فبراير 26, 2024 - 20:46
غزة تفرض واقعًا جديدًا في خط المقاومة لتحرير الأرض وبناء الدولة الوطنية المستقلة كاملة السيادة


عرب جورنال / توفيق سلاّم - 
 على الرغم من أهمية القرار الذي اقترحته الجزائر على مجلس الأمن  لوقف الحرب على غزة، كانت التناولات الإعلامية والتحليلات السياسية  ركزت أكثر على "الفيتو" الأمريكي الداعم لاستمرار جرائم حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني في غزة. ومهما حاول الصهاينة الاستهتار والاستهانة بالعمل الدبلوماسي والقانوني الداعم للقضية الفلسطينية وفي المنظمات الدولية، أو في مذكرات كشف وفضح جرائم الاحتلال الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، أو في متابعة دعوى اتهام كيان الاحتلال بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أو في مطاردة شخوصه ومجرميه أمام محكمة الجنايات الدولية، وكل هذه المبادرات وغيرها مفيدة قطعًا في خدمة قضية الحق الفلسطيني، وفي كسب المزيد من الرأي العام الدولي المساند، وبالذات في عواصم الغرب الأوروبي والأمريكي، المنحازة سياسيًا بتياراتها الرئيسة لكيان الاحتلال، والمعادية بأكثريتها الحاكمة لقضية الشعب الفلسطيني، وإن شهدت شوارعها مظاهرات عارمة،
من هوامش التيارات الإنسانية في الغرب، ودفع مئات آلاف المتظاهرين  بمبادرات فلسطينية وعربية الأصول، إلى غضب متدفق، دفاعًا عن فلسطين وأهلها، أنتج تأثيرًا وضغطًا على مواقف الحكومات الغربية، وعلى نحو ما بدا ويبدو في تحولات ومواقف عدد متزايد من الحكومات الأوروبية بالذات، وفي تمرد بعضها على اتهامات "إسرائيل" بتعطيل عمل وكالة "الأونروا" لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
 فالمشكلة كانت غالبًا في مواقف حكومات الغرب، خاصة في "فيتو" واشنطن المعطل لوقف الحرب، فبينها وبين كيان العدو حالة اندماج استراتيجي، ومشاركة فعلية مباشرة في العدوان الهمجي البربري الغاشم، وفي تبني الرواية والأكاذيب الصهيونية لمزيد من القتل والتجويع والحصار على قطاع غزة.
فالحرب في غزة تدخل شهرها الخامس، يتواصل القصف على مختلف محاور القطاع في ظل وضع إنساني كارثي، فيما تستمر المفاوضات حول هدنة جديدة ومساعي المجتمع الدولي لثني إسرائيل عن اجتياح رفح.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إنه "يعمل للحصول على مخطط آخر من شأنه الإفراج عن المخطوفين واستكمال تدمير كتائب حماس في رفح". وإلى ذلك بدت واشنطن عارية في مواجهة انتقادات وضغوط العالم، مما اضطرت لإبداء مرونة ومراوغات لفظية، تساير جزئيًا موجات الغضب العالمي شبه العام، وصدرت عنها تصريحات ملتبسة، تبدي استعدادها حتى للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية، وإن كانت باهتة الملامح وبغير حدود متفق عليها، وعلى أن تكون بدون جيش ومنزوعة السلاح- كما تقول واشنطن- وأن يكون هناك تنسيق أمني مع الكيان الصهيوني، وكل تلك شروط لا معنى لها، رغم  "الشرعية الدولية"، التي صدرت عنها مئات القرارات عن الجمعية العامة، وعشرات القرارات الأخرى عن مجلس الأمن نفسه، وكلها تكفل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتؤكد حقه في إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على ترابه الوطني الحر.


التعويل على القرارات الدولية

 التعويل على القرارات الدولية السياسية والقانونية وحدها، لن يؤدي بمفردها قطعًا إلى تحرير فلسطين، ولا حتى لبلوغ كسب محدود في صورة الدولة الفلسطينية المنشودة. وحجر الأساس في القضية، هو أن ينتصر الشعب الفلسطيني أولاً، وأن تعترف الدول بالدولة الفلسطينية، وفي المقدمة منها الدول العربية والإسلامية دفعة واحدة، لتجر بقية دول العالم إلى سيل هذه الاعترافات. وما من سبيل مفتوح، ولا خيار  استراتيجي غير المقاومة، وبكل وسائلها المسلحة والشعبية، هذا عنصر هام في دينامية التحرر الوطني، بالإضافة إلى عدة عوامل سياسية واجتماعية وثقافية لتغيير الموازين، إذ لابد من حراك مرتفعة سقوفه فلسطينيًا، وعربيًا لانتصار قضية الحق الفلسطيني بالقوة. ولابد أن تكون المقاومة الفلسطينية أذرعها ممتدة في كل مكان، وتسليحها في أكثر من مكان وأكثر من قطر عربي، ضمن خارطة التحرير الوطني، وهذا ما يتطلب النظر في اعادة استراتيجية المقاومة.


طريق المقاومة 

صحيح أن طريق المقاومة ليس سهلاً، وهو مكلف بالتضحيات الجسيمة وسيل الدماء، ولابد أن يستمر زخم المقاومة، ويتضاعف حجمها، وقدراتها التسليحية، ولابد أن تتوحد المقاومة الداخلية، بكافة فصائلها وتوجهاتها الفكرية، وأن تعيد منظمة التحرير مسار خذلانها إلى صفوف المقاومة، ولا سبيل أن ينخرط كل شباب فلسطين في المقاومة، وشباب الأردن وسوريا والعراق واليمن، في ساحات مختلفة ويجري إعدادهم وتأهيلهم على مستوى عال من الخبرات القتالية والتصنيعية، ضمن مجهود حربي شامل داخل فلسطين وخارجها.. ولابد من التأكيد أن تعيد حماس النظر في قدراتها التسليحية، إذ لابد من امتلاكها مسيرات، وصواريخ باليستية فرط صوتية، وما من طريق آخر غير دفع "ضرائب التحرير الوطني"، الذي عرفته تجارب الشعوب تحت الاحتلال.

فالمقاومة المسلحة على مدى أكثر من عشرين سنة، هي التي حررت الجنوب اللبناني من دنس الاحتلال "الإسرائيلي"، والمقاومة المسلحة في انتفاضة الفلسطينيين الثانية التي بدأت أواخر سنة 2000، وهي التي أجبرت العدو على الجلاء من غزة، وتفكيك مستوطناتها عام 2005. وعودة "إسرائيل" اليوم لاحتلال وإبادة "غزة" وأهلها، لن تكون لها من نتيجة، سوى عودة غزة إلى طبيعتها الدائمة كقلعة للمقاومة المسلحة، هزمت العدو من قبل، وتهزمه حاليًا وتفشل خططه.
 فقد كانت "أوسلو" وأخواتها استطرادًا إلى افتراض أن السلام ـ أو الاستسلام ـ هو خيار العرب والفلسطينيين الاستراتيجي. لكن المقاومة في غزة ظهرت من نوع مختلف، تحدت مقولة السلام كخيار استراتيجي، وردت الاعتبار إلى المقاومة كخيار استراتيجي، وتوالت إنجازاتها الفعلية على الجبهة الفلسطينية  وجوارها ومحيطها الإقليمي، وأدارت حروبها طويلة النفس مع كيان الاحتلال، وحرمته من تحقيق أي نصر في النزال العسكري المباشر، وتسلحت أولا بالإيمان الراسخ، وبنزعة الاستشهاد، كأعلى قيمة إنسانية ضد التكنولوجيا الحربية الفائقة لدى العدو، ثم أضافت المقاومة مقدرة على صناعة سلاحها بذاتها، وتطوير عقيدة قتالها التي لا تهزم، وأفادها الحضور السكاني الفلسطينى الكثيف فوق الأرض المقدسة، وقدمت "بروفة" عبقرية لإمكانية زوال "إسرائيل" في هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأبانت للعرب والعالم أن إسرائيل دولة ضعيفة وهشة، يمكن اسقاطها بسهولة لولاء الدعم والمساندة الأمريكية الغربية. 
اليوم المقاومة الوطنية أحيت القضية الفلسطينية عالميًا من موات ورقاد طويل، وأثبتت أنه لا احتلال يدوم إلى الأبد، مادام الشعب الرافض للاحتلال يقاوم، ويستنزف المحتلين على الدوام، وإلى أن تزول الغمة، وتكون الكلمة الفصل للشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية الباسلة بإذن الله.
 ولعل تجربة الشعب الفلسطيني نفسه كبيرة،  فهو يتعرض من مائة عام لأقسى وأشرس أنواع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، فقد توالت ثورات الشعب الفلسطيني وانتفاضاته، من ثورة 1936 إلى "طوفان الأقصى"، وارتقى مئات الآلاف من الشهداء والأشلاء والجرحى، وذهب للأسر مليون فلسطيني منذ عدوان 1967، ومن دون أن يثبت الطريق المعاكس لخط المقاومة مقدرته على إنجاز أي شيء مفيد، وأمامنا تجربة الثلاثين سنة الأخيرة بعد عقد "اتفاق أوسلو" وتوابعه، وقد كانت وعودها كلها سرابًا، انتهى إلى ما خبره ويعانيه الشعب الفلسطيني اليوم، فلا عودة لأرض ولا لمقدسات، بل استيطان إحلالي متوحش في الضفة الغربية، وتهويد غالب في القدس، وفي المسجد الأقصى ذاته، ومن دون أن تنتهي مئات جولات المفاوضات المباشرة إلى شيء، إلا إلى توقفها هي ذاتها، وإمعان كيان الاحتلال في التنكيل اليومي الوحشي بالشعب الفلسطيني، حتى وصل إلى المذابح الجماعية في التصفية العرقية لانهاء القضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني.


أمركة العرب

الشعوب والمجتمعات العربية هي في حالة صدمة مما يجري في غزة من مذابح، ووقوف الولايات المتحدة والغرب إلى جانب إسرائيل بكل صلف لإكمال إبادة الشعب الفلسطيني، واحتقار وجودها، في ظل استسلام أنظمة عربية بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث، لم تكن قبل هذا الحدث بحالة استقرار، فالمنطقة العربية كلها أصيبت في العقد الأخير بحالة مع عدم الاتزان، والفوضى، واختلال مراكز التأثير، والاحجام والأوزان بين الدول العربية، وتراكم الأزمات، والخيبات والمعاناة والفشل في انتاج حوكمة رشيدة.
وليست أحداث غزة سوى المقياس لما وصلت إليه الحالة العربية من إنحطاط وتدهور، بلغ حده الأقصى في مسار التاريخ، والمرحلة المقبلة هو محاولة التغيير بكل قوة.
أما إسرائيل بعد كل ما جرى في غزة من إبادة، وارتداداته الدولية السياسية والشعبية والقانونية، فقد ظهرت عليها أعراض حمل بذور التحول التاريخي. ولن تعود إسرائيل قادرة على الاستمرار بصورتها الراهنة، وليست الحرب في غزة سوى نهاية لمسار تراجعي في الخط البياني منذ أنشأ الغرب دولة لليهود على أرض عربية عام 1948، ودعمها بأقصى قدر من القوة لتبقى على قيد الحياة، وتتفوق على محيطها لضمان بقائها باعتبارها عصارة ما انتجه الغرب في المنطقة العربية وامتداد عضوي له.
 الشعب الفلسطيني نفسه، ومقاومته الوطنية الشجاعة هي من ستقود تحولات انتزاع الشعب الفلسطيني حقوقه، وليست أي أقطاب دولية صاعدة في الشرق من نمط الصين أو الهند أو روسيا. رغم أن المسارات الدولية في الشرق وأمريكا اللاتينية وأفريقيا ومواقف منظمات وتيارات سياسية وفكرية عديدة في العالم سيكون لها تأثير كبير في دفع الغرب نحو قيادة عملية التحول من التأييد والدعم العضوي لإسرائيل، وإعادة انتاج دولة إسرائيل على أسس جديدة لتبقى وتستمر.

هنا لا نتحدث بمنظار ما هو قائم الآن في الغرب بصورته البليدة المتطرفة والعنصرية المتوحشة، إنما كيف ستكون تفاعلات التعامل مع قضية عدالة كونية وإنسانية لشعب نال نصيبه من الإرهاب، والقمع، والحصار والتهجير والابادة والقتل الوحشي الجماعي بقدر أكبر مما ناله اليهود في أوروبا في أربعينيات القرن الماضي على يد النازيين الألمان،  بات لديها استعداد أكبر للتخلص من عقدة الذنب، والقدرة على التفريق بين دولة تستخدم البطش والإبادة لشعب أعزل، وبين مظلومية تاريخية لاتباع ديانة لم يكن لهم دولة خاصة بهم لحظة اضطهادهم. المعركة الأساسية داخل الدول الغربية، وهي معركة بدأت ولن تنته إلا بأحداث التغيير الذي يقود عملية تصحيح كبرى للتاريخ وبالتالي للمستقبل. والعامل الأكبر نحو إعادة الغرب صياغة السياسة بصورتها الجذرية المتوقعة، هو صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وافشاله كل محاولات شطبه، ودفعه ثمنًا باهظًا يصعب على العالم هضم فصوله.
 بزوغ التغيرات الجذرية في بنية الحياة السياسية والاجتماعية العربية القادمة لا محالة ومخاضاتها المؤلمة كما ذكرنا سابقًا، مع تحولات المقاربة العالمية للقضية الفلسطينية، والنظرة إلى استمرار إسرائيل بشكلها الهمجي العدواني الراهن المعبر عن فشل النظام الدولي والمعاكس للمسار الانساني الطبيعي.. وكل ذلك سيدفع بالعالم إلى الاعتراف بالقضية الفلسطينية شاءت أمريكا أم أبت، إذ لابد من قيام دولة فلسطينية تعوض الشعب الفلسطيني عما لحق به من إبادة، مقابل حفاظ الغرب على دولة اسمها إسرائيل منكمشة بحدود وقدرة، وتعيش عقدة ذنب يضعها العالم في رقبتها تجاه الشعب الفلسطيني، كما سيعيش الغرب كله ذات العقدة ولاجيال طويلة. هذا لن يكون في أجال بعيدة ولن ننتظر عقودًا طويلة. المسار الموصل إلى هذا النوع من النتائج أو القريبة منها بدأ في الشرق والغرب. وعلينا أن نستعد لنعيش فصوله ومراحله الصعبة.
راح العرب، وراء أمريكا، مثل قطيع تسوقه الذئاب. هذا الأمر لم يحدث، لا في أمريكا اللاتينية، ولا في أفريقيا على ذلك النحو من الاهتراء المخزي الذي جعلت شعوبها في حالة انبطاح وبعيدة عن أي تنمية وتطور، بل سوقًا استهلاكية للمنتجات والصناعات الغربية، وفوق ذلك عمدت النخب العربية إلى إنهاك شعوبها بالفساد، والاضطهاد، والأزمات الاقتصادية وسيل من الانكسارات وخيبات الأمل، ومازالت حتى اليوم تمارس القمع والاضطهاد، حتى حرمانهم من مساندة أشقائهم في التظاهرات، وكأن ما يحدث حولها لا يعنيها من الأمر شيئًا.. ورغم المجازر الجماعية في قطاع غزة، إلا أنها مازالت تساوم  الكيان الصهيوني على القضاء على حماس، ووعود صفقات التطبيع المذل، فماذا قدمت هذه النخب سوى الارتكاسات، والنكسات، وهذا النهج المخزي للمنطقة العربية ولقضايا أمتنا المستباحة؟
مشكلة القضية الفلسطينية، تتمثل في معضلة الفكر الانبطاحي الجبان، وتبعيته وأمركة توجهاته المعادية للقضية الفلسطينية، في زمن قل أن تجد الأرض العربية زعماء وطنيون وعروبيون وقوميون. فهؤلاء ربما وصل بهم التفاهة، ليصبح الذل عنوانًا للتباهي والتفاخر، وكل ذلك يصب في خانة خدمة التهويل لصالح الكيان الصهيوني، كانوا يمجدونه ويتخذون منه شماعة لتخويف الشعوب العربية، وهو في الأمر كيان هزيل وضعيف وهش البنية المجتمعية غير المتجانسة باعتباره لفيف من كل العالم. الجيش الصهيوني المدجج بتراسنة لا تضاهى هزمته المقاومة في بقعة ضيقة، ومرغت أنفه في تراب أرض الكرامة، ليكشف صمود المقاومة الفلسطينية وتضحياتها خللاً كبيرًا تعيشه الأنظمة العربية، وحالة الهزل في إضعاف قدراتها. وبات من المنظور عدم الركون إلى المؤسسات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي الذي أصبح رهينة "لفيتو" أمريكي ضد أي قرار يقضي بوقف إطلاق نار دائم وفوري ولو لأسباب إنسانية.. فأين الإنسانية من الانحياز الأمريكي للكيان الصهيوني، وهي
راعية سلام التطبيع مع الصهاينة على حساب القضية الفلسطينية وتقرير المصير؟ 
لقد كانت الصدمة الكبيرة أن الانبطاح العربي ترك دهشة أمام العالم، من ما يجري في غزة من إبادات جماعية للأطفال والنساء بصورة عمدية صدمت الإنسانية مرة أخرى،
 واستفز العالم أمام تلك المذابح بقتل المزيد من الفلسطينيين وتشريد من تبقى منهم، وتهجيرهم قسرًا عن وطنهم وأرضهم ودفعهم نحو دول الجوار، فبأي مفاوضات تهتم هذه القوة المتغرطسة التي تستبيح دماء المدنيين وتبحث عن الانتصار فوق جثثهم؟