مارس 26, 2024 - 21:55
فردريك بانتنج مكتشف  هرمون الأنسولين


خالد الأشموري
تميز القرن العشرون بانطلاق الأبحاث العلمية والطبية إلى آفاق جديدة واسعة فتم الكشف فيه عن الكثير من الأمراض وأسبابها وطرق علاجها سواء بالمضادات الحيوية أو بالفيتامينات أو بالعقاقير الكثيرة الأخرى، كما تم اكتشاف الهرمونات التي تنتجها الغدد الصماء والتي يتسبب نقصها في الإصابة ببعض الأمراض الخطيرة مثل مرض السكري الذي كان يؤدي إلى الوفاة الحتمية لولا اكتشاف الأنسولين بواسطة العالم الكندي سير فردريك جرانت بانتنج ومساعده تشارلز بست في أواخر عام ۱۹۲۱م وقد فاز بانتنج بفضل اكتشاف الأنسولين بجائزة نوبل في الطب في عام ١٩٢٣م.
ولد فردريك بانتنج بمدينة الليستون بولاية أونتاريو الكندية في ١٤ نوفمبر من عام ۱۸۹۱م لأسرة عريقة في مهنة الكهنوت وأثناء دراسته لم يكن طالباً متفوقاً ، ولم يكن يميل إلى دراسة العلوم أو اللغات، بل كان يجيد رسم اللوحات الزيتية ولم يخطر بباله يوما أن يصبح باحثا في العلم أو طبيبا مشهورا، إلا أن القدر كان يختزن له مفاجأة غيّرت مجرى حياته فقد حدث ذات يوم أثناء عودته من المدرسة في طريقه إلى المنزل أن توقف عن السير بسبب حادث أليم وقع لعاملين من عمال البناء عندما انهارت السقالة تحت قدميهما وسقطا على الأرض عندئذ أسرع الصبي فردريك بإحضار أقرب طبيب لإسعاف المصابين، وتولى مساعدة الطبيب في عمله وفي تلك اللحظة اعترى فردريك شعور جارف هز كيانه بقيمة الجانب الإنساني في مهنة الطب ومنذ ذلك اليوم أصبحت أعظم أمنية له هي أن يصبح طبيباً .
بعد أن أتم فردريك دراسته الثانوية في عام ١٩١٠م اتجه إلى دراسة الطب بجامعة فيكتوريا بمدينة تورونتو وبعد شهرين من تخرجه في كلية الطب عام ١٩١٦م جُنّد طبيباً في الجيش الكندي في إحدى الوحدات التي كانت تعمل في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل إلى فرنسا حيث اعتقله الألمان ولكنه تمكن من الفرار وعاد إلى صفوف الجيش حيث أصيبت ذراعه بشظية استقرت فيها وكادت تؤدي إلى بترها .
ولما انتهت الحرب في عام ۱۹۱۸م عاد فردريك إلى مسقط رأسه في كندا ليعمل مع أستاذه د. کلیرانس ليزلي الجراح الكبير في مستشفى الأطفال بمدينة تورونتو وبعد عام من العمل بهذا المستشفى فتح عيادة خاصة مع أحد زملائه، ولكنه لم ينجح فقرر أن يلتحق بالعمل في كلية الطب بجامعة وسترن تورونتو.
في أثناء تلك الفترة تقدم فردريك إلى البروفسور ميللر أستاذ الفسيولوجيا بكلية الطب عارضاً مساعدته في أبحاثه، فوافق ميللر على ذلك، وكانت تلك هي بداية ممارسة فردريك للبحوث الخاصة بخلايا المخ البشري.
ولكن في يوم ٣٠ أكتوبر من عام ١٩٢٠م وقعت عين فردريك بانتنج على مقال في مجلة "الجراحة وأمراض النساء والولادة" بقلم العالم الأمريكي د. موسيس بارون الأستاذ بجامعة مينا بوليس تحت عنوان "العلاقة بين جزيرات لانجرهانز في البنكرياس وداء السكري مع إشارة خاصة لحالات التحوصل البنكرياسي.. وقد ذكر د موسيس في مقاله أن علاقة غدة البنكرياس بداء السكري اكتشفت للمرة الأولى بطريق المصادفة في عام ۱۸۸۹م على يد البروفسور برنار فوينين الأستاذ بجامعة ستراسبورج أثناء دراسته عملية الهضم وكان يعاونه اثنان من طلبته فقد حدث أثناء مرور البروفسور نوينين في المستشفى أنه لاحظ أسراباً من الذباب تحوم حول كمية من بول الكلاب التي انتزع منها البنكرياس، فقام بتحليل بول الكلاب ووجد أنه يحتوي على نسبة كبيرة من السكر.
وهكذا اتضح أن استئصال غدة البنكرياس من الكلاب يؤدي إلى ظهور أعراض إصابتها بمرض السكري.
وبعد ذلك بخمس سنوات قام العالمان فايار وأرنوزان بربط القنوات البنكرياسية لحيوانات التجارب، وكانت الأرانب هي التي استخدمت لذلك واحتفظا بالحيوان حياً حتى أخذت غدة البنكرياس في الضمور، ولكن لم تظهر على الحيوان أعراض الإصابة بداء السكري فقام الباحثان بفحص قطاعات من هذه الغدة تحت الميكروسكوب فاتضح أنه توجد "اوكار"، صغيرة هي عبارة عن مجموعة من الخلايا اطلق عليها اسم "جزيرات لانجرهانز"، نسبة إلى مكتشفها وقد وجد أن هذه الجزيرات لم تتأثر بريط القنوات البنكرياسية ولم يصبها الضمور الذي أصاب بقية غدة البنكرياس.. ومن هنا ساد الاعتقاد بأن هذه الجزيرات قد تكون مصدر هرمون خاص هو المسئول عن تحويل السكر إلى الصورة الضرورية لأنسجة الجسم، وهي العملية التي يفشل جسم المريض بداء السكري في إتمامها ، ولكن هذه الفكرة لم تتأكد لأن أحداً لم يستطع أن يفصل هذا الهرمون.
كتب فردريك بانتنج في مذكراته أنه في الساعة الثانية بعد منتصف الليل من يوم ٣١ أكتوبر من عام ۱۹۲٠ م، ومضت بباله الفكرة التي كانت مفتاح النجاح في أبحاثه، فقد هداه تفكيره إلى أن غدة البنكرياس تفرز خمائر تقوم بهضم المواد البروتينية. أليس إذن من المحتمل أن تكون هذه الخمائر نفسها مسئولة عن هضم وتحليل الهرمون الذي تفرزه جزيرات لانجرهانز"، وهو الهرمون الذي يؤدي عدم وجوده إلى ظهور أعراض مرض السكري، وعلى ذلك فإن هذا الهرمون يتحلل قبل استخلاصه من غدة البنكرياس؟
وحاول بانتنج أن يقنع البروفسور ميللر بأن تتجه أبحاثهما إلى مرض السكري بدلاً من المخ البشري، ولكنه فشل في ذلك وعندما تأكد ميللر من تصميم بانتنج على رأيه نصحه بالانتقال إلى جامعة تورونتو حيث يرأس البروفسور ماكليود قسم الفسيولوجيا هناك، وهو صاحب خبرة في أبحاث مرض السكري وعرض بانتنج فكرته على البروفسور ماكليود الذي لم يتحمس هو الآخر لفكرة بانتتج، وبعد جهد جهيد وافق ماكليود على السماح له بإجراء تجاربه لمدة ثمانية أسابيع فقط في معمل حقير به عشرة كلاب كحيوانات تجارب مع مساعد مازال طالباً لم يحصل بعد على بكالوريوس العلوم.
الطريق إلى نوبل
لم يبدأ فريدريك بانتنج العمل إلا في ١٦ مايو ۱۹۲۱م بجامعة تورونتو في ركن صغير بدائي التجهيز يضم عشرة من الكلاب، أما مساعده تشارلز بست فكان قد حصل على درجته الجامعية في الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية.
وبعد أن فشل بانتنج في عدة تجارب، كان من حسن حظه أن سافر ماكليود إلى أوربا فأصبح أمامه متسع من الوقت لمواصلة أبحاثه، وفي يوم ٢٧ يوليو اشترك بانتنج ومساعده بست في تخدير أحد الكلاب  بالكلوروفورم، وعند فتح البطن واختبار غدة البنكرياس التي سبق ربط قنواتها وجد أن الغدة قد ضمرت إلى ثلث حجمها تقريبا ، وبعد استئصال الغدة الضامرة قطعت إلى شرائح رقيقة وطحنت جيدا ثم استخلصت كمية ضئيلة من عصارتها، بعد ذلك أحضر الباحثان أحد الكلاب المصابة بداء السكري، وكان الكلب في شبه غيبوبة، وتم حقنه بالخلاصة التي حصل عليها الباحثان ... ومرت ساعتان فقط وحدث ما لم يتصوره أحد، فالكلب الذي كان على وشك الموت أفاق من غيبوبته ووقف على أرجله وراح يهز ذيله في سعادة بعودته إلى الحياة.
وبمواصلة التجارب تحقق بانتنج وبست من نجاح أبحاثهما وثبت أن هناك فعلا هرمونا مضادا لمرض السكري تفرزه جزيرات لانجرهانز أطلقا عليه اسم "أيلتين" نسبة إلى الاسم الإنجليزي للجزيرات ولكن بعد عودة ماكليود من أوربا رأى أن يغير الاسم إلى "أنسولين" وقد اتضح بعد ذلك أن الأنسولين لا يشفي من مرض السكري، ولكن الحقن المنتظم به يمكن المريض من مواصلة حياته بشكل طبيعي. وبعد أبحاث مضنية اهتدى بانتنج ومساعده بست إلى كنز للأنسولين وهو جنين البقر.
بعد عودة ماكليود من أوربا وتأكده من نجاح أبحاث بانتنج، أسرع بإعلان اكتشاف الأنسولين، وكانت النتيجة أن منحت جائزة نوبل في الطب في عام ١٩٢٣م لماكليود مناصفة مع فردريك جرانت بانتيج، فثار الأخير ثورة عارمة واعترض على قرار لجنة نوبل واشترط أن تمنح الجائزة له شخصيا ولا مانع من أن يشترك معه ماكليود على أن يشاركه أيضا مساعده تشارلز بست فحققت له اللجنة رغبته.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات منحته ملكة بريطانيا إليزابيث الأولى لقب "سير" وعند نشوب الحرب العالمية الثانية انتقل بانتنج إلى صفوف الجيش الكندي لإجراء البحوث الطبية الخاصة بطب الطيران، وفي إحدى الرحلات الخاصة بعمله تحطمت الطائرة التي كانت تقله فوق نيوفوند لاند وهو في طريقه إلى بريطانيا فمات في ٢١ فبراير ١٩٤١م.
اكتشاف التركيب الجزيئي
في عام ۱۹۲٦م تمكن العالم أبيل من الحصول على الأنسولين في صورة بلورات نقية ووصفه بأنه نوع من البروتين وفي عام ١٩٥٥م تمكن الدكتور فردريك سانجر من معرفة التركيب الكيميائي لجزيء الأنسولين بعد أبحاث شاقة في معمله بجامعة كمبريدج ببريطانيا وقد استحق على هذا الاكتشاف جائزة نوبل في الكيمياء في عام ١٩٥٨م وقد اتضح أن جزيء الأنسولين يحتوي على سلسلتين من الأحماض الأمينية، تحتوي الأولى منهما على ۲۱ حامضاً والثانية على ٣٠ حامضاً أمينياً، وترتبط السلسلتان بذرات من الكبريت.. بعد اكتشاف التركيب الجزيئي للأنسولين بواسطة الدكتور سانجر استمرت الأبحاث لتخليق وتطوير أنواع مختلفة من الأنسولين تستخرج من الحيوانات مثل البقر أو الخنزير إلى أن توصل العلماء في العقد الأخير من القرن العشرين لإنتاج نوع من الأنسولين يستخرج من البشر.. وسنذكر في ما يلي أهم الأنواع التي تستخدم في علاج مرض السكر من النوع الأول الذي يعتمد في علاجه على الأنسولين:
1-     الأنسولين المحايد وهو أنسولين ذائب في الماء ويستخرج من البقر أو الخنزير أو الإنسان ويبدأ مفعوله بعد ساعة واحدة من حقنه ويستمر من ٦-٨ ساعات.
2-    أنسولين بشري يبدأ مفعوله بعد نصف ساعة ويستمر من ٦-٨ ساعات. 
3-    أنسولين زنك معلق بطيء المفعول ويستخرج من البقر أو الخنزير ويبدأ مفعوله بعد ساعة إلى ثلاث ساعات ويستمر من ١٨-٢٤ ساعة. 
4-    أنسولين زنك متبلور ويستخرج من الإنسان ويبدأ مفعوله بعد ثلاث ساعات ويستمر ۲۸ ساعة ويوجد منه نوع آخر أشد بطئاً إذ يبدأ مفعوله بعد أربع ساعات، ويستمر من ٢٤-٤٨ ساعة ويتميز الأنسولين البشري بأن الجسم لا يفرز أجساما مضادة له إلا في أضيق الحدود.. ومن المعروف أن مقاومة الأنسولين تجبر المريض على استعمال كميات أكبر من الدواء مما يؤدي إلى أمراض مناعية تقلل من تأثيره على الجسم، كما يمكن أن تؤدي - بسبب كبر الكميات المستعملة - إلى نقص مفاجئ للسكر في الدم.
5-    توجد أنواع أخرى تستخرج من الخميرة عن طريق الهندسة الوراثية وخالية من أي مصدر حيواني ويستمر مفعولها مدة ٢٤ ساعة. 
•    أنيس فهمي – طبيب وكاتب من مصر.