أبريل 12, 2024 - 11:07
كراهية العرب وقسوة الرأسمالية


عرب جورنال / خالد الأشموري - 
ربما كان كتاب " بؤس العالم " أحد كتب نهاية القرن العشرين ، لا يقل أهمية وإثارة عن كتابي "فوكوياما وهنتنجتون" عن نهاية التاريخ وصدام الحضارات.
الكتاب الذي حرّره أشهر عالم اجتماع أوربي في الربع الأخير من القرن العشرين بيير بورديو،  رحل عن عالمنا في عام 2002م ، ومعه فريق من السوسولوجيين " علماء الاجتماع" غير مسبوق في فكرته، وهو عبر قرابة ألف صفحة يحاكم بؤس عالم الرأسمالية والليبرالية الجديدة، واقتصاد الخصخصة ووثن اقتصاد السوق، يشمل عشرات المقابلات مع قطاع من المهمشين الفرنسيين من بين العمال أو البرجوازية الصغيرة مع تحليل اجتماعي عميق لدلالات الإجابات .
والكتاب الذي صدر في ثلاثة أجزاء بالتعاون مع السفارة الفرنسية في سورية، وبتقديم للناقد المعروف د . فيصل دراج ، وعرض/ د. محسن خضر – الكاتب والأستاذ الجامعي من مصر -  درساً في وعود علم الاجتماع النقدي ودورها في تغيير - لا وصف - الواقع عبر دراسة حالات، وهو يعترض على مقولة الفيلسوف اسبينوزا" ليس لنا الثراء ولا الضحك ولا الكراهية، بل الفهم"، حيث يتساءل بورديو ما فائدة وصف الناس دون تقديم الأدوات اللازمة لإدراك ضرورتهم؟ أي يسعى إلى الكشف عن أسباب علتهم، والظروف الاجتماعية والشروط التي أوصلتهم إلى وضعيتهم ومأزقهم، إنها سوسولوجيا تحريرية نقدية يتبناها بورديو عبر دراسته لظلم المجتمع الفرنسي الرأسمالي، وكشف تزييف الوعي الذي تقوم به مؤسساته الجماهيرية. المقولات الرئيسة الثلاث في سوسولوجيا بيير بورديو - هي مقولات : معاودة الإنتاج، ورأس المال الثقافي، والعنف الرمزي، وهو يطبق هذه المقولات بنجاح في هذا السفر الضخم، والذي يقدم درسا لنا في روح العمل كفريق Team work ، بل إنه يشارك باحثيه العمل الميداني، ويقوم بإجراء مقابلات عدة في ثنايا هذا المؤلف الضخم، وربما لفت نظرنا بشكل خاص صورة العرب المغاربة كما تلوح عبر آراء المواطنين الفرنسيين الذين أجرى عليهم دراسة الحالات تلك، وهي صورة سلبية بكل المقاييس وخاصة أنها مقدمة من قبل المواطن العادي، وليس من قبل النخبة، وأولئك الذين  يشغلون وضعا اجتماعيًا متدنيا فيما يفرق بورديو بين البؤس العظيم للحياة، والبؤس الصغير أي تلك المهن الصغيرة والتي مهمتها معالجة البؤس العظيم.

مرض المدرسة
من أروع التحليلات عن عملية الاصطفاء والاختيار التي تقوم بها المدرسة في المجتمع الرأسمالي، يعالج بورديو ومعه باتريك شامباني ما يسميه " مرض المدرسة" وهي ظاهرة تعود إلى الخمسينيات في فرنسا مع انتشار التعليم الجماهيري وديمقراطية التعليم، والذي سمح لأبناء الفقراء والمهمشين صغار التجار الحرفيين الزراعيين العمالة بالدخول إلى المدرسة، وما ترتب عليه من توسيع دائرة التنافس وازدياد الاستثمارات. 
اكتشف هؤلاء الطلاب الجانب المحافظ في المدرسة التي يفترض أن توفر التحرير، فالوصول إلى الحلقة الثانوية لا يعني النجاح فيها.. وبالرغم من أن منطق المسئولية الاجتماعية عن فشل الطالب حل محلها لوم الضحية وتحميله أسباب الفشل، فإن بنية التوزيع التفاضلي للمنافع المدرسية والفرص التعليمية استمر، وتأجلت عملية التصفية المدرسية، ولم يعد من غاية من تعليم أبناء المنبوذين سوى المكوث في المدرسة وأصبح على هؤلاء التعساء أن يدفعوا الثمن الواجب دفعه لقاء الاستفادة من ديمقراطية التعليم وهو ألا يحصلوا على وظيفة.. ونتيجة التزايد الكبير في عدد الشهادات، فلم يعد أمام أبناء أكثر الأسر حرمانا على المستوى الثقافي إلا الحصول على لقب غير ذي قيمة، وأصبحت المؤسسة المدرسية هي المحددة للهوية الاجتماعية.. أما إذا فشل هؤلاء في المدرسة، فإن هذا الفشل أصبح يعاش كمصيبة وهكذا أصبحت المؤسسة المدرسية في نظر الأهالي والطلاب، خدعة مضللة ومصدر شعور هائل بالخيبة الجماعية.. إن هذه العملية متواصلة، وتتم بشكل ناعم لا يشعر بها أحد ما . وإطالة أمد العملية عبر الزمن يساعد على إخفاء الحقيقة، والاستسلام إلى فعل المراوغة، وتبكير موعد الاختبارات الحاسمة، وإن تأخر ظهورها زمنيا، ويكتشف الطلاب أن الوقت الذي أمضوه في المؤسسة المدرسية وقت ميت ضائع. یری بورديو ساخرا أن النظام التعليمي الذي انفتح على الجميع، ظل مع ذلك مقصورا على قلة قليلة ليعيد تكريس أوضاع التفاوت الاجتماعي وحيث يتم بث مبدأ التمييز والتفرقة، وإخفاؤه، حيث يمكن رأس المال الثقافي لأبناء الأغنياء من اختيار أفضل المدارس والأقسام، والاختصاصات. 
أما أبناء الفقراء والمهاجرين، فيجبرون على الاستسلام لأوامر المؤسسة المدرسية كي يبحثوا عن حظوظهم خارج المدرسة. إن الحياة المدرسية مسدودة الآفاق، ولهذا يحبونها بتكاسل وإهمال. وينتمي أغلب المستجوبين المتحاورين" إلى قاع المجتمع، وبعض أفراد من الشريحة الوسطى للطبقة المتوسطة.
العداء للمهاجرين المغاربة
يكن الفرنسيون العاديون قدرا من الكراهية للعرب المغاربة المهاجرين، وتتردد الأوصاف والنعوت نفسها على ألسن أصحاب حرف ومهن مختلفة. ونلاحظ أن نسبة تمثيل عرب الشمال الإفريقي " تونس الجزائر المغرب" بين المستجوبين كانت كبيرة وكأن بورديو وفريقه حريص على نقل السبيكة الوطنية الفرنسية كما هي، ولنقرأ بعض هذه الأوصاف:
 - الشباب المهاجر "العربي"يسرقون السيارات
أو يسطون ويتعاطون المخدرات.
-  أنا عنصري مع الأوغاد العرب.
-  يجب طرد هذه العائلات من فرنسا.
 - لا يوجد عمل لك إن كنت عربيا .
-  سأنتخب لوبان حتى يدخل الرعب في قلوب العرب.
-  لا أستطيع محاباة الذين يصومون رمضان.
-  إنهم يربون الخرفان في الشرفات والأرانب في الحمامات.. ويعبر شاب مغربي عن هذا المناخ بعبارة دالة "المهاجر هو العار مرتان".
قسوة الرأسمالية
ترصد المقابلات العنف الرمزي للنظام الرأسمالي، والذي لا يحفل بضحاياه. تعترف سيدة فرنسية عاملة من ضاحية شعبية "أعمل أنا وزوجي كالكلاب"، وتصرخ صاحبة متجر" أنتم لا تعرفون البؤس حتى ندخل إلى المساكن الشعبية، إلى الشقق لنرى كيف يعيش الناس" ويعترف صحفي: " كل الصحافة منبطحة، ونحن نقوم بـ ٩٩٪ من العمل القذر. هناك غطاء من الرصاص يجثم فوق المجتمع، ينبغي التوصل إلى فك الحصار، كل الناس يشعرون بالخوف في هذا المجتمع".
وتقول مهاجرة برتغالية : بعد ١٣ عاما من الشغل في المدارس، لفظوني في كل مكان، وعندما مرضت رفعوا عني التأمين الصحي".
ويشكو عامل في شركة بيجو للسيارات منتقدا "النزعة البيجوية" كما يسميها : " بيجو لها حقيقتها الواقعية، ولا تستطيع جعل الجميع سعداء. وتعمل على تكريس الفردية، وهم يهددون كل من يهدد بالإضراب، أو يشكو، فسوف يحطمون البيت على من فيه، وسوف يغلقون المصنع، والإدارة تؤلب العمال بعضهم ضد البعض الآخر.
وتحذر رئيسة مشروع فرنسية" وصلنا إلى طريق مسدود، واستسلم الناس لنوع من القدرية، والناس لا يعبرون عن وجودهم بأي طريقة ".
رسالة علم الاجتماع
يقدم لنا بورديو مع رفاقه شارل سولييه وآلان أكاردو وسيلفان بروكوليش وروزين كريستان وعبد المالك صياد وغابرييل بالاز وميشيل بيالو وباتريك شامباني درساً أكاديميا حول مهمة عالم الاجتماع، وانحياز السوسولوجيا النقدية واتجاهها هتكا للزيف والوعي المضلل، ولتمويه السلطة وتبصير الناس  بشقائهم، وأسباب هذا البؤس الذي يعيشون فيه. 
وكما يقول في خاتمة سفره الضخم، فإن على العالم الاجتماعي اليوم أن يجابه كل الذين يظنون أنهم قادرون على تفسير أكثر علامات التململ الاجتماعي وضوحا ، ولا يفتأ يهاجم "آثار الوقاحة التقنية" ، محذرا من المضي وراء ما كان أفلاطون يسميهم فلاسفة التمجيد ، أو فنيو الرأي العام الذين يحسبون أنفسهم علماء، أولئك العلماء الذين يدرسون الظاهر متجاهلين العودة إلى الأسباب الحقيقية، الاقتصادية والاجتماعية الكامنة وراء انتهاكات البشر ويدين بورديو التعاسة والعنف اللذين تسببهما أحكام السوق التعليمية أو الاعتداءات الخفية في الحياة المهنية، فالطبيب ينبغي أن يحرص على اكتشاف الأمراض غير الظاهرة مثلما كان يفعل الطب الإغريقي، وإيضاح الأسباب البنيوية التي لا تكشفها الإشارات والأقوال بسهولة.
وكتاب "بؤس العالم يفضح الآليات التي تحكم سوق التعليم وسوق العمل داعيا العلم الاجتماعي للمساعدة في تعريتها وتقوية إمكانات مقاومتها وتصحيحها .
يدعو بورديو وفريقه إلى معرفة اجتماعية ملتحمة بقضايا البشر محولاً الكتابة إلى طريقة أخرى لفصل السياسة مازجا بين علمي الاجتماع والتاريخ، وباحثا عن "المعرفة الأخرى" لدى من يملكها ، وداعمًا لكرامة الإنسان وتحرره وهو ما يعيدنا إلى كتابه الشهير "أسئلة علم الاجتماع".