نوفمبر 24, 2023 - 18:47
العلاقات الدولية في القرن العشرين "تطورات الأحداث ما بين الحربين" (1914-1945)  (1- 2 )

عرب جورنال / خالد الأشموري - 
انقسام اوروبا إلى معسكرين واندلاع الحرب العالمية الأولى 
ان الرغبة التي أبدتها الدول الأوروبية مع بداية القرن العشرين، في الحصول على المزيد من الثروة، عن طريق تأمين الأسواق الخارجية للفائض من انتاجها، كان السبب في تنافسها على المستعمرات وعلى الطرق المؤدية إليها وهذا ما دفع بكل دولة من الدول الأوروبية إلى تعزيز قدراتها القتالية سواء عن طريق تقوية جيوشها البرية والبحرية أو عن طريق انشائها لشبكة من الاحلاف والصداقات الدولية وهذا بدوره ساعد على انقسام الدول الأوروبية إلى معسكرين كبيرين، ودفع بأوروبا والعالم إلى اتون حرب وصفت بالعالمية، واعتبرت عن حق بانها من أبشع الحروب التي شهدتها البشرية حتى تاريخها.. فما هي الاسباب القريبة والبعيدة للحرب العالمية الأولى ؟ وكيف تم تشكيل الجبهتين؟
ان الاسباب البعيدة للحرب العالمية الأولى يمكن اعادتها إلى أسباب عامة وأسباب خاصة.
اما بالنسبة للأسباب أو العوامل العامة، والتي اشتركت فيها غالبية دول أوروبا ، فتعود في بعضها إلى التنافس القوي بين الدول الصناعية على المستعمرات ، والى الرغبة في السيطرة والتسلط التي اتخذت طابعا جديدا يتلاءم والعصر الصناعي الآلي ويحقق الإثراء السريع مما أوصل التنافس إلى درجة التصادم واستعمال العنف اشتداد الحركة التحررية واعتزاز كل أمة بقوميتها اعتزازاً بلغ حد التعصب.. وبالإضافة إلى هذه العوامل المشتركة: الثورة الصناعية، التنافس على المستعمرات والنهضة القومية، وتأثيرها على غالبية الدول الأوروبية، توجد بعض العوامل الخاصة والتي دفعت بهذه الدولة أو تلك إلى الانضمام إلى أحد المعسكرين اللذين تمحورا حول المانيا وفرنسا لأنه بعد أن تحققت الوحدة السياسية الألمانية واعلنت في فرساي عام 1871م ، أخذ القادة الالمان يسعون إلى تقوية الصناعات الألمانية وإلى تأمين الأسواق للفائض منها فأدت هذه السياسة وما تفرع عنها من السياسة البحرية التي استهوت غليوم الثاني، إلى تلبد الأجواء مع الدول البحرية الأخرى وفي مقابل المانيا الصاعدة على المسرح السياسي الأوروبي والطامحة في لعب دور هام وأساسي في السياسة الدولية ، كانت فرنسا تترصد خطواتها وتتحين الفرص للإيقاع بها، لأن في هزيمة ، المانيا يزول الخطر الذي يهدد سلامة وأمن فرنسا في كل لحظة كما أنها تكون قد تخلصت من دولة قوية نازعتها الزعامة الأوروبية وسلخت عنها منطقتي الالزاس واللورين ولقد تجلت الخطوات العدائية في تعزيز كل منهما لقدراته القتالية من جهة ، وفي تنشيط دبلوماسيتها الهادفة إلى إنشاء الاحلاف وعزل الدولة الأخرى من جهة ثانية، وكانت الغلبة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر للدبلوماسية الالمانية التي نجحت بفضل جهود بسمارك في جمع النمسا وروسيا وإيطاليا حولها، إلا أنه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومع غياب بمسارك عن مسرح الدبلوماسية الالمانية، انسحبت روسيا من حلفها مع المانيا واتجهت نحو فرنسا.. اما الأسباب التي حالت دون إبقاء المانيا على صداقة روسيا، فهي أن هذه الأخيرة كانت تطمح بمد نفوذها إلى البقان، وهذا ما يتناقض مع مصالح النمسا ولقد تجلت سياسة روسيا هذه بشكل واضح، بعد هزيمتها في آسيا على أيدي القوات اليابانية في عام 1905م إذ أنها بعد هذا التاريخ وجهت انظارها شطر أوروبا واخذت تتدخل في شؤون البلقان بحجة الدفاع عن الشعوب السلافية وإذا كان السبب المعلن لتدخل القيصر في شؤون البلقان هو الدفاع عن شعوب هذه المنطقة ضد السلطات التركية، إلا ان الأهداف غير المعلنة كانت تتجلى برغبتة في مد نفوذه إلى هذه المنطقة، والحلول محل تركيا في (إمبراطورية بيزنطية) ولكن الامبراطورية النمساوية- الهنغارية المدعومة من المانيا لم تسكت حيال هذا التدخل الروسي الذي هدد مصالحها وشكل بالتالي، خطرا على نفوذها في هذه المنطقة.
كان فشل حلفاء بسمارك إذن في جمع روسيا والنمسا ضمن حلف واحد مع المانيا، قد دفع بهم إلى المفاضلة بين الدولتين وإلى تفضيل النمسا على روسيا التي اتجهت نحو فرنسا عدوة المانيا التقليدية ولكن المانيا لم تكتف بتوثيق علاقاتها مع النمسا فحسب، وإنما سعت إلى حليف آخر وجدته في الإمبراطورية العثمانية ، الحاقدة على الإمبراطورية الروسية، بسبب الحروب الطويلة بينهما واطماع روسيا في أراضيها.
أما فرنسا فقد كان لقاؤها مع روسيا القيصرية طبيعيا ، فمدت لها يد العون وقدمت لها الأموال من أجل النهوض باقتصادياتها وانشاء صناعة ثقيلة تساعد على تسليح الجيش الروسي في وجه المانيا والنمسا، كما سعت فرنسا إلى وصل حبل المودة بينها وبين بريطانيا، واتفقت معها على اقتسام النفوذ في حوض البحر المتوسط ومما ساعدها في ذلك السياسة التوسعية الالمانية التي تجلت في تقوية أسطولها وإنشائها للقواعد العسكرية التي اخذت تشكل خطرا على التجارة البريطانية وعلى طرق المواصلات التي تربط الجزر البريطانية بالمستعمرات.
إذن من خلال هذا التحليل للأوضاع الدولية مع بداية الحرب العالمية الأولى يظهر لنا بوضوح، انقسام أوروبا إلى معسكرين كبيرين: الأول : يضم فرنسا، بريطانيا ، روسيا، والثاني يضم: المانيا، النمسا ، والامبراطورية العثمانية بالإضافة إلى إيطاليا .. ولكن إيطاليا إذا كانت لم تستمر في تحالفها مع المانيا والنمسا فيعود ذلك إلى تناقض مصالحها مع هذه الأخيرة التي تسيطر على بعض المناطق الإيطالية وتحول بالتالي دون اكتمال الوحدة الإيطالية وهذا ما دفع بإيطاليا إلى التردد أولا ثم إلى الاتجاه إلى معسكر الدول الأخرى بعد أن أغدقت عليها الوعود في الحصول  على كل ما تريد من أراض على حساب الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية والإمبراطورية العثمانية وفي المستعمرات، وإذا كانت هذه هي العوامل التي أدت إلى انقسام أوروبا إلى معسكرين كبيرين، وشكلت بالتالي الأسباب البعيدة للحرب العالمية الأولى، فما هي الأسباب المباشرة لبدء العمليات العسكرية؟
أن السبب المباشر للحرب العالمية الأولى يعود إلى مقتل ولي عهد الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية ، الأرشيدوق " فرديناند"في مدينة " سيراجيفو" الصربية في 28 حزيران 1914م ، وذلك على يد ثوري سلافي ، فاعتبرت السلطات النمساوية أن صربيا هي المسؤولة عن مقتل ولي عهدها ، خاصة وأنها كانت تتهمها بالعمل ضدها في منطقتي " البوسنة" و " الهرسك" فوجهت لها بالاتفاق مع المانيا، إنذارا شديد اللهجة ، ينم عن عزم النمسا على ازالتها من الخارطة الأوروبية، وفي 28 تموز من عام 1914م بدأت النمسا في ترجمة إنذارها إلى عمليات عسكرية ضد صربيا.
لقد أتى هذا الحادث ليزيد الوضع الأوروبي تأزما، وليضع الاتفاقيات الدولية والاحلاف القائمة على محك الواقع العملي في أقل من أسبوع من بدء العمليات العسكرية، حيث أنه في اليوم الذي بدأت فيه النمسا عملياتها العسكرية ضد صربيا، أعلنت حكومة القيصر المرتبطة مع صربيا بمعاهدة صداقة وتحالف بان لا يمكنها أن تتخلى عن صديقتها فطالبت النمسا بإيقاف العمليات العسكرية واللجوء إلى التحكيم من اجل حل خلافها مع صربيا، ثم الحقت ذلك بإعلان التعبئة الجزئية تدليلا على أنها جادة في التدخل لصالح حليفتها صربيا في حال استمرار العمليات العسكرية.. والسبب في اتخاذ حكومة القيصر لهذا الموقف المتشدد يعود إلى شعورها بانها إذا تقاعست عن نصرة صربيا ستفقد كل اعتبار لدى الشعوب الأخرى وخاصة الصديقة منها، كما سيؤدي ذلك إلى تقوية قبضة النمسا على منطقتي الدانوب والبلقان.
هذا بالنسبة للموقف الروسي، فماذا عن الموقف الالماني؟ أن المانيا لم تكن أقل وفاء من روسيا، خاصة وأن الإنذار النمساوي لصربيا قد تم بمعرفة المانيا ولذلك كان أن اعلنت الحكومة الألمانية في 29 تموز، بأنها ستعلن التعبئة العامة إذا لم تلغ روسيا التعبئة الجزئية فكان جواب روسيا على ذلك بإعلانها للتعبئة العامة عوضا عن التعبئة الجزئية : فأجابت المانيا على قرار روسيا بان وجهت في 31 تموز انذارين : الأول لروسيا والثاني لفرنسا: ثم كان إعلانها للتعبئة العامة في الأول من آب فما كان من فرنسا إلا أن جاوبت على الإنذار الالماني بإعلانها للتعبئة العامة في نفس اليوم، تدليلا منها على تأييدها التام لحليفتها روسيا.
والسؤال هنا: ماهو موقف بريطانيا من قرارات التعبئة العامة هذه؟ لقد رفضت بريطانيا أعلان التعبئة العامة كما أنها أعلنت بتاريخ أول آب ، بأنها غير ملزمة بتقديم المساعدة العسكرية إلى فرنسا وهذا ما ساهم في أسراع المانيا بإعطاء الأوامر إلى جيوشها ، في 2 آب 1914م ، بالتوجه إلى فرنسا عبر الحدود البلجيكية على الرغم من حياد هذه الاخيرة وكانت المانيا ترمي من وراء ذلك إلى مفاجأة الجيش الفرنسي وانهاء المعركة معه بسرعة لتعود وتصفي حسابها مع روسيا ولكن المخططات الالمانية باءت بالفشل، وذلك لسبيين: الأول يتعلق بصمود القوات البلجيكية التي حالت دون مفاجأة الجيش الفرنسي والثاني يتعلق بالموقف البريطاني فقد كان لأقدام القوات الالمانية على خرق حياد بلجيكا ردود فعل قوية لدى الحكومة البريطانية والرأي العام البريطاني، معتبرين أن احتلال الأراضي البلجيكية من قبل دولة كبرى يهدد سلامة الجزر البريطانية من جهة ، كما أن مصلحة بريطانيا العليا تقضي بعدم السماح لألمانيا أو لأية دولة أوروبية بان تزعزع أسس التوازن الأوروبي من جهة ثانية .. فما كان من الحكومة البريطانية إلا أن عدلت من موقفها وسارعت إلى مشاركة حليفاتها فعليا في 4 آب من عام 1914م وبهذا الشكل تكون الدول الأوروبية التي شاركت في الحرب في خلال أسبوع من اندلاعها هي الدول التالية:
فرنسا، روسيا، بريطانيا، بلجيكا، وصربيا، وتكون جميعها ، جبهة دول التفاهم ضد جبهة دول التحالف أو دول تكتل الوسط التي تمثلت في بداية الحرب بالإمبراطوريتين الالمانية والنمساوية – الهنغارية ومع تطور الحرب استطاعت هذه الدول أن تجر إلى ساحة المعركة بعض الدول الأخرى وهكذا ما لبث العالم أن أصبح مسرحا لمجزرة بشرية عامة اشتركت فيها معظم الأمم.
ان الساسة والمفكرين وان اختلفوا في تقدير فترة استمرار الحرب لدى اندلاعها ، إذ قدرها البعض بفترة شهور وزعم البعض الآخر بانها ستدوم سنة على الأكثر إلا أنهم جميعهم عادوا واتفقوا بانها ستكون طويلة الأمد، وذلك بعد ايام قلائل من اندلاعها وخاصة بعد ان فشلت المخططات العسكرية الالمانية الرامية إلى مفاجأة القوات الفرنسية وسحقها ثم الالتفاف نحو القوات الروسية لسحقها بالتنسيق مع القوات النمساوية.
إذن، بعد فشل المخططات الالمانية أضحت الحرب عملا دبلوماسيا بالإضافة إلى العمليات العسكرية، فاتجهت نشاطات الدول إلى تقوية جبهاتها الداخلية وتنظيم اوضاعها الاقتصادية من جهة وإلى كسب الصداقات الدولية من جهة ثانية.
لقد برزت بالنسبة للأوضاع الداخلية مشكلة تموين الجيوش بالرجال والعتاد وذلك على إثر الخسائر الفادحة التي منيت بها الجيوش المتقاتلة في الأشهر الأولى للحرب، والتي فاقت كل التنبؤات فالدول لم تكن تتوقع حربا طويلة الأمد، ولم تفكر في التحضير لصنع الاعتدة الحربية، ظنا منها أن ما تختزنه من مدافع كاف لكسب المعركة .. إذن لا احتلال المانيا لبعض مناطق الاعداء،: بلجيكا ، شمالي فرنسا الغني بإنتاج الفحم الحجري ومناجم الحديد ولا استمرار اتصال الدول المتفاهمة: فرنسا وبريطانيا بالعالم الخارجي وخاصة بالمستعمرات ، حال دون تحويل اقتصاديات هذه الدول إلى اقتصاد حربي، إذ لم تلبث أجهزة الإنتاج ، وهي اجهزة دقيقة ومعقدة، أن تعطلت فجأة فالتزمت كل حكومة بإجراءات ثورية، وتولت بنفسها، إدارة الاقتصاد الوطني، ووضعه تحت سلطتها لتتمكن من امداد الجيوش بالمعدات والمؤن، وتأمين أسباب العيش للمواطنين.
ان استمرار الاتصال بين الدول المتفاهمة والعالم الخارجي وتأمين تدفق المواد الاولية لصناعات هذه الدول والجند لجيوشها لم يشكل السبب الوحيد في ترجيح كفتها في الحرب على دول تكتل الوسط وأن كان للحرب الدبلوماسية وكسبها للصداقات الدولية، وخاصة في خارج القارة الأوروبية التأثير القوي على مجريات الحرب.. ولكن هذا لا يعني أن دبلوماسية دول تكتل الوسط قد باءت بالفشل الكلي فهي قد تمكنت من جر بعض الدول الاوربية إلى جانبها ومن تحقيق التوازن النسبي الذي من دونه ما كانت الحرب لتستمر حوالي أربعة أعوام.. ولهذا فانه بإمكاننا تقسيم مراحل الحرب إلى مرحلتين أساسيتين :الأولى: المرحلة الأوربية أو مرحلة التوازن بين القوى المتحاربة، الثانية: المرحلة العالمية أو مرحلة دخول الولايات المتحدة الأمريكية للحرب واختلال التوازن لصالح الدول المتفاهمة.
•    من كتاب: العلاقات الدولية في القرن العشرين .. لـ د/ رياض الصمد- بتصرف.               " يتبع"