مارس 30, 2024 - 22:56
فشل هندسة حرب غزّة..!

توفيق سلاّم

هندسة الحرب في غزة جاءت على مقاس نتنياهو ومناوراته السياسية التي تحمل بُعداً جيو استراتيجيًا لنكبة ثانية لفلسطين، وإحلال المستوطنين بدلاً عن أصحاب الأرض، وضمن هذا المخطط، تأتي يوميات الحرب واستراتيجيتها، لخدمة مشروع نتنياهو للبقاء في الحكم، فهل ينجح نتنياهو في تحقيق حلمه بالحكم لعشر سنوات أخرى، رغم واقعه السياسي الآيل للسقوط؟ يبدو لم يسعفه الوقت لتحقيق ما يصبوا إليه. انتصارات المقاومة الفلسطينية، هي الفعل الحاسم ميدانيًا، أفشلت خططه العسكرية والسياسية، ولم تمكنه من تحقيق أي من أهدافه على مدى الخمسة الأشهر الماضية. أما مراهنة نتنياهو على اقتحام رفح، فهذا جنون من نوع آخر. واضح أنه يبحث عن انتصار مفقود، ليس بمقدوره ولا جيشه الهزيل الوصول إليه، كل ما في الأمر هو يقتل المدنيين النساء والأطفال من الجو.. وأمريكا  تدرك مأزق نتنياهو، ولا تعارض إسرائيل في اقتحام رفح، حيث تعتقد إسرائيل هناك نقطة انتصارها، ولا يهمها حجم الكارثة، في وسط سكاني 1.2 مليون نسمة. فالصهاينة تاريخيًا عنصريين وقتلة، ومنذ النكبة الفلسطينية عام 1948، استمر لجوء الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني إلى المنافي، في حين تجذر الاحتلال داخل فلسطين، وتغول الاستيطان الصهيوني، وتعمق نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري. في الوقت ذاته، استمرت المقاومة بأشكالها المختلفة، ولم تتمكن من محاولات الوصول إلى حل يحقق العدالة للشعب الفلسطيني، كما تعمق التخلي الرسمي العربي عن مسؤولياته القومية، بل مضى في عمليات تطبيع مدانة مع الكيان الصهيوني،
وفي خضم ذلك، جاء "7 أكتوبر" لينفض الغبار الذي تراكم على القضية الفلسطينية، ويعيد إليها مكانتها المركزية، ويفتح آفاقًا جديدة أمام تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، ورفع الظلم التاريخي الذي لحق به، ويجدد التمسك بالرواية التاريخية العربية - الفلسطينية مقابل الرواية الصهيونية، وأدى هذا الطوفان إلى حراك لم يسبق له مثيل في الشارع العربي والدولي، وساهم في عزل الكيان الصهيوني، واتهامه بارتكاب إبادة جماعية، وأعاق التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني وجمده، وجدد مسار القضية الفلسطينية، وأعادها إلى واجهة الحدث العربي والعالمي، بفضل الصمود البطولي الاستثنائي للمقاومة، وتلاحم واصطفاف الشعب الفلسطيني حول قضيته في مقاومة العدوان الغاشم لما يزيد عن 175 يوماً، رغم المعاناة الإنسانية التي يتعرض لها، وتضحياته الجسام.
 
  قرار وقف إطلاق النار

 مجلس الأمن تبنى الإثنين الماضي، أول قرار له منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في القطاع والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن". ولم يكن لأمريكا أن تسمح بتمريره قبل تدخلها بتعديل صيغة القرار. وحسب المعلومات فإن رعاة القرار سعوا إلى إدراج عبارة "وقف إطلاق نار دائم ومستدام"، لكن الولايات المتحدة تدخلت ورفضت هذا المصطلح، وقامت بتعديل النص إلى "وقف إطلاق النار الدائم غير المطلق". وبذلك لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض، واكتفت بالامتناع عن التصويت، بعدما عطلت ثلاثة قرارات لوقف إطلاق النار قبل ذلك.
فالقرار الصادر يوم الإثنين 25 مارس الجاري أيده 14 عضوًا مقابل امتناع عضو واحد (الولايات المتحدة)، ومعارضة إسرائيل. ولاقى القرار ترحيبًا عربيًا ودوليًا كبيرًا، كما رحبت به حماس.. ورغم أن
القرار سمحت بتمريره الولايات المتحدة، إلا أنها اعتبرته على لسان مندوبتها في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد "غير ملزم" لإسرائيل. كما أكد جون كيربي، رئيس مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، في مؤتمر صحفي أنه "قرار غير ملزم"، وأيضًا تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، أشار في مؤتمر صحفي إلى أن " هذه "الوثيقة ليست ملزمة"، ولا تفرض أي التزامات جديدة على الأطراف، لكننا نعتقد أنه يجب احترامها". وعلى خلاف ذلك أكدت الأمم المتحدة أن قرار مجلس الأمن "قرارًا ملزمًا"، ويعتبر جزءًا من القانون الدولي.
وأعرب نائب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة دميتري بوليانسكي عن استغرابه إزاء تصريحات الولايات المتحدة اعتبار  قرار مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب في غزة "غير ملزم". فيما هدد رئيس كولومبيا، غوستافو بيترو، "إسرائيل" بأنهاء العلاقات مع إسرائيل، إذا لم تلتزم بالقرار، وسوف تقطع بلاده علاقاتها الدبلوماسية بها. وكان غوستافو بيترو قد أعلن، في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، قرار بلاده سحب سفيرها لدى الاحتلال، وقال حينها إنه "في حال لم توقف إسرائيل المذبحة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، فلن نتمكن من البقاء هناك". وإذا لم تنصع إسرائيل للقرار، لتعتبر نفسها فوق الشرعية الدولية، فإن العالم سينقلب على رأسها. فالشعوب العربية غاضبة، وهي مهيأة لانتفاضات عارمة، وخصوصًا في الدول المطبعة. 
تصريحات الخارجية الأمريكية بتوصيفها قرار مجلس الأمن "غير ملزم" محاولة للتملص من تنفيذ القرار، ومنح إسرائيل الضوء الأخضر بالتمرد عليه، وفي حال عدم إذعان إسرائيل للقرار  ستصبح إسرائيل دولة منبوذة، بالتأكيد ستكون ردود الأفعال الدولية قوية، ليس فقط بإنهاء العلاقات الدبلوماسية معها، بل المتوقع أن تصل لطرد الشركات الاستثمارية الإسرائيلية، وعربيًا فإن مؤشر مظاهرة الأردن لاقتحام السفارة الإسرائيلية، هو بداية لعاصفة غضب، قد تطال الأنظمة المطبعة، وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية.
وعلى مستوى الداخل الإسرائيلي يبدو أن نتنياهو نجح حتى اللحظة في هندسة الحرب ومدخلاتها وفقاً لمقاييس الصراع بين المتدينين والعلمانيين، وليس وفقًا لمتطلبات الأمر الواقع وحقائق الحرب ويومياتها وأهدافها. فالمناورات على الأرض تثبت أن نتنياهو ما زال اللاعب الماهر القادر على محاصرة خصومه وإحراجهم، وتفكيك تحالفاتهم وإحباط جهودهم بالمزاوجة بين ميدان الحرب وكواليس السياسة، وهو ما أكده زعيم المعارضة يائير لابيد بتأكيده انعدام الجدوى من بقاء غانتس في حكومة الحرب. فالأزمة الداخلية تتفاقم في إسرائيل، وتعتقد بأن ممارسة الانتهاكات الإنسانية والقتل اليومي سيصل بها إلى التنكيل بالفلسطينيين عن أرضهم، بانتهاج سياسة "جز العشب".  وكل هذا لم يأت من فراغ، وهل يعقل إبقاء المجتمع تحت الحصار، والاستسلام والخضوع والإذعان، للقمع والإرهاب والقتل والتنكيل والاعتقال، والاعتداء على المقدسات الإسلامية دون أن تكون هناك مقاومة، في ردود أفعالها ضد سياسة المحتل؟
لذلك فإن طوفان الأقصى هو انتفاضة مسلحة لمظلومية الشعب ضد فاشية المحتل، وهنا يأتي الدور الأمريكي، ولا خلاف في ذلك بين الديمقراطيين والجمهوريين الذين ينكرون على الفلسطينيين أي حق في الحصول على حقوقهم في المقاومة والاستقلال، والحق في الحصول على الحقوق هو الذي يحدد المواطنة.. وهذا يعني أن الفلسطينيين مواطنون بلا دولة معترف بها..! والآن نرى ما الذي تفكر به إسرائيل من وراء الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، لتجريد الفلسطينيين من هذه المواطنة، وعدم الاعتراف بوجود الدولة، وما الذي تفكر به حقًا في أطفال غزة وهي تبيدهم في مجازر جماعية ضمن سياسة "جز العشب".

 صراع داخلي

تصريحات الجنرال غولدفوس تؤكد تعاظم حالة أزمة وإحباط المؤسسة السياسية للكيان المحتل، وضعف فاعليتها، فكل شيء يدور حول نتنياهو في حالة تخبط وارتباك، لا سيما مع تصاعد الخلافات بين المتدينين والعلمانيين، بين العسكر والسلطة، وبين المعارضة والحكومة، وبين اليهود الحاخامات "الحريديم" من قضية تجنيدهم، وبين السلطة والمستوطنين المطالبين بإقالة حكومة نتنياهو، في أوساط المعارضة، وأهالي الأسرى. وهي ذات الأزمة الذي تواجهها الولايات المتحدة، نتيجة فشل حكومة نتنياهو من تحقيق أهدافها العسكرية رغم الدعم الأمريكي اللامحدود، والاتفاق على كل الأجندة بما في ذلك الإبادة الجماعية وتهجير السكان، وسياسة التجويع. إنها  معضلة حقيقية، لن تسمح بحسم الحرب، أو رسم أفقها السياسي والأمني، لتبقى حرب الاحتلال وعدوانه على غزة تدار بدون موازنة واضحة، أو أهداف محددة يديرها نتنياهو، وتدفع ثمنها أمريكا ورئيسها العجوز، وليس بمقدور أمريكا فعل شيء أكثر مما قدمته، بما في ذلك دورها فك الحصار البحري عن إسرائيل وتكبيدها خسائر اقتصادية فادحة، فالهجمات التي تشنها اليمن على السفن المتجهة لإسرائيل، يجعل هذه الحرب الأكثر كلفة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
 
أدوار أمريكية مشبوهة

تظهر لنا الإدارة الأمريكية بسيناريوهات مفتعلة، في أولوياتها بالاهتمام بالجوانب الإنسانية، ترى من يصدق هذه المواقف المتناقضة مع أفعالها الميدانية في صناعة الحرب، والإبادة الجماعية، والتهجير وخارطة التجويع؟ أمريكا لا تخجل من  إطلاق التصريحات ما يتعلق بالجوانب الإنسانية، فهي اخطأت وتريد التعمية عن جرائمها بدعم النازيين الاسرائيليين. هذا هو حال أمريكا وسياستها الداعمة لـ"إسرائيل". فالإدارة الأمريكية ورئيسها الديمقراطي، جو بايدن، رفعوا شعارًا يدًا ممدودة بالمساعدات أمام الكاميرات، وأخرى تقتل "بالفيتو"، وصفقات السلاح بالسر والعلن، في الوقت الذي تتعالى فيه تصريحات المسؤولين الأمريكيين بحماية المدنيين الفلسطينيين في غزّة، وإدخال المساعدات لهم أمام الكاميرات، بينما في حقيقة الأمر الدبلوماسية الأمريكية تعمل بشكل مغاير، وتقف في وجه أي محاولات لوقف إطلاق النار، باستخدام "الفيتو" ضد أي قرار لوقف المجازر الجماعية في غزة.
إنها حرب إبادة عرقية عنصرية متعمدة مرسومة ومخططة، بالإضافة إلى ذلك فإسرائيل تمارس حرب التجويع حتى الموت، وهي سياسة استخدمت في العديد من الحروب قديمًا وحديثًا لإبادة السكان. والحقيقة أن من دون الدعم الأمريكي والغربي لا يمكن لإسرائيل أن تجرؤ على هذه الوحشية دون موافقة الإدارة الأمريكية في كل هذه الغطرسة.

تصريحات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في خطاب "حالة الاتحاد" بواشنطن، بأنه على "إسرائيل" أن تلعب دورًا لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة، وبذل المزيد من الجهد لدخول المساعدات، واعترافه أن هذه الحرب كانت شديدة الوطأة على المدنيين، وإقراره بأزمة إجبار مليوني مدني فلسطيني على النزوح بسبب القصف "الإسرائيلي"، وتدمير آلاف المنازل. هذه الاعترافات مصحوبة بهرطقات فضفاضة عن الجوانب الإنسانية، لأن مسار الأحداث تؤكد أن كل ما يقوله بايدن ليس له فعل على أرض الواقع، هذا تدليس وتضليل إعلامي على الرأي العالمي، وعلى المستوى الداخلي هدفه طمأنة الناخبين الأمريكيين الغاضبين بسبب الكارثة الإنسانية في غزّة، والدعم الأمريكي الأعمى للمحتل "الإسرائيلي". وهنا تأتي مخاوف بايدن من تناقص شعبيته، في الانتخابات القادمة.

أمريكا شريك في الحرب 

 الأمر الملفت أن أمريكا  تشتغل على كل الملفات، فهي لا تخجل من الظهور بصورة "الثعلب الماكر" لتجميل صورتها الإجرامية أمام العالم، بالرغم من أدوارها المشبوهة ومشاريعها الاستعمارية، لابقاء منطقة الشرق الأوسط تحت هيمنتها ونفوذها، ونهب مواردها، والتحكم في مصيرها، وتريد أن تبقي الدول العربية تحت قبضتها، إذ لم تكن هذه الدول مستقلة تمامًا، بل كانت مكبلة بقيود ومعاهدات أجنبية حدت كثيرًا من حريتها السياسية ومن قدرتها على التصرف بمواردها، بما يتماشى مع مصالحها الوطنية، وقيدت علاقاتها مع الدول الأخرى. الأمر الذي أدى لاحقا إلى إضطرابات ومصادمات خطيرة بين الحكومات العربية وشعوبها المغلوب على أمرها. ورغم الثورات  التي أطاحت بالاستعمار، وأسست لحقبة تاريخية كانت حبلى بالمشاكل، حيث تركت ندبا سوداء في مسيرة تاريخها  ما زالت تعاني من تداعياتها حتى يومنا هذا، بهشاشتها وخوائها، وبالمقابل لم تنجح منذ استقلالها إلى ما كانت تصبو إليه شعوبها من حريات وعدالة إجتماعية وتأمين عيش كريم ولو بحده الأدنى، على الرغم ما حباها الله من خيرات وثروات وموارد طبيعية، يمكن أن تجعلها بلدانًا غنية تنعم شعوبها بالرفاهية والعيش الكريم في ظل حكم رشيد لو تحقق لها ذلك.
وإذا ما استثنينا أوضاع الاستقرار النسبي في منطقة الخليج، ولعل تنامي مكانة هذه الدول، ناجم عن إمتلاكها مصادر الطاقة الحيوية من نفط وغاز، يمثلا عصب الاقتصاد الدولي. لذا تسعى جميع دول العالم صغيرها وكبيرها لكسب ود هذه الدول، لارتباط مصالحها بالثروة الريعية. وفي الوقت تعد سوق سوقًا استهلاكيًا لبضائعها ومنتجاتها، مع ابقائها والجوار من حولها على حالة التخلف والتمزق والتفكك والصراعات الداخلية والبينية، دون نهوضها. وما يحدث في السعودية من تحولات نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي والثقافي، يجري ذلك دون أفق منظور. كل مافي الأمر استثمارات وشركات، وسياحة وبرامج ترفيهية، مقابل 30% يدفعها المستثمر للدولة. تقول التقديرات الاقتصادية بعد 50 عامًا ستنضب الثروة النفطية، فما هي البدائل؟  لا يبدو حدوث طفرة في النهوض الصناعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والحياة الديمقراطية. لن تسمح أمريكا بأي تحولات في المنطقة، وهذا يعني الاستمرار في الضياع على هامش التاريخ..!

وأخيرًا، فشلت خطط إسرائيل، وانتصرت غزة وشعب فلسطين، ولم يتبق إلا أن تلتزم إسرائيل بقرار مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، هذا هو المخرج لانقاذها من اخفاقاتها، وانتهاء السيناريوهات الهزلية الأمريكية، للاستخفاف بحياة الفلسطينيين وارتكاب المذابح المفتوحة الملتصقة بعنقها. 
ومن المؤسف جدًّا أن الجميع ينظر إلى الجرائم النازية وحرب الإبادة الجماعية التي يقترفها الكيان الصهيوني المجرم بحق أهلنا في غزّة من زوايا مختلفة.
فالكيان الصّهيوني يعتقد أن أمنه واستقراره يكمن في القضاء على حماس، وتهجير السكان المدنيين ليخلوا له القطاع وشاطئه وما يحتويه من موارد طبيعية. والمطبعون من الأنظمة العربية يريدون القضاء على حماس باعتبارها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، وهم على اتفاق مع الصهاينة والأمريكان والغرب في هذا التوصيف، بأن حركة حماس إرهابية.  هكذا تكالب الجميع على المقاومة الوطنية الفلسطينية، وهكذا جمعهم هدف مشترك على إبادة الفلسطينيين.