مارس 17, 2024 - 21:03
لماذا تميزت مواقف أمريكا اللاتينية من القضية الفلسطينية..؟ الموقف البرازيلي انموذجا


أنس القباطي


يعد الموقف البرازيلي واحدا من المواقف المتفردة على المستوى الدولي من حرب الابادة الجماعية التي يشهدها قطاع غزة، التي تمارسها آلة الحرب الصهيونية المدعومة من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا.


الموقف البرازيلي من القضية الفلسطينية ليس وليد حرب غزة التي بدأت في 7 أكتوبر/تشرين اول 2023 وانما يمتد لعقود جسدت فيه البرازيل موقفا متفردا من همجية الكيان الصهيوني الغاصب للاراضي الفلسطينية.


وكان الرئيس البرازيلي لولا دي سلفا قد رفع سقف انتقاداته للكيان الصهيوني الى حد وصف بأن ما تمارسه آلة الحرب الصهيونية في قطاع غزة يشابه ممارسات النازية، معتبرا ما يحصل في قطاع غزة إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين. وقال سيلفا في تصريح صحفي على هامش قمة الاتحاد الإفريقي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، يوم 18 فبرائر/شباط 2024 إن "ما حدث للشعب الفلسطيني في قطاع غزة لم يحدث أبداً في أي وقت من الأوقات في التاريخ"، مستدركاً بأن "ذلك حدث عندما قرر الزعيم النازي أدولف هتلر قتل اليهود".


وازمت تصريحات سيلفا العلاقات بين البرازيل وكيان الاحتلال الصهيوني، حيث استدعت الحكومة الصهيونية السفير البرازيلي في تل ابيب، وعبرت له بوضوح أن رئيس البرازيل لولا دا سيلفا "شخصية غير مرحب بها" في البلاد، وردت البرازيل بان طلبت من سفيرها فريدريكو ماير العودة إلى البلاد للتشاور.


وما تزال الازمة الدبلوماسية قائمة بين البرازيل والكيان الصهيوني، ما يؤكد رسوخ الموقف البرازيلي من القضية الفلسطينية. والمتتبع للموقف البرازيلي من القضية الفلسطينية سيدرك ان هذا الموقف يبدو ثابتا، لكنه اليوم تجلى في اوضح صورة واصبح من المواقف المتفردة دوليا مع القضية الفلسطينية. ويرجع الموقف البرازيلي في كنهه الى العلاقة القوية بين القوى اليسارية التقدمية في دول أمريكا اللاتينية عامة، والبرازيل بشكل خاص، وبين قوى التحرر الفلسطينية وفي مقدمتها منظمة "التحرير الفلسطينية"، فالبرازيل من أولى الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في العام 1975، واستقبلت ممثلاً دائماً لها في عاصمتها برازيليا. وامريكا اللاتينية التي ظلت خلال القرن الماضي حاضنة للقوى التحررية، كانت بمثابة حضن دافئ للكثير من الفدائيين الفلسطينيين، حتى ان عدد من القوى التحريرية في دول أمريكا اللاتينية تدربت على أيدي ناشطين من المقاومين الفلسطينيين في منظمة التحرير، وفي المقابل تدربت كوادر من منظمة التحرير على يد قيادات من حركات التحرر في أمريكا اللاتينية، حسب ما اورده فادي جمعه الباحث الفلسطيني في العلوم السياسية، وهو ما يؤكد عمق العلاقات بين حركات التحرر في امريكا اللاتينية وحركات التحرر الفلسطينية.


وبالنظر للموقف البرازيلي الحالي مما تتعرض له قطاع غزة، فإن برازيليا كانت قبل اكثر من 10 اعوام وتحديدا في العام 2010 قد اعترفت بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 خلال زيارة الرئيس الحالي دي سيلفا، إلى رام الله، في فترة رئاسته الثانية، وبعد عودته رئيساً للمرة الثالثة عام 2023 جدد لولا دا سيلفا مواقفه السابقة وأكّد أن ''بلاده ستقف وبقوة مع نصرة الحق الفلسطيني وستكون سنداً لجهود دولة فلسطين في المحافل الدولية". ونظرا لمواقف دي سيلفا من القضية الفلسطينية كانت الفصائل الفلسطينية قد عبرت عن ارتياحها في العام 2023 عندما فاز سيلفا بالانتخابات الرئاسية وعودة اليسار للحكم، وعبرت عن ذلك بوضوح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي اعتبرت فوز سيلفا "إضافة نوعيّة لمعسكر التحرّر والتقدّم والديمقراطيّة".


وخلال العقود الاخيرة احتضنت البرازيل ملايين من الفلسطينيين واللبنانيين الذين هجروا من ارضهم بسبب الحرب التي شنها الكيان الصهيوني، وفي الوقت نفسه مثلت البرازيل محطة استقرار لملايين من المهاجرين العرب، حيث تفيد إحصائيات رسمية برازيلية ان عدد العرب والمنحدرين من أصول عربية في البرازيل وصلوا الى اكثر من 11 مليون نسمة، ما يشكل 6% من مجموع سكان البلاد، واغلب هؤلاء العرب تعود اصولهم الى منطقة الشام التي تضم دول سوريا وفلسطين ولبنان والاردن، وبعضهم تقلد مناصب رفيعة في الدولة، منهم ميشال تامر المنحدر من اصول لبنانية، والذي وصل الى رئاسة البرازيل في العام 2016.


التسهيلات التي تتعامل بها السلطات البرازيلية مع الجالية العربية المقيمة على اراضيها جعل اغلب منتسبيها مواطنين برازيليين يتمتعون بكامل حقوقهم، وهو ما جعل الموقف البرازيلي من القضية الفلسطينية واحد من اهم المواقف الدولية المتفردة، فالبرازيل وغيرها من دول امريكا اللاتينية كانت محط لكثير من المهاجرين العرب منذ الحرب العالمية الأولى، وعلى الاخص لعرب الشام.


والملاحظ ان موقف كثير من دول امريكا الجنوبية في حرب غزة كان مميزا، حيث انحازت الى جانب الحق الفلسطيني ونددت بالهمجية الصهيونية، وهو ما يؤكد عمق العلاقات بين تلك الدول والعرب بشكل عام والفلسطينيين على وجه التحديد، وتلك المواقف لا غرابة فيها، لان تلك الدول منذ الحرب العالمية الاولى استقبلت ملايين العرب المهاجرين، حيث اندمج اغلبهم في مجتمعات تلك الدول، وصاروا جزء منها، عوضا عن غياب السلوك العنصري في تلك المجتمعات المتصالحة مع نفسها، ولذلك وصل ميشال تامر الى رئاسة البرازيل وابن المهاجر اللبناني، خوليو سيزار طربيه (1978-1982) وصل الى رئاسة كولومبيا، وابن العائلة السورية كارلوس منعم الذي وصل لرئاسة الأرجنتين (1989-1999)، فيما عرفت الإكوادور الرئيسين عبد الله بوكرم (1996-1997) وجميل ماهود (1998-2000)، وفي هندوراس وصل كارلوس فلوريس فاكوسة الى رئاسة البلاد (1998-2002) وهو من أصول سورية.


واضافة الى ما سبق فإن شعوب امريكا اللاتينية تجد نفسها اقرب الى الشعب الفلسطيني، فقد عانت مثلما عانى الشعب الفلسطيني من تجارب مريرة مع النظام الغربي الاستعماري، الذي كان يدعم القوى الديكتاتورية المسيطرة على دول أمريكا اللاتينية. وهذا المشترك عزز من حضور القضية الفلسطينية في اوساط شعوب امريكا اللاتينية، وجعلها متجذرة، وهو ما جعل الموقف الرسمي لكثير من تلك البلدان قويا الى جانب فلسطين.


وبعودة اليسار مجددا الى السلطة في البرازيل كان الموقف البرازيلي اكثر تفردا ووضوحا ومناصرة للقضية الفلسطينية، لان الجانب التحرري هو الاكثر تاثيرا في مثل هذه المواقف، وهو التوجه الذي تتبناه الحركات والتنظيمات اليسارية، حيث ترى في كل قضية تحرر في العالم بانها جزء من كفاح شعوب العالم للتحرر من الهيمنة الاستعمارية، ولذلك يسعى اليسار البرازيلي أن يجد مكانة متميزة على الساحة الدولية تبتعد بالبرازيل عن العالم الغربي والولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً، بما يجعل البرازيل في مصاف القوى الفاعلة المهمّة على الساحة الدولية، وحجز مقعد لها على طاولة الدول القوية القادرة على توجيه النقاش العالمي، ولذلك اتجهت لأن تصبح جزء من دول البربكس المناهضة للهيمنة الغربية.