سبتمبر 1, 2021 - 17:42
أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية بين مطرقة الفساد وسندان الأنانية
عرب جورنال

بيد أن لبنان -باعتباره مركزًا من أهم مراكز التنوير العربي ومضرب المثل في التقدم والرقي- كان قد تمكن -بمستوى وعيه المتقدم- من التغلب على هذه المعضلة المستفحلة، وكاد أن يخرج من عنق الزجاجة، لولا الأيادي الخارجية التي تسعى إلى دعم الطوائف الدينية والأحزاب السياسية حتى تتمكن من دعمها من جعل لبنان منطقة نفوذٍ لها، فنتج عن ذلك التدخل تبوئ "ميشل عون" الذي كان عام 1998 مجرد متمرد كرسي الرئاسة، وتأبد "سعد الحريري" -اتكاءً على الإرث السياسي لوالده الشهيد- في رئاسة الحكومة بصورة شبه دائمة، وكلا الرجلين مسنود بتحالفات داخلية وبأطراف دولية، ولكل منهما رؤيته التي تتبنى أجندات الأطراف -خارجية كانت أو داخلية- التي دعمته بالإضافة إلى مصالح ذويه ومصالح أسرته.

عدم تحليهما بالحكمة أطال أمد الأزمة

يكاد العامان ينطويان على بدء حدوث أزمة تشكيل الحكومة في لبنان ولمَّا تتشكل إلى الآن، فقد بدأت الأزمة -في ضوء ما ورد في مقال تحليلي للدكتور "نزار عبدالقادر" بعنوان "أزمة تشكيل الحكومة في لبنان: التعقيدات والمعوقات" الذي نشر في "مركز الإمارات للسياسات" بتأريخ 26 مايو الماضي- (بعد استقالة حكومة الحريري على أثر اندلاع انتفاضة شعبية عارمة في 17 أكتوبر عام 2019 وذلك احتجاجاً على قرارٍ حكومي بزيادة الرسوم على خدمات الهاتف الخليوي، وفي ظل حالة من التململ الشعبي من حالة الضيق الاقتصادي والاجتماعي، وبعد انقضاء ما يزيد على ثلاثة أشهر من استقالة حكومة الحريري نجح عهد الرئيس عون في تشكيل حكومة "إصلاحية" برئاسة الدكتور "حسّان دياب"، وبعضوية أشخاص من خارج الطبقة السياسية، جرى اختيارهم من قبل الأحزاب والكتل البرلمانية.

لكن الأحزاب والكتل المعارضة اعتبرت حكومة دياب ذات لون واحد، وواجهتها جماهير الانتفاضة بالرفض، وطالبت بإسقاطها. ولم يستطع خطر فيروس كورونا المستجد وقف التظاهرات والاحتجاجات ضد الحكومة. وأعطت أحزاب المعارضة فرصة للحكومة، لكنّها سرعان ما عادت لترفع صوتها المتململ من أداء الحكومة ورئاسة الجمهورية ومن خلفهما التيار الوطني الحر).

ولأن حكومة حسان دياب قد عكست طيفًا سياسيًّا واحدًا بالإضافة إلى تشكيلها على عجل فقد مُنيت بالفشل، فأرغمتها المظاهرات الشعبية على الاستقالة في غضون شهرٍ أو أقل، إذْ ورد في المصدر السابق: (في الواقع فشلت حكومة دياب في الوفاء بأيّ من تعهّداتها، كما فشلت في ضبط الوضعين الاقتصادي والنقدي، إذ لامس سعر صرف الليرة مقابل الدولار عتبة 15000 ليرة، ثمّ إن حكومة دياب أُجبِرت على الاستقالة بعد أن فاجأها الانفجار المدمّر في مرفأ بيروت، في 4 أغسطس 2020، والذي تسبّب بموت 204 من المواطنين وجرح 6000 آخرين، بالإضافة الى تدمير ما يقارب ثلث مدينة بيروت. ويُدرك الجميع أن استقالة حكومة دياب جاءت تحت ضغط الشارع، المُطالب أيضاً باستقالة رئيس الجمهورية).

انهيار الاقتصاد مؤشر على تجذُّر الفساد

لعل كافة النخب السياسية اللبنانية منغمسة في مستنقع الفساد الذي يلتهم حاضر ومستقبل البلاد والذي اعتبره حسان دياب أكبر عائق حال دون نجاح حكومته، فقد جاء ضمن تقرير إخباري لـ"موقع (BBG)" نشر في 15 يوليو الماضي التالي: (ويستحضر اللبنانيون ما قاله حسان دياب في خطاب استقالته من أن "منظومة الفساد متجذرة في كل مفاصل الدولة"، وأنه اكتشف أن "منظومة الفساد أكبر من الدولة، وأن الدولة مكبلة بهذه المنظومة، ولا تستطيع مواجهتها أو التخلص منها").

ولأن النخب السياسية اللبنانية بشكل عام واقعة -في معرض الحديث عن الفساد- تحت طائلة الاتهام فها هي مطالبة جميعها من أطراف دولية فاعلة بانتشال لبنان من بين براثن الفساد المتغلغلة في مفاصله منذ سنوات طائلة، فقد ورد في تقرير "موقع (BBC)" -في سياق الإشارة إلى جهود دبلوماسيتين غربيتين في محاولة منهما لحلحلة الأزمة اللبنانية-: (وشددت السفيرة الأمريكية في لبنان، "دوروثي شيا"، ونظيرتها الفرنسية "آن غريو" الثلاثاء 8 يوليو على أن "إجراءات ملموسة يتخذها قادة لبنان لمعالجة عقود من سوء الإدارة والفساد ستكون حاسمة لإطلاق دعم إضافي من فرنسا والولايات المتحدة والشركاء الإقليمين والدوليين").

وها هو تمادي المفسدين في معاقرة مفاسدهم المالية يوشك أن يُعرِّض أكابر مجرميها لعقوبات دولية، فقد اشتملت متابعات لمستجدات الأزمة تحت عنوان "أزمة لبنان السياسية تتفاقم.. الحريري يعتذر عن تشكيل الحكومة وبلينكن يحذر من التداعيات الاقتصادية" نشرت في "الجزيرة نت" منتصف يوليو الماضي على الآتي: (ويوم الاثنين الماضي أعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي عن توجهٍ لفرض عقوبات على قادة مسؤولين لبنانيين عن التعطيل)، كما أورد موقع BBC في متبعات إخبارية بعنوان "لبنان: ماذا بعد اعتذار الحريري عن تشكيل الحكومة؟" نشرت في اليوم ذاته ما نصه: (كما هدد الاتحاد الأوروبي بإمكانية فرض عقوبات مباشرة على المسؤولين اللبنانيين إذا لم يتحركوا لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي).

عامل الأنانية يُفاقم الأزمة اللبنانية

إذا كانت بداية أزمة تشكيل الحكومة بصفة عامة ترجع -كما أسلفنا- إلى أكتوبر 2019، فإن وصولها إلى مستوى متقدم من التفاقُم يعود إلى أكثر من عشرة شهور عند ما قبل الحرير -تجاوبا مع الضغوطات الغربية وبالذات الفرنسية- في أغسطس 2020 التكليف بتشكيل حكومة كفاءات خلفا لحكومة "حسان دياب" المستقيلة، فقد جاء في طيات تقرير "أزمة تشكيل الحكومة في لبنان: التعقيدات والمعوقات" السالفة الإشارة إليه: (أعلن الحريري بعد قبوله التكليف أنه سيسعى لتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين تعمل على "تطبيق الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الواردة في مبادرة ماكرون"، والتي كانت قد التزمت الكتل الرئيسة في البرلمان بدعم الحكومة في تطبيقها)، فلم تتلقَ علمية التشكيل من رئيس الجمهورية الدعم الذي يساعد على تحقيقها، بقدر ما مثلت اشتراطاتُهُ حجرَ عثرةٍ في طريقها، فقد شهدت الأجواء السياسية -بحسب المصدر السابق- (حالة من الشك والغموض، خصوصاً من خلال محاولات الرئيس عون وتياره فرض معاييرهم على الرئيس المكلف بدءًا من البدعة العونية الباحثة عن "التأليف قبل التكليف"، وشكّلت مطالب الرئيس عون وتياره بتسمية الوزراء المسيحيين -بالإضافة إلى أن يكون لهم "الثلث المعطّل" داخل مجلس الوزراء بحيث يمكّنهم ذلك من التحكّم بقرارات المجلس وبمصير الحكومة- عائقٌا أمام تشكيل الحكومة المنتظرة، وكان من الطبيعي أن يرفض الرئيس الحريري هذه الإملاءات، وأن يتمسّك بمبدأ حكومة مستقلّة من 18 وزيرًا).

وبالرغم من تكرار التقاء الحريري بعون، فقد تكللت تلك الالتقاءات بالفشل المطلق، فقد نقل الحريري عن عون عقب آخرها الذي كان انعقاده قبل منتصف يوليو -بحسب ما ورد في متابعات موقع "الجزيرة نت"- قوله: (لن نتمكن من أن نتوافق)، وقد فشلت جمع الجهود المبذولة -من وقت إلى آخر- من تضييق الهوَّو وتقريب وجهات النظر.

لكن من الواضح أن الرئيس عون يصر على عرقلة المسار بذريعة الدفاع عن حقوق المسيحيين، بينما ينكر على عون هذا التذرع المشين البطريرك المسيحي الماروني "بشارة بطرس الراعي"، إذْ رد عليه -بحسب ​الدكتور "نزار عبد القادر"- بالقول: (نحن لا نريد الدفاع عن حقوق المسيحيين، بل نريد الدفاع عن حقوق جميع اللبنانيين).

"باسيل" معرقلٌ أصيل في طريق التشكيل

وممَّا لم يعُدْ خافيًا على أحد أنَْ أهم أسباب فشل تشكيل الحكومة اللبنانية يكمن في إصرار الرئيس عون على تمثيل التحالف الداعم له بثلثِ أعضائها وبما يمكنه من إفشال ما لا يروق له من قراراتها، وممَّا يؤكد ذلك الإصرار قول الدكتور "نزار": (وكان البطريرك "الراعي" قد نجح من خلال اتصالاته في كسر المقاطعة القائمة بينهما -أي بين الحريري وعون- منذ تقديم الحريري تشكيلته الحكومية، وبالفعل قَبِلَ الحريري زيارة قصر "بعبدا" في محاولةٍ جديدةٍ لتشكيل الحكومة، لكن عون تعمّد إفشاله من خلال إرساله لائحة بتوزيع الوزارات على الطوائف والقوى السياسية، والتي اعتبرها الحريري بمثابة محاولة مكشوفة لفرض عون تشكيلة حكومية تكرّس حصول التيار على الثلث المعطّل).

وقد بات واضحٌا للجميع أنَّ إصرار الرئيس عون على التكمن الدائم من التعطيل يصب في مصلحة صهره "جبران باسيل"، وفي هذا دليل على أن عون لا يريد أن يغادر كرسي الرئاسة إلا بعد أن يمهد الأوضاع لصهره "باسيل" لاعتلائه، وقد أشار إلى ذلك الإصرار السافر الدكتور "نزار عبدالقادر" بقوله: (تربط معظم القوى الداخلية والخارجية الأسباب التي تعيق تشكيل الحكومة بتشبّث الرئيس عون وتيّاره السياسي بالحصول على الثلث المعطّل، رغم أنّه ينفي ذلك. ناهيك عن السعي الحثيث لإعادة تأهيل "جبران باسيل" {صهر الرئيس} سياسيٌّا، تمهيدًا لإلغاء العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، وبالتالي دعم معركته لرئاسة الجمهورية عام 2022).

والأدهى والأمر أن ما يعمد إليه عون وصهره جبران باسل من إصرار لم يدع أمام اللبنانيين من خيار سوى القبول بمستقبل أشد فسادًا أو الانتحار، وليس أدل على ذلك من قول الدكتور "نزار عبدالقادر" في مقاله "عقدة باسيل.. وسقوط الجمهورية" الذي نشر افتتاحيةً لصحيفة اللواء اللبنانية في 12 مايو الماضي -في معرض انتقاده استمتاعهما بما يُسببونه لبلدهما من ألم-: (وكلّ ذلك يُؤكّد على استمرار "عقدة باسيل"، والتي ترفع شعارًا مفاده "باسيل، أو الفوضى وجهنّم").