أبريل 14, 2024 - 20:26
تنافس النفوذ الصيني - الهندي على أرخبيل جزر المالديف


عرب جورنال / توفيق سلاّم - 
يعد الملف الحدودي العنصر الأساسي في توتر العلاقات بين نيودلهي وبكين، وهو عنصر يرتبط بشكل أساسي بملف القواعد البحرية الهندية في الخارج. وقد تضررت العلاقات بين الجانبين بشدة منذ ما يقارب سبعة عقود على خلفية النزاعات الحدودية بين البلدين، وتتركز على نقطتين أساسيتين تقعان قبالة سلسلة جبال الهيمالايا التي تفصل بين التيبت في جنوب غرب الصين والهند. الأولى هي إقليم "لاداخ" الصحراوي الذي تسيطر الصين على أغلب مناطقه، عدا وادي "غالوان" الذي يقع في منتصفه تسيطر عليه الهند. والنقطة الثانية إقليم "أروناجل برديش" تسيطر الهند على معظمه، في حين تطالب الصين بملكيته. فالملف الحدودي ظل بمنزلة السبب الأساسي وراء عدم تقدم العلاقات المشتركة بين البلدين خلال العقود الماضية، وخصوصاً أنه كان سبباً في اندلاع نزاع عسكري بينهما مطلع ستينيات القرن الماضي. إفرازات هذا الملف واضحة بشكل أكبر بعد الاشتباك الدامي الذي حدث في حزيران/يونيو 2020، راح ضحيته عشرات الجنود من الطرفين في إقليم لاداخ، وهو ما تم اعتباره حينها تطوراً خطيراً، بالنظر إلى حالة السكون النسبي التي عاشتها النقاط الحدودية بين الجانبين لمدة 40 عاماً مضت.
وعلى الرغم من عودة الهدوء، ولو بشكل نسبي، إلى النقاط الحدودية بين البلدين، فقد بات من الواضح أن الصين شرعت منذ عام 2017 في الاستعداد لاحتمالية تجدد الصراع بينها، وبين الهند فيما يخص المناطق الحدودية المتنازع عليها، وخصوصاً أنها تابعت خلال السنوات الأخيرة ما قام به الجيش الهندي من تشييد لنقاط مراقبة ومهابط للمروحيات وطرق طويلة للربط بين هذه النقاط، وكذلك عمليات دعم هذه النقاط تسليحياً.


التنافس على أرخبيل المالديف

 التنافس الصيني- الهندي بشأن النفوذ على أرخبيل جزر المالديف، التي تشكل عقدة مواصلات بحرية رئيسة في منطقة غربي المحيط الهندي.
أعلنت الحكومة المالديفية أن الصين ستزودها بالمساعدة العسكرية، في أحدث إشارة إلى التحول الكبير في السياسة الخارجية للبلاد عقب انتخاب الرئيس محمد مويزو في نوفمبر 2023.
 وقالت وزارة الدفاع المالديفية إنها وقعت اتفاقاً مع بكين "بشأن تقديم الصين المساعدة العسكرية"، وأن الاتفاق سيعزز "علاقات ثنائية أقوى". ويعد ذلك تطبيقاً للوعود التي أطلقها الرئيس مويزو منذ توليه منصبه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لترسيخ علاقات أوثق بالصين، وتقليص النفوذ الهندي، والدعوة إلى سحب القوات الهندية من الأراضي المالديفية، وإعادة تأكيد السيادة الوطنية "المفقودة"، بحسب تعبيره.
وفي كانون الثاني/يناير، حدد مويزو 15 آذار/مارس موعداً أخيراً للانسحاب الكامل لقوات الجيش الهندي المتمركزين في المالديف، وفقاً لمكتب الرئيس. 
فالأرخبيل يضم ما يقرب من 1200 جزيرة مرجانية منخفضة، ويبلغ عدد سكانه أقل من نصف مليون نسمة، ينتشر على مساحة شاسعة من المياه وممرات الشحن ذات الأهمية الاستراتيجية في المحيط الهندي.
ونظراً لقربها الجغرافي وعلاقاتها التاريخية والاقتصادية القوية، كانت الهند على مدى عقود من الزمن أقرب شريك إلى جزر المالديف، إذ تنظر الهند إلى المنطقة على أنها جزء من مجال نفوذها التقليدي. لكن الرئيس الجديد فضل التقارب مع الصين بسبب ما تقدمه العلاقات مع بكين من فرص استثمار وتنمية للمالديف. وترافق ذلك مع توسيع الصين لاستثماراتها في الجزر عبر إقامة مشاريع متعددة، أهمها خط بحري تحت مسمى جسر الصداقة بين الصين والمالديف، تبلغ تكلفته 200 مليون دولار.
واعتبر خبراء أن الوجود الصيني في جزر المالديف قد يؤثر في الأمن الهندي، نظراً لقرب سلسلة الجزر من الساحل الغربي للهند. وفي كانون الثاني/يناير، سافر مويزو إلى بكين، ووقع مع الرئيس الصيني 20 اتفاقية شملت التعاون في البنية التحتية والتجارة والاقتصاد والتنمية الخضراء والمنح ومشاريع التنمية الأخرى. 
ويشمل ذلك نحو 127 مليون دولار من المساعدات لتطوير الطرق في العاصمة ماليه، وبناء 30 ألف وحدة سكنية اجتماعية. وخلال الرحلة، أشاد مويزو بالصين كونها "واحدة من أقرب الحلفاء وشركاء التنمية لجزر المالديف". وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، إن بكين "ملتزمة بالعمل مع جزر المالديف لبناء شراكة تعاون استراتيجي شاملة".
وفي خطابه الرئاسي في 5 شباط/فبراير، قال مويزو إن جزر المالديف يجب أن تعزز قدراتها العسكرية، وإن قواتها الدفاعية على وشك تحقيق قدرات مراقبة على مدار الساعة على المنطقة الاقتصادية الخالصة للبلاد، والتي تبلغ مساحتها 900 ألف كيلومتر مربع. واعتبر  مراقبون ذلك رسالة موجهة إلى نيودلهي التي تتنازع السيادة المائية على جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة لجزر المالديف. 

قاعدة بحرية هندية
ورداً على ذلك افتتحت الهند قاعدة بحرية جديدة في جزيرتها الواقعة في المحيط الهندي بالقرب من جزر المالديف. وتقع قاعدة الهند الجديدة في مينيكوي على بعد نحو 125 كيلومتراً عن جزر المالديف، والمنطقة مهمة لنيودلهي لتأمين حركة المرور البحرية عبر المحيط الهندي، وستساعد القاعدة الجديدة بشأن جهود المراقبة في المنطقة.
وأعلنت البحرية الهندية، في بيان لها، أن القاعدة ستعزز "موطئ قدمها في جزيرة لاكشادويب، بينما تعمل على توسيع بناء القدرات والامتداد العملياتي والإمداد في المنطقة".
يجري كل ذلك تحت عين القيادة العسكرية الأمريكية، إذ أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن الولايات المتحدة تتابع التقارير المتعلقة بالاتفاقية الجديدة بين جزر المالديف والصين، التي تُعَد المنافسة الاستراتيجية الرئيسة لواشنطن. ووصف ماثيو ميللر جزر المالديف بأنها "شريكة مهمة" تتطلع الولايات المتحدة إلى مواصلة العمل معها، وقال :"إن الولايات المتحدة والمالديف تجمعهما علاقات تعود إلى أكثر من 60 عاماً، منوهاً بموقع الجزر الاستراتيجية بالنسبة إلى منطقتي المحيطين الهندي والهادئ. 

الصين وباكستان 

العلاقات الصينية - الباكستانية كانت من أهم الدوافع لتوتر العلاقات بين نيودلهي وبكين، فقد انصب التركيز الصيني الأكبر خلال السنوات الأخيرة على ترسيخ العلاقات مع باكستان، وخصوصاً على المستوى العسكري، وتعاظمت هذه العلاقات بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، من خلال التدريبات المشتركة بين كراتشي وبكين، وعلى رأسها التدريب البحري المشترك "حارس البحر 2020"، الذي يعقد منذ عام 2007 بشكل سنوي، علماً أن أحدث تدريب بحري بين الجانبين جرى في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في بحر العرب، وتضمن التدريب على عمليات مكافحة الغواصات. يضاف إلى ذلك انخراط بكين بشكل واضح في تحسين القدرات العسكرية الباكستانية، وخصوصاً القدرات البحرية، إذ تزودت باكستان بغواصات وفرقاطات صينية حديثة، وهناك على ما يبدو تفاهم على احتمالية إنشاء قاعدة بحرية صينية في ميناء "جوادار" الباكستاني الذي أشرفت بكين على تشييده، وهو نقطة هامة في الممر التجاري المشترك بين البلدين، الذي يبدأ من مدينة "كاشي" الصينية.


التوجه شرقًا لمحاصرة الصين


تأسيسًا على ما سبق، فإنه يمكن اعتبار الأنشطة الاقتصادية والعسكرية الصينية في نطاق المحيط الهندي من أهم الأسباب التي دعت الهند إلى الشروع في تبني استراتيجية "التوجه شرقًا" لمحاصرة هذه الأنشطة المرتكزة بشكل أساسي على الجانب البحري. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى البحرية الهندية هي قاعدة "يولين" التابعة للبحرية الصينية في خليج "يالونج"، وهي تقع ضمن الأراضي الصينية، لأسطول الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية،  وتمتلك القاعدة اللوجستية اللازمة لاستضافة جميع أنواع السفن الحربية، بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن تبحر في المحيط الهندي بشكل صامت من دون أن تطفو على السطح، أو تحتاج إلى قطع بحرية مرافقة. وقد شرعت الهند منذ بداية العقد الماضي في تعزيز علاقاتها مع إندونيسيا والفلبين وفيتنام، وهي البلدان التي تهيمن على الطرق التي يتعين على السفن الحربية الصينية المرور عبرها للوصول إلى المحيط الهندي. وفي الوقت نفسه، سعت الهند إلى تحسين وتطوير قدراتها البحرية على المستوى التسليحي وبناء قواعد بحرية جديدة، سواء في الجزر التابعة لها أو في جزر وموانئ تابعة لدول أخرى. فعملت على استحداث وإعادة تأهيل عدة قواعد بحرية في الجزر القريبة من المضائق الأساسية المؤدية إلى المحيط الهندي، فمثلاً في عام 2019، أنشأت محطة "كوهاسا" الجوية البحرية في شمال جزيرة أندامان قرب موقع تجسس وتنصت تابع للجيش الصيني في جزيرة كوكو في ميانمار، وقامت بتوسيع المدرج الخاص بهذه المحطة ليتمكن من استيعاب طائرات الدورية البحرية. كذلك، وسعت قدرات المحطات البحرية في جزر نيكوبار، وأسست محطة باز الجوية البحرية في جزيرة نيكوبار الكبرى، على بعد 450 كيلومتراً فقط من مضيق "ملقا".
كذلك، أسست الهند عدة قواعد بحرية وجوية خارج أراضيها، وكانت البداية عام 2007، عبر مركز للتنصت والرصد الراداري في مدغشقر، ليكون بمنزلة أول قاعدة عسكرية هندية في الخارج، ثم أسست قاعدتين جويتين في طاجيكستان، وقاعدة للتدريب العسكري في مملكة بوتان، ومركزاً للتنصت والاتصالات في مملكة عمان، إلى جانب امتلاك حقوق للوجود البحري في أحد موانئ سنغافورة، وحقوق لاستخدام مهبط للطائرات ورادارات للمراقبة الساحلية في موريشيوس، وتمركز مفرزة عسكرية هندية تتكون من 77 جندياً وتقنياً في جزر المالديف قبل انسحابهم منها.

خسارة الهند ورقة المالديف
تعد جزر المالديف موقعاً استراتيجياً مهماً للهند والصين والغرب، إذ تقع على طريق خطوط شحن البضائع الحيوية بين الشرق والغرب، بما في ذلك واردات الصين من نفط الخليج، إضافة إلى ذلك، فهي تعتبر نقطة طريق لمزيد من السيطرة الجيوسياسية والنفوذ على المحيط الهندي، لا سيما بالنسبة إلى الصين التي أصبحت أكثر نشاطاً في المنطقة.
وقد وضعت نيودلهي من ضمن أهدافها البحرية ضمان وجود دائم في هذا النطاق البحري القريب من سواحلها، واتخذت عدة مقاربات في هذا الصدد، بهدف جذب جزر المالديف وتحسين العلاقات معها، إذ تعد هذه الجزر بمنزلة الجار البحري الرئيس للهند في منطقة المحيط الهندي، وهي تحتل مكانة خاصة في السياسة الهندية "الجوار أولاً". وقد سبق أن أرسل الجيش الهندي عام 1988 مظليين وسفناً حربية بحرية هندية إلى جزر المالديف كجزء من "عملية الصبار" لإحباط محاولة انقلاب ضد حكومة الرئيس الأسبق مأمون عبد القيوم. لكن زخم  التوجهات المعادية للهند في المالديف عاد مرة أخرى خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2023، إذ تبنى المرشح محمد مويزو –الذي فاز لاحقاً في الانتخابات– خطاباً معادياً للهند تحت شعار "الهند إلى الخارج"، ووعد بطرد العسكريين الهنود من بلاده في حالة فوزه، وتعهد أيضاً بمراجعة كل الاتفاقيات بين جزر المالديف والهند، التي تبلغ أكثر من مئة اتفاقية، بما في ذلك الاتفاقية الخاصة بتطوير ميناء حرس السواحل التي رأى أنها تمهد لتأسيس قاعدة عسكرية هندية في بلاده. وبالفعل، طلب مويزو رسمياً من الهند سحب عناصرها من المالديف، على أن يتم انسحاب كامل القوة الهندية من المالديف خلال شهرين.

بديل هندي 

تحتفظ القيادة البحرية الجنوبية الهندية بمرافق بحرية عسكرية في مجموعة جزر لاكشادويب. تقع هذه الجزر على بعد 400 كيلومتر جنوب غرب قاعدة "كوشي" البحرية الهندية، وتتضمن قاعدة بحرية أساسية وراداراً ساحلياً وقاعدتين للعمليات الأمامية، إلى جانب قاعدة للصيانة والدعم اللوجيستي ومهبط جوي في جزيرة أغاتي. 
وقد وقع اختيار البحرية الهندية على قاعدة العمليات الأمامية في جزيرة "مينيكوي"، ليتم تطويرها لتصبح قاعدة بحرية مستقلة تحت اسم "جاتايا"، لتكون بديلاً عن القاعدة الهندية في المالديف، وسيتم بناء مهبط طائرات على أراضيها، إلى جانب تمركز قطع بحرية هندية بشكل دائم فيها.
وتعد جزيرة مينيكوي البالغ طولها 10 كم، وأقصى عرض لها يبلغ نحو 6 كم  ثاني أكبر جزيرة في سلسلة جزر "لاكشادويب"، وتبعد نحو 450 كيلومتراً من عاصمة المالديف، ونحو 135 كيلومتراً عن أقرب جزيرة تابعة للمالديف، وتطل هذه الجزيرة على القناة الملاحية التاسعة التي يبلغ عرضها 200 كيلومتر، وهي ممر تجاري رئيس يربط بين غرب آسيا وجنوب شرق آسيا، وبين أوروبا وأفريقيا، عبر مضيق "ملقا"، وكذلك يربط بين السفن المتحركة من قناة السويس والخليج العربي نحو موانئ أندونيسيا.
جدير بالذكر أن هذه الجزيرة كانت حتى ديسمبر 1976 جزءاً من جزر المالديف، ولكن تم نقل ملكيتها بموجب معاهدة الحدود البحرية بين الهند والمالديف إلى نيودلهي. 
خلاصة القول، إن انتخاب الرئيس المالديفي الحالي، محمد مويزو، يعد انتكاسة كبيرة للهند في منافستها الجيوسياسية مع الصين، وخصوصاً وأن الرئيس الجديد له توجهات واضحة موالية للصين، وسمح لها بإدخال سفينة للمسح البحري إلى موانئ بلاده.  فالوجود الصيني في المالديف يركز بدرجة رئيسة على الجانب الاقتصادي والاستثماري، واحداث تحولات في البنية التحتية للجزيرة التي تساعدها على النهوض من خلال بناء مشاريع التنمية المستدامة. صحيح أن الهند على المستوى الجغرافي هي الأقرب إلى المالديف، لكن هذه المقاربة لم تعد ذا جدوى لجزر المالديف، لا سيما وأن الوجود العسكري الهندي يشكل أخطارًا بحكم مقاربته مع الولايات المتحدة ومعاداته للصين، بالتالي سيفرض الوضع الجغرافي على المالديف عسكرة الجزيرة، وإقامة قاعدة عسكرية لمواجهة الصين.
فعلى المستوى العسكري، وبالنظر إلى ضآلة الوجود العسكري الهندي في المالديف، يمكن القول إن اختيار جزيرة "مينيكوي" القريبة من المالديف يمكن أن يعوض بشكل كبير فقدان الهند وجودها العسكري في المالديف، كما أنه سيتضمن توسعاً كبيراً للوجود البحري الهندي في هذا النطاق الهام، ليشمل قدرات بحرية وجوية كبيرة ستسمح بمراقبة أكبر للأنشطة البحرية الصينية.