فبراير 26, 2024 - 17:09
البنية التحتية في بناء طريق الحرير الرقمي للصين.. صراع جديد في حرب الكابلات البحرية تحت المحيطات والبحار بين واشنطن وبكين

أروى حنيش


بينما كانت أمريكا منشغلة بفرض عقوبات على شركات التكنولوجيا الصينية، كانت الصين تعمل بصمت من أجل بناء طريق حريرها الرقمي، من خلال زيادة عدد كابلات الإنترنت البحرية التي تمتلكها وتشغلها، منافسة بذلك الهيمنة الأمريكية على البنية التحتية للإنترنت، في أعقاب الأزمة بين أمريكا وشركتي التكنولوجيا الصينيتين "هواوي" و"زد تي إي"، وما نتج عنهما من حرب جمركية وتجارية شرسة بين الصين وأمريكا خلال فترة ترمب. توسع الصراع بين البلدين ووصل إلى ساحة معارك جديدة لا علاقة لها بالبنادق والبارود، بل هي حرب كابلات الإنترنت التي تستعر حالياً تحت مياه المحيطات والبحار. فما طبيعة هذا الصراع التقني وما هي مآلاته وتداعياته، في ظل التصعيد الأمريكي في بحر الصين الجنوبي، ومنطقة شرق آسيا؟ 
 
 فرض عقوبات على شركات صينية 

في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأمريكية تفرض عقوبات على الشركات الصينية وتحظر استخدام أجهزتها في شبكات الجيل الخامس الأمريكية، فضلاً عن محاربتها التطبيقات الصينية وعلى رأسها تطبيق "تيك توك" الأكثر شهرة وشعبية بين الشباب، كانت شركة هواوي وشركات صينية أخرى تستعدّان في الخفاء من أجل اقتحام مجال البنية الرقمية من خلال مد وتشغيل كابلات الإنترنت التي تربط الصين ببقية دول العالم.
وبينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها على البنية التحتية للإنترنت عالمياً، تسارع الصين الخطى من أجل منافسة الهيمنة الأمريكية في هذا المجال، وتسعى جاهدة لزيادة عدد كابلات الإنترنت الخاصة بها، بسبب الأهمية الاستراتيجية الكبيرة  للكابلات البحرية في عصر الرقمنة. وفي هذا الصدد، وحسب "بلومبرغ" التي نقلت عن معهد "دراسات السلام والصراع" ومركز "ليدن آسيا" بهولندا، فإنه اعتباراً من عام 2019 أصبحت الصين نقطة هبوط أو مالكاً أو مورداً لـ11.4% من الكابلات البحرية حول العالم، ويتوقع أن تنمو هذه النسبة إلى 20% بين عامي 2025 و2030.
وقالت وكالة رويترز إن شركات الاتصالات الصينية المملوكة للدولة تطور شبكة كابلات إنترنت من الألياف الضوئية تحت البحر بقيمة 500 مليون دولار ستربط آسيا والشرق الأوسط وأوروبا لمنافسة مشروع مماثل تدعمه الولايات المتحدة.
وتعد هذه الخطة علامة على اشتداد الحرب التكنولوجية بين بكين وواشنطن تخاطر بتعطيل عمل الإنترنت.
وذكرت أربعة مصادر مطلعة، اطلاعًا مباشرًا على الخطة لوكالة رويترز أن شركات الاتصالات الرئيسة الثلاث في الصين، وهي "تشاينا تيليكوم" و"تشاينا موبايل ليميتد" و"تشاينا يونيكوم"، تعكف على تنفيذ واحدة من أكثر شبكات الكابلات البحرية تقدما والبعيدة المدى في العالم. وأضافت المصادر، التي طلبت عدم كشف هويتها، أن الكابل المقترح والمعروف باسم إي.إم.إيه (أوروبا والشرق الأوسط وآسيا) سيربط هونغ كونغ بإقليم جزيرة هاينان الصينية قبل أن يتجه إلى سنغافورة وباكستان والسعودية ومصر وفرنسا.
وأردفت المصادر قائلة:" إن الكابل، الذي سيتكلف نحو 500 مليون دولار حتى يكتمل، ستصنعه وتمده في قاع البحر شركة إتش.إم.إن تكنولوجيز الصينية المحدودة، وهي شركة كابلات سريعة النمو.
ولم ترد شركات تشاينا موبايل أو تشاينا تيليكوم أو تشاينا يونيكوم أو إتش.إم.إن تكنولوجيز أو هنغ تونغ على طلبات للتعليق، أرسلتها رويترز.

وقالت وزارة الخارجية الصينية في بيان للوكالة إنها "تشجع الشركات الصينية دائما على القيام باستثمارات أجنبية و"فتح سبل تعاون" بدون أن تعلق مباشرة على مشروع الكابل.
وتأتي الأنباء عن هذا المشروع المزمع في أعقاب تقرير نشرته رويترز الشهر الماضي، وكشف عن كيفية نجاح الحكومة الأمريكية، التي تشعر بالقلق إزاء تنصت بكين على بيانات الإنترنت، في إحباط عدد من مشروعات الكابلات البحرية الصينية في الخارج على مدى السنوات الأربع الماضية.
وأوقفت واشنطن أيضا تراخيص مشروعات خاصة لإنشاء كابلات بحرية كان من المقرر أن تربط الولايات المتحدة بهونغ كونغ، ومن بينها مشروعات تقودها شركات غوغل وميتا بلاتفورمز وأمازون.

ويهدف  مشروع (إي.إم.إيه) الذي تقوده الصين إلى منافسة مشروع كابلات آخر تنفذه حاليًا شركة سابكوم الأمريكية وسيربط أيضًا سنغافورة بفرنسا عبر باكستان والسعودية ومصر وست دول أخرى. ويطلق عليه اسم (سي.مي.وي-6) أي (جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وغرب أوروبا-6).
ورفضت شركة سابكوم التعليق على مشروع الكابل المنافس. كما امتنعت وزارة العدل، التي تشرف على فريق عمل مشترك بين الوكالات لحماية شبكات الاتصالات الأمريكية من التجسس والهجمات الإلكترونية، عن التعقيب على المشروع.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن الولايات المتحدة تدعم أن يكون الإنترنت مجانًا ومفتوحًا وآمنًا، وأن على الدول أن تعطي الأولوية للأمن والخصوصية من خلال "الاستبعاد الكامل للشركات غير الموثوق بها" من الشبكات اللاسلكية والكابلات الأرضية والبحرية والأقمار الصناعية والخدمات السحابية ومراكز البيانات، لكنه لم يذكر إتش.إم.إن تكنولوجيز أو الصين.
ولم ترد وزارة الخارجية على أسئلة عما إذا كانت ستشن حملة لإقناع شركات الاتصالات الأجنبية بعدم المشاركة في مشروع (إي.إم.إيه).
وقالت وزارة الخارجية الصينية في بيانها إنها تعارض ما وصفته "انتهاك الولايات المتحدة للقواعد الدولية الراسخة" بشأن التعاون في مجال الكابلات البحرية. وذكرت في البيان "على الولايات المتحدة أن تكف عن اختلاق الشائعات ونشرها حول ما يسمى "بأنشطة مراقبة البيانات" وأن تكف عن التشهير بالشركات الصينية وتشويه سمعتها".


تجارة الكابلات البحرية 

تجارة الكابلات البحرية
يقول موقع أسباب للشؤون الجيوسياسية٬ إن الكابلات البحرية هي المسؤولة عن شكل عالمنا اليوم، لكن نقاط ضعفها تكمن في تصميمها:
1- تُعد الكابلات نحيفةً لدرجة مدهشة وبسُمكٍ يساوي خرطوم الماء في الحديقة. 
2- تأتي بمجموعة متنوعة من التصاميم والمكونات والمواد. 
3- أبسط تشريح لها يتألف من طبقة خارجية من لدائن البولي بروبيلين البلاستيكية من أجل العزل. 
4- تليها أسلاك حديدية مضفرة تؤدي دور الدرع الواقي. 
5- تأتي طبقة البلاستيك متعدد الإيثيلين للعزل المائي. 
6- تليها المزيد من الأسلاك الحديدية والبلاستيك متعدد الإيثيلين. 
7- في منتصف الكابل تقريباً يوجد أنبوب من النحاس أو الألومنيوم لحماية الكابل من التلف والتآكل. 
8- يليه شريط يلتف حول الكابل بالكامل لمنع الماء.
9- في النهاية، نصل إلى الطبقة الأعمق التي تحوي الألياف البصرية التي تشبه الشعيرات. 
10- يفصل بين تلك الشعيرات ويُثبّتها جوهر من لدائن الزجاج الليفي. 

وتُطلق الألياف البصرية إشارات الليزر نحو مُستقبلات على الطرف الآخر، لكن تلك الإشارات تتداخل عندما تسافر لمسافات طويلة، ولهذا يجري وضع جهاز مُكرِّر كل 60 أو 70 كلم لتعزيز الإشارة، ويزعم بعض الخبراء أن أجهزة المُكرر قد يجري تعديلها لأغراض المراقبة أثناء عملية التصنيع أو الصيانة، بينما يزعم آخرون بأنه من السهل مراقبة الكابلات في محطات الهبوط الساحلية، ما يمثل بدوره منجم ذهب لوكالات الاستخبارات.
وتُعَدُّ تجارة الكابلات مجالاً شديد التخصص، ولا يتوافر الخبراء أحياناً لدرجة تُجبر الحكومات على اللجوء إلى منافسيها لإصلاح بنيتها التحتية، وينطبق هذا الأمر على القوى المتوسطة والقوى الجيوسياسية العملاقة معاً، حيث عمل المهندسون الصينيون على كابلات مملوكة لشركات أمريكية، والعكس صحيح ما يعني وجود خطر عند الاستعانة بمصادرٍ خارجية للصيانة دائماً، إذ من الممكن تركيب أجهزة لالتقاط البيانات أو إفسادها، ما سيحول الكابل إلى عبءٍ على صاحبه، وهذا يجعل كل كابل جديد بمثابة مناورة جيوسياسية، وهكذا تنتقل البيانات حول العالم، ولهذا تستحق الكابلات البحرية القتال من أجلها.

صراع أمريكي-صيني تحت الماء

في الوقت الحالي تنقل 400 كابل إنترنت نحو 98% من بيانات الإنترنت الدولية وحركة الهاتف حول العالم (Others)
في الوقت الحالي تنقل 400 كابل إنترنت نحو 98% من بيانات الإنترنت الدولية وحركة الهاتف حول العالم، تمتلك الشركات الأمريكية العديد منها وتشغلها، الأمر الذي يساعد على تعزيز هيمنة الولايات المتحدة على الإنترنت مع إعطاء الولايات المتحدة وحلفائها الذين قد يكونون قلقين بشأن التخريب أو المراقبة إحساساً بالأمان، تزامناً مع التحركات الصينية السريعة لبناء طريق حرير رقمي على غرار طريقها اللوجستي.
ومنذ العام الماضي تُبدي الولايات المتحدة تخوُّفها من التهديدات التي قد تشكّلها البنية التحتية الرقمية للصين، فيما طالب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو المجتمع الدولي بالتكاتف لضمان عدم تخريب الصين التي تسعى لجمع المعلومات الاستخبارية على نطاق واسع، الكابلات البحرية التي تربط بلادهم بالإنترنت العالمي.
ولاعتبارات أمنية واستخبارية، وبناءً على توصيات اللجنة الحكومية المعروفة باسم "تيم تيليكوم"، غُيّر مسار جزء من كابل بحري بطول 8000 ميل من لوس أنجلوس إلى هونغ كونغ، وبتمويل جزئي من شركتَي "غوغل" و"فيسبوك"، بعد أن رفض مسؤولو الأمن القومي الأمريكيون أن تكون نقطة هبوط الكابل بمنطقة خاضعة للسيطرة الصينية، خوفاً من سرقة الصين للبيانات الرقمية.
ولنفس الأسباب منعت أستراليا عام 2018 حكومة جزر سليمان من إتمام الصفقة التي وقعتها مع شركة "هواوي" الصينية عام 2016 لمد كابل بحري بطول 2500 ميل كان من شأنه أن يربط جزر سليمان وبابوا غينيا الجديدة وسيدني عبر مجموعة من دول جزر المحيط الهادئ.
وأثار هذا الأمر قلق كانبرا بسبب تسريبات إدوارد سنودن عام 2013، حيث كشفت أن المعدات الأمريكية الشبيهة بمعدات هواوي تم تعديلها لتُرسل بيانات المراقبة إلى وكالة الأمن القومي الأمريكية.
لذا شعرت وكالات الاستخبارات الغربية بالقلق من أن بكين قد تفعل الشيء نفسه، وبعد فترةٍ وجيزة من اجتماع وارنر، تمت الإطاحة بسوغافارا في تصويت لسحب الثقة بسبب مزاعم الفساد والرشوة، ثم سعى إلى توطيد علاقاته الأمنية ببكين بعد عودته إلى رئاسة الوزراء في عام 2019، لكن بديله ومسؤول البنك الدولي السابق "ريك هاو" كان قد ألغى التعاقد مع هواوي بالفعل، ما سمح لأستراليا بالتدخل والسيطرة على المشروع.

شركة هواوي البحرية الصينية

يقول موقع أسباب إنه بحلول عام 2015، دشنت الصين طريق الحرير الرقمي لتوسيع شبكتها بالتعاون مع شركة هواوي البحرية. حيث تستحوذ على 15% من السوق العالمي خلال 4 سنوات فقط. كانت هذه هي صيحة الاستفاقة بالنسبة لأمريكا بدأت إدارة ترامب في تصعيد خطابها ضد بكين، ويُمكن القول إن الكابلات البحرية تُلغي الفوارق بين القطاعين العام والخاص بطبيعتها. وهذا يجعل الصناعة مستهدفةً لأغراض الأمن القومي وحماية الاقتصاد معاً.
ولم تكتفِ واشنطن بتشديد قبضتها على شبكة الكابلات، بل استهدفت كذلك ضمان هيمنة الشركات الأمريكية على السوق، لأن مشغلي الكابلات يمكنهم تحصيل رسوم على مرور البيانات بمجرد تثبيت أقدامهم، وذلك ببيع النطاق الترددي أو تأجير السعة لشركات التقنية، ومقدمي خدمات الإنترنت، وغيرهم وبصفقات تمتد لعقود عادةً.
كما تستطيع الكابلات الواصلة بالدول النامية فتح أسواقٍ جديدة، حيث تزيد مدى وصول شركات التقنية الأمريكية العملاقة مع تعزيز قدرات المراقبة الخاصة بالدولة الأمريكية، ولهذا السبب تنسق الحكومة والشركات تحركاتهما، وتتكفّل الحكومة عادةً بتكاليف بدء التشغيل المرتفعة لضمان حصول الشركات الأمريكية على عقود الكابلات، بدلاً من منافسيهم.


كابل السلام الصيني


كابل السلام الصيني
حسب التقرير الذي نشره موقع "بلومبرغ الأمريكي" في شهر مارس/آذار الماضي، سيصل قبل نهاية العام الجاري كابل الإنترنت الصيني القادم من الصين باتجاه منطقة بالقرب من ميناء مرسيليا الفرنسي.
وسيسافر الكابل المعروف باسم "كابل السلام" من الصين إلى باكستان براً، ثم يمتد تحت الماء على طول نحو 7500 ميل من قاع المحيط مروراً بالقرن الإفريقي قبل أن ينتهي في فرنسا. وسيكون الكابل قادراً على نقل بيانات كبيرة بسرعة هائلة جداً (ما يعادل 90 ألف ساعة من فيديوهات نتفليكس في الثانية الواحدة)، وسيعمل إلى حد كبير على تسريع الخدمة للشركات الصينية التي تعمل في أوروبا وإفريقيا.

يُذكر أن مشروع الكابل يمثّل منطقة صراع جديدة مع أمريكا ضمن صراع البنية الرقمية الدائرة بين البلدين، خصوصاً أن شركة "هواوي" ثالث أكبر مساهم في شركة "Hengtong Optic-Electric"، التي تصنع الكابل. كما تصنّع "هواوي" معدات محطات هبوط "كابل السلام" ومعدات النقل تحت الماء.
وبسبب الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على مصنّعي معدات الاتصالات السلكية واللا سلكية الصينيين، وعلى رأسهم شركة "هواوي" لأسباب تتعلق بالأمن القومي، أعلنت "غوغل" و"فيسبوك" أنهما لن تستخدما "كابل السلام" الصيني لأن لديهما سعة كافية بالفعل في الكابلات التي تستخدمانها لتزويد خدماتهما لأوروبا وإفريقيا.