
انس القباطي
اثار اعلان ثلاث دول في الساحل الافريقي الغربي عن كونفدرالية جديدة العديد من التساؤلات المتعلقة بمستقبل النفوذ الفرنسي في القارة السمراء، ومستقبل الدول الثلاث الحبيسة، بعد انعزالها عن محيطها الجغرافي المرتبط بمنظمة ايكواس الموالية لفرنسا، وحجم التحديات التي ستواجهها الكونفدرالية الوليدة، وإلى أين تسير دول الساحل في ظل حالة من عدم الاستقرار، التي تشهدها دول اخرى مجاورة للكونفدرالية الوليدة.
ميلاد كونفدرالية الساحل
والسبت 6 يوليو/تموز 2024 اعلنت النيجر ومالي وبوركينا فاسو، إنشاء اتحاد كونفدرالي بينها، اطلق عليه مسمى "كونفدرالية دول الساحل". والدول الثلاث تحكمها مجالس عسكرية، منذ الانقلابات التي شهدتها خلال السنوات الثلاث الماضية، وهذه الانقلابات خلقت حالة من القطيعة مع فرنسا، بمقابل حالة تقارب مع روسيا.
تاكيد القطيعة
يمثل الاتحاد الكونفدرالي بين الدول الثلاث تأكيد لحالة القطيعة ليس مع فرنسا وحسب، وانما مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" والتي تعد بمثابة اليد الطولى للنفوذ الفرنسي التاريخي في الساحل الغربي لافريقيا، وهو ما سيضع تحديات كبرى امام الاتحاد الكونفدرالي المعزول عن النفوذ الفرنسي، خاصة في ظل الاوضاع الاقتصادية المتخلفة لدول الاتحاد الوليد.
قطع الصلة مع ايكواس
تعد الخطوة الاخيرة والتي تمثلت باعلان الاتحاد الكونفدرالي رسميا بين الدول الثلاث، امتدادا لخطوات سابقة هدفت إلى قطع الصلة مع مجموعة ايكواس، والتي بدات باعلان الانقلابات في الدول الثلاث ضد الانظمة الموالية لفرنسا، والتي تبعها في سبتمبر/أيلول 2023، توقيع قادة المجالس العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو اتفاق للدفاع المشترك أطلق عليه مسمى "اتفاق ليبتاكو - غورما"، تلاها في يناير/كانون ثان 2024 أعلان قادة المجالس العسكرية للدول الثلاث انسحاب بلدانهم الفوري من مجموعة "ايكواس" بمبرر ابتعادها عن قيم واهداف المجموعة والوحدة الإفريقية.
عقوبات ايكواس
وكانت مجموعة ايكواس قد جمدت عضوية الدول الثلاث للضغط على المجالس العسكرية للقبول بعودة الانظمة السابقة، كونها منتخبة، عوضا عن العقوبات الاقتصادية، والتلويح بالتدخل العسكري لاعادة الديمقراطية إلى البلدان الثلاث، غير ان المجالس العسكرية سارت في الطريق الذي رسمته بعيدا عن النفوذ الفرنسي، وباعلان الاتحاد الكونفدرالي مؤخرا، يتضح ان المجالس العسكرية الثلاثة هي حركات تحرر، تسير وفق خطط مشتركة، وربما وفق استراتيجية رسمت مسبقا لخلق حالة جيوسياسية في الساحل الافريقي الغربي لزعزعة النفوذ الفرنسي التاريخي.
دول حبيسة
وإذا ما نظرنا إلى جغرافية الدول الثلاث سنجد انها دول حبيسة، وتعتمد في تجارتها الخارجية على موانئ الدول المجاورة، وابرزها نيجيريا العملاق الاقتصادي في الساحل الغربي، وعراب مجموعة ايكواس، وتوجو وبنين وساحل العاج، وبالتالي فإن اعلان الكونفدرالية الوليدة البعيدة عن ايكواس، يعني فرض العزلة الجغرافية على الدول الثلاث، كون اغلب التبادلات الاقتصادية بين دول المجموعة تتم عبر بروتوكولات ايكواس، وهو ما يمثل تحديا لا يستهان به امام الدول الثلاث، كون العزلة الاقتصادية التي ستفرضها ايكواس ستضع امكانية بقاء المجالس العسكرية في الحكم على المحك، لان مزيد من التدهور الاقتصادي سيعمل على تراجع الحاضنة الشعبية للمجالس العسكرية، ما سيساهم في ايجاد حواضن للتنظيمات الارهابية المنتشرة في الدول الثلاث، والتي تعد ابرز تحد امني للمجالس العسكرية الثلاثة.
خيار وحيد
امام دول الكونفدرالية الثلاثية خيار وحيد لكسر العزلة الجغرافية التي صارت مفروضة عليها من دول الجوار، وعدم تمكينها من الوصول إلى سواحلها، وهذا الخيار هو الوصول إلى الساحل الافريقي الشمالي عن طريق الجزائر، والتي تعد دولة جوار جغرافي بحدود طويلة مع كل من مالي والنيجر، رغم المسافة الطويلة التي تعني عبور الاراضي الجزائرية من الجنوب إلى الشمال، وهو ما يعني تغيير تفاعلات سكان الدول الثلاث من المحيط المجاور في الشرق والغرب والجنوب إلى الشمال
الطريق السيار
لدى الجزائر طريق تعرف باسم الطريق السيار او الطريق العابرة للصحراء، والتي هدفت من انشائها لربط دول الصحراء والساحل الغربي بالساحل الشمالي لافريقيا، ويبلغ طول هذا الطريق قرابة 10 ألف كم، يمر جزء منها عبر الأراضي التونسية ثم الجزائرية مرة اخرى، ومنها إلى لاغوس النيجيرية، وصولا إلى مالي والنيجر، وبلغت كلفتها نحو 6 مليارات دولار أمريكي، وانجز من هذا الطريق قرابة 90٪، طبقا لما اعلنته وزارة الأشغال العمومية الجزائرية في العام 2022، غير ان عبور هذه الطريق الاستراتيجية عبر لاغوس النيجيرية سيمثل عائق للدول الثلاث ما يقتضي اعادة النظر في مسار الطريق عبر الصحراء الواقعة شمال النيجر ومالي وجنوب الجزائر، في حال رفضت نيجيريا السماح للدول الثلاث استخدم جزء الطريق العابر لاراضيها في لاغوس.
صمت ايكواس
لم تعلن بعد مجموعة ايكواس اي ردة فعل على اعلان الكونفدرالية الثلاثية رغم مرور اكثر من اسبوعين من اعلان الاتحاد الوليد، مكتفية بالعقوبات الاقتصادية التي فرضت سابقا على كل دولة على حدة، غير ان ورقة العزلة الجغرافية والاقتصادية قابلة للاستخدام في اي وقت من المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا، ويبدو ان الحرب الاقتصادية ستندلع مستقبلا في محاولة لتركيع المجالس العسكرية الثلاثة، بعد أن اصبح خيار الورقة العسكرية معلقا لدواعي مختلفة، فرضتها التوترات الجيوسياسية في المنطقة والعالم بشكل عام.
التجارة الخارجية
دول الكونفدرالية الثلاثية بحاجة ماسة للتجارة الخارجية، كونها تمثل نسبة كبيرة من اقتصاديات البلدان الثلاث، فالتجارة الخارحية في النيجر تمثل 35% من الناتج الداخلي الخام للنيجر، و69٪ لمالي، و59٪ لبوركينا فاسو. وقد بلغ إجمالي الصادرات النيجرية في العام 2022 نحو 3.24 مليار دولار، وشملت الذهب بـ2.35 مليار دولار، والمواد الكيميائية المشعة بـ150 مليون دولار، والنفط المكرر بـ139 مليون دولار، فيما بلغت واردات البلاد نحو 3.77 مليار دولار، وشملت المواد الغذائية والأسلحة والسيارات والطائرات. فيما بلغ حجم مبادلات مالي في نفس العام نحو 7.76 مليار دولار، يمثل الذهب أكثر من مليارَي دولار من الصادرات المالية، إلى جانب القطن بـ258 مليون دولار وجلود الحيوانات، وتستورد الزيوت البترولية والإسمنت والآلات. اما في بوركينا فاسو بلغ مجموع المبادلات في نفس العام نحو 12.25 مليار دولار، حيث يأتي الذهب على رأس الصادرات بـ6.74 مليار دولار، اما الواردات الرئيسية فيأتي النفط المكرر بـ1.19 مليار دولار، والكهرباء بـ166 مليون دولار، والأدوية المعلبة بـ164 مليون دولار.
اضرار مباشرة
ومن ذلك يتضح ان الدول الثلاث بحاجة ماسة لاستخدام موانئ الدول الساحلية المجاورة، ما يعني ان فرض دول الجوار الجغرافي رسوم جمركية عالية، او منع استخدام اراضيها سيؤدي إلى أضرار مباشرة ستلحق باقتصاديات الكونفدرالية الثلاثية، غير ان ما يمكن ان تراهن عليه الدول الثلاث هو حاجة دول الجوار الجغرافي للرسوم التي تجبى من التجارة الخارجية للثلاث الدول، وهي مبالغ كبيرة لا يمكنها الاستغناء عنها، ولذلك يظل الخيار الارجح هو زيادة التعرفات الجمركية والرسوم الاخرى، بما يؤدي لاستفادة دول الجوار الجغرافي، وتضرر الدول الثلاث.
تموضع جيوسياسي
ومع كل ذلك يظل خيار توجه الكونفدرالية الثلاثية شمالا نحو الجزائر واردا بقوة، كون ذلك سيحررها من بعض ضغوط دول الجوار الجغرافي كونها خصوم سياسية، وفي الوقت ذاته تعد حالة الانفتاح مع الجزائر خيار سياسي، نظرا لتقارب الخط السياسي بينها وبين الدول الثلاث، فجميعها تقع خارج النفوذ الفرنسي، واقرب لروسيا، وبالتالي لابد من ايجاد صيغة جديدة تلائم التموضع الجيوسياسي الحالي.
رهان مستقبلي
ويبدو ان الكونفدرالية الثلاثية تراهن على حالة عدم الاستقرار في عدد من دول الجوار الجغرافي ومنطقة الساحل الغربي الافريقي، فضلا عن تنامي حالة التذمر الشعبي من الوجود الفرنسي، خاصة في السنغال التي فاز بالانتخابات فيها الرئيس باسيرو ديو ماي فاي، الذي يبدو بعيدا عن الاجندة الفرنسية، وغينيا التي شهدت انقلابا على النظام الموالي لفرنسا. ويعتقد مراقبون ان السنغال هي اقرب الدول التي من المحتمل انضمامها للكونفدرالية الوليدة، غير ان المانع هو طبيعة الانظمة العسكرية في الدول الثلاث، مقارنة بنظامها الديمقراطي.
الرهان على السنغال وغينيا
ونظرا للتقارب بين النظام الجديد في السنغال والدول الثلاث، فربما تراهن هذه الدول على استخدام موانئها في حال فرضت عليها عقوبات وعزلة من دول الجوار الجغرافي، نظرا لان السنغال تعد دولة جوار جغرافي لمالي من اتجاه الغرب، وبالتالي ستمر عبر الاراضي المالية واردات وصادرات كل من بوركينا فاسو والنيجر، وقد تستخدم الدول الثلاث موانئ غينيا المجاورة لمالي من الحنوب الغربي، فهي احدى دول الساحل الغربي التي شهدت انقلابا ضد النظام الموالي لفرنسا.
الانتقال الديمقراطي
في حال نجحت الدول الثلاث في الانتقال إلى الديمقراطية، فإن ذلك يعني انهاء الحالة السياسية التي فرضت بسببها العقوبات الاقتصادية والعزلة الجغرافية عليها، وهو ما سيتيح لها تجاوز كثير من التحديات، والتي من أبرزها رفع حالة تجميد العضوية في مجموعة ايكواس.
تهديد للنفوذ الفرنسي
ومما سبق يمكن القول ان الكونفدرالية الثلاثية الوليدة رغم حجم التحديات التي تواجهها تعد حالة جيوسياسية تهدد النفوذ الفرنسي في الصحراء والساحل الغربي لافريقيا، وتؤسس لتكتل اقتصادي، وسياسي بديل لمجموعة الايكواس المرتبطة بفرنسا، وبالتالي فإن حصول اي تغير للنظام السياسي في نيجيريا الموالي لفرنسا، يعني تفسخ ايكواس، ليضخ للكونفدرالية الجديدة روحا جديدة بتوسيع عضويتها بدول اخرى، كون نيجيريا هي عراب ايكواس والعملاق الاقتصادي في الساحل الغربي.
نفوذ الجزائر
وعليه فإن نجاح الكونفدرالية الثلاثية في الساحل الغربي، سيعطي للجزائر نفوذا أوسع في القارة الافريقية، على اعتبار ان الدول الثلاث ومن سينضم إليها مستقبلا ستكون اقرب للخط السياسي الذي تنتهجه الجزائر، التي حددت موقفها باتجاه المعسكر الروسي.