مايو 21, 2024 - 19:04
المحتل الصهيوني.. فشل مخططاته وانهيار منظومته


توفيق سلاّم

كثيرًا ما زيّنت أمريكا تاريخ مذابحها البائس، بالكذب والتضليل وتحت عناوين مختلفة لمحارقها التي دمّرت دولاً وشعوبًا. خدعوا العالم، فاغتصبوا باسم الديمقراطية الدول ليمارسوا السلب والنهب والتجسس، ليأمنوا أمريكا، ولم يقبلوا بأي عدوان خارجي عليها، وانطلقوا إلى خارج جغرافيتهم،  بمغامراتهم الدموية، من الداخل بإبادة السكان الأصليين، ومن ثم حروبهم ضد المستعمرين الأوروبيين، وضد الأسبان والمكسيك التي اقتطعوا الكثير من أراضيها، ومن حروب فيتنام إلى زمن بوش الأب فالابن إلى زمن الإفريقي المهجّن باراك أوباما وصولاً إلى ترامب وبايدن.

اليوم محرقة نتنياهو في غزة، وما تهاوى واستبيح فيها من قيم وأرواح إنسانية، عرّت الوجه الحقيقي لأمريكا، وهمجية الحرب بغزة، ليست إلاّ مشهدًا بسيطًا وصغيرًا من تاريخ دموي أعظم، عنوانه أنّ أمريكا هي جنون الدم الذي أغرق العالم في مستنقعات الدمار والخراب.

موجات استعمارية 

وإذا ما عدنا إلى التاريخ، فإن انطلاق طلائع الاكتشافات الجغرافية والاجتياح الأوروبي الإمبريالي للعالم، قبل خمسة قرون، حينها شهدت البشرية ظاهرة الاستيطان الكولونيالي الإحلالي التي تعني: احتلال أرض الغير، واستبدال شعب بشعب، واستبدال ثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ، وكل عنصر من هذه العناصر إبادة قائمة بذاتها. وكان ذلك أحد معالم خروج أوروبا إلى العالم باعتباره مجالاً مفتوحًا للتمدد والهيمنة والاستيطان والإبادة برؤية كونية ومعرفية إمبريالية تفترس العالم، وتنزع القداسة عن الإنسان والطبيعة، وتختزل العالم فتلغي الخصوصيات والثقافات والحضارات الأخرى، وتؤسس ثقافتها لتبلغ ذروتها في مفاهيم العنصرية، وتفوق العرق الأبيض والداروينية الاجتماعية والعلمانية، والاستغلال في علاقة الإنسان والطبيعة.

 استيطان الرجل الأبيض

اتخذ الصعود الأوروبي من الكشوفات الجغرافية، ومبدأ الحرب غير العادلة، وعبء الرجل الأبيض على الشعوب، متكأً لشرعنة غزوه واحتلاله، قارات العالم وإبادة سكانها، وإقامة كيانات استيطانية أوروبية فيما وراء البحار. وتقاسمت الإمبرياليات قارات العالم، وتم شحن عشرات الملايين من الأفارقة المختطفين من غرب أفريقيا واستعبادهم بمزارع التبغ والقطن وقصب السكر في الجنوب الأمريكي وجزر البحر الكاريبي، ومثلهم من الهند وجزر الهند الشرقية إلى جنوب أفريقيا وإقليم الأنديز بأمريكا الجنوبية وتسخير الملايين من سكان أمريكا الوسطى والجنوبية الأصليين، حتى الموت، بمناجم الذهب والفضة وسرقة كنوز ممالك الآزتيك والمايا، وشحن كل هذه الثروات إلى الحواضر الأوروبية.

في المرحلة الإمبريالية (التجارية)، تراكمت لدى الأوروبيين ثروات هائلة نتج عنها ثورة صناعية، ومنظومة رأسمالية تستبطن الصراع والنفي في الحداثة الأوروبية، وما انطوت عليه من شره واحتكار وتغول واستغلال وظلم اجتماعي وأزمات مزمنة. وقامت بموازاتها منظومة سياسية وتشريعية ودستورية لاستدامة وخدمة المشروع الإمبريالي الرأسمالي، بما في ذلك الديمقراطية "التمثيلية" في الداخل ودبلوماسية البوارج الحربية في الخارج. وبهكذا اكتمل ركائز المشروع الإمبريالي الغربي والرأسمالية والفاشية.

مشاريع الاستيطان 

قامت مشاويع استيطانية كبرى في القرون الماضية في الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا. وارتبط نجاحها وتضخمها بالقضاء على جماعات السكان الأصليين، بالحصار والتهجير، والاستغلال والإبادة والمسخ الثقافي. وقد تشكّل النظام العالمي في القرون الخمسة الماضية حول مشروعات الاستعمار والاستيطان واحتكار الأسواق والموارد الطبيعية واجتياح العالم ونهبه واستباحته حتى وقتنا الحاضر .
المفارقة اليوم أن هذه المشروعات الاستيطانية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، بالإضافة لبريطانيا تمثل القوى الكبرى في العالم، وتشكل معًا ما يسمى الدائرة الأنجلوسكسونية، وتجمعها منظومة أمنية وسياسية ودبلوماسية وثيقة وتحالفات عسكرية، ولا تقل أهمية هذه الكتلة كنواة للنظام العالمي الراهن، عن أهمية حلف معاهدة شمال الأطلسي، وترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إن لم تتجاوزها.
ولا تزال البشرية ترزح تحت وطأة نظام دولي استيطاني إمبريالي رأسمالي غربي، وتتطلع إلى الانعتاق منه بنظام دولي يقوم على العدالة والتكافؤ والسلم، خاصة وأن صحوة الجنوب العالمي والتأزم الراهن يطال النظام الدولي الخاضع لهيمنة قوى الاستيطان العالمي، ويظهر تآكل قوتها وانهيار منظومتها الأخلاقية ووقوعها بمأزق العنف العدمي وأهم تعبيراته حروب بلا نهاية، وتأليه العدم وحروب الإبادة.

محرقة نتنياهو

محرقة نتنياهو في غزة، وما تهاوى واستبيح فيها من قيم وأرواح إنسانية، عرّت الوجه الحقيقي لأمريكا. لم يتردّد الجنرال “مارك ميلي" في التصريح بقوله: "قبل أن نتبرأ جميعًا بشأن ما تفعله "إسرائيل"، وأنا أشعر بالفزع تجاه موت الأبرياء في غزة، ينبغي لنا أن ننسى أننا نحن الولايات المتحدة قتلنا الكثير من الأبرياء في الموصل (العراق)، وفي الرقة (سوريا)، ويواصل قائلاً: "بخلاف هيروشيما وناجازاكي.. فعلى مرّ التاريخ، ذبحنا بشرًا بأعداد هائلة، أناس أبرياء لا علاقة لهم بحكومتهم، رجال ونساء وأطفال". تاريخ مرعب لمؤامرة كونية، لا زالت تداعياتها هي الحاكم الفعلي لمصير العالم، طيلة ألفية كاملة، من بنما إلى البوسنة والهرسك، إلى حرب العراق وأفغانستان ثم سوريا وليبيا واليمن. 
كان "مارك ميلي"، اليد الحديدية الضاربة التي نفّذت الأجندات السياسية الأمريكية في شتى أصقاع العالم، لذلك فإنّ مسيرته التي انتهت لمحطة قائد أركان لأعتى قوة تدميرية على سطح المعمورة، جعلت منه شاهدًا على قرن "المذبحة" الأمريكية بكل بشاعتها ووحشيتها ودمارها وزيفها الذي كان.
تلك الشهادة وضعت النقاط فوق حروف التاريخ الأمريكي البشع، تتجاوز أي شهادة أخرى، لأنّ الشاهد على "محرقة العالم" بكل تاريخها الدموي الأسود هذه المرة، ليس بقايا رفات لا زالت تستصرخ حقيقة موتها، ولكنه الجلاد ذاته الذي استفزته مناظر الأشلاء في أنقاض غزة، ليستحضر جرائمه القديمة، ويصارح العالم من منبر تظاهرة الذكاء الاصطناعي، ولعبة التكنولوجيا القادمة، بحقيقة أنّ أمريكا هي "الدولة النازية"، وأنّ ما اقترفه البيت الأبيض في إنسان العراق وسوريا وأفغانستان وليبيا واليمن، تحت مسميات تصدير الحرية والديمقراطية ومطاردة الإرهاب، ليس إلا فيض من "غيض" من ما اقترفته وتقترفه "إسرائيل" اليوم بغزة.
وما يحدث اليوم من "همجية" بغزة ورفح، فليس إلا مشهدًا بسيطًا وصغيرًا من تاريخ دموي أعظم، عنوانه، أنّ أمريكا هي جنون الدم الذي أغرق العالم في مستنقعات الدمار والخراب.

ابتلاع فلسطين 

اليمين الفاشي الإسرائيلي بجناحيه الديني والسياسي المتطرف، بدأ الصعود منذ سبعينيات القرن الماضي، ورموزه آتون من العصابات الصهيونية الإرهابية ( إسحاق رابين، شامير، نتن ياهو، وافيغدورليبرمان). فنتنياهو الأب الروحي لليمين المتطرف" الديني، والعلماني"، ونتنياهو يعتبر نفسه الوارث والباني للدولة العنصرية، والأقدر على تهويد فلسطين، وفرض النظام العنصري، والأقدر على فرض صفقة القرن، وإلغاء شيء اسمه شعب فلسطين، ويعتبر اتهامه بالفساد وخيانة الأمانة جزءًا أساسيًا من أزمة اليمين الإسرائيلي والانقسام الحاصل، ومحاولة الإطاحة به وإخراجه من اللعبة يدفع به إلى خيار المغامرة الفاشلة، لاحراق وتدمير ما تبقى من غزة، فهو يرى سردية نجاح أهدافه في رفح. ويعتقد أن هناك نهاية المقاومة.. يتوهم هذا العفط "النيروني"، بأن بإمكانه فعل كل شيء، وجعل غزة خاضعة للحكم العسكري.. استبقت مغامراته رفع رايات الانتصار على ظهر الدبابات على معبر رفح، يريد يقنع الداخل الإسرائيلي والعالم أنه انتصر وقضى على المقاومة. وأخذ يروج أن كل ما تبقى من حماس  أربع كتائب يمكنه الاجهاز عليها، فمن ينتصر بالكذب، لايمكنه سوى العودة إلى الطاولة، تلك الحقيقة المرة التي يخشى منها نتنياهو. فالعالم يشاهد صمود المقاومة بكل فصائلها، وهي تمرغ بالجيش الصهيوني، وتفقده توازنه وتسقط عسكريته، ليبدو أمام العالم بالجيش الهزيل المترهل الضعيف، وهو يتجرع الهزائم من مقاومة بسيطة بالبندقية وأسلحة متوسطة. 
لا نستغرب كثيرًا من مغامري التاريخ، فقد ركبتهم الحماقة، وانتهى بهم المآل إلى الهزائم الساحقة، كما إنتهى الحال بنيرون، وهتلر وغيره من جنرالات الحروب الذين شهدوا النهايات المأسوية لأزمانهم.
وهكذا مثلهم يراهن الناويون  الصهاينة الجدد على ابتلاع فلسطين بالتهجير والاستيطان، ثم مجيء جيل جديد يقبل بالوضع القائم، أما الاتفاقيات الاستسلامية، فقد فتحت شهيتها على الآخر، كما راهنت إسرائيل على أن التطبيع، وهذا  يعني نهاية القضية الفلسطينية، لاسيما منذ
مجيء ترامب، وفرض صفقة القرن، وجر بعض دول الخليج والسودان والمغرب إلى التطبيع، وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وتأييد ضمها لما تبقى من الضفة الغربية وغور الأردن والجولان السورية المحتلة. هذه  أوهام اليمين الإسرائيلي المتطرف صاحب مشروع سياسة الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتجويع، واحلال الاستيطان بدلاً عن السكان الأصليين، تلك هي الغاية في كل هذا الجنون الحرفي، وصفقة القرن، واستمرار نتنياهو في الحكم.

هذا هو الرهان الصهيوني الخاسر على دفن  وإنهاء قضية فلسطين، وظنونه قبول الفلسطينيين بالمواطنة الدونية، ثم انقسامهم أيضًا، وتشجيع الانقسام بين غزة ورام الله، ووصم غزة بالإرهاب وحصارها، وارتهان السلطة للتنسيق الأمني الذي يجعل منها جزءًا مساعدًا للأمن الإسرائيلي، والأخطر من ذلك عدم القبول بإجراء الانتخابات في القدس الشرقية باعتبارها العاصمة الموحدة لإسرائيل، تلك ظنون وأوهام اليمين الصهيوني المتطرف على طمس القضية الفلسطينية وعدم الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فشل إسرائيل يظهر في الانقسام المتفجر في صف اليمين، وفشله في تحقيق أهدافه الأساسية بالاستمرار في فرض الاحتلال الاستيطاني هو الأمر الذي يرفضه أصحاب الأرض.. الهبة الكبرى توقظ الأمة العربية التي تتحفز لمواجهة المشاريع الاستيطانية، وتهيىء المنطقة للخلاص من أوضاع وأنظمة الفساد والطغيان، والأهم من ذلك انكشاف طبيعة النظام العنصري الصهيوني في فلسطين كلها، والتحول في ضمير الرأي العام الدولي إيذانًا بفجر جديد، أهم دلائله صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، وحراك الساحات في مقاومة إسرائيل الدولة الفاشية وتوحشها البربري، وانتهاء أمانيها باحتلال أراضي الغير.
هذا الاستقواء على أصحاب الأرض ظاهرة احتلالية، هي المحطة الراهنة في الصراع  أمام فلسطين بكل إرثها التاريخي الغابر لصناعة التاريخ في لحظاته الفارقة.