .." وهذا صحيح وجدير بالإشادة ، فقد عمل فؤاد دوارة " 1928-1996" بهمة ومحبة وحماسة، رجع إلى الصحف والمجلات التي نُشر فيها الأستاذ يحيى أعماله على مدى خمسين عاماً كاملة " نشر قصته الأولى في 1926م وسيرته الذاتية " أشجان عضو منتسب " في 1974" ثم قام بتصنيفها تصنيفاً " موضوعياً" قدر الإمكان : إبداعه الخالص في القصة والرواية في سبعة مجلدات ، و" الكتابات النقدية" – وينصرف معظمها إلى نقد الأدب ، تنظيرياً وتطبيقاً ، بالإضافة لمجموعات تتناول موضوعات محددة: المسرح أو السينما أو الموسيقى أو العمارة أو الفن الشعبي- في أثني عشر مجلداً ، وأخيراً " المقالات الأدبية" . وهي تلك الكتابات التي ينطلق فيها الكاتب حراً يحدث قارئه عما راى وشهد وقرأ وعرف من أحداث وناس وافكار في تسعة مجلدات على هذا النحو استطاع أن يستخلص" كل" يحيى حقي، ويضعه أمام القارئين والدارسين ، ولعله لولا هذا الجهد – الذي يندر مثيله – لبقيت أعمال الرائد العظيم – كما كانت – ضائعة ، مثل حّبات الجوهر بين الكثير الزائف.