فبراير 24, 2024 - 15:55
اجتياح رفح أولية إسرائيلية في استعادة الرهائن


توفيق سلاّم


النظام العربي الرسمي ظل إلى ما بعد الربيع العربي يرمم نفسه ويستعيد أنفاسه، وأخذت إسرائيل فرصتها للتطبيع، مع الأنظمة العربية، والاستفراد بالوضع الفلسطيني، في ظل عالم عربي تُحاول فيه القيادات الجديدة أو الناجية من الفكفكة، تقديم الولاء والطاعة لأمريكا ونظامها الليبرالي المصاب بالأمركة، وتأثر المقاومات الوطنية والإسلامية بأجواء الحروب الداخلية والمناكفات الطائفية، بشكل أو بآخر، ساعد هذا الوضع العربي الهش، على منح إسرائيل تلك اللحظة التاريخية المواتية للعمل على مشروع صهيوني يحلم بمزيد من التوسع والهيمنة، مستندًا إلى أوهامه وذاكرته الإجرامية، فاستفرد المستوطنون والقيادات الإسرائيلية بالوضع الفلسطيني لإحداث تغيير ديموغرافي في التركيبة السكانية، وخططه الجيوسياسية مسنودًا بالدعم الأمريكي والتطبيع العربي. وممّا زاد الأمر تعقيدًا وتسارعًا وصول حكومة يمينية متطرفة للكيان، تحاول تنفيذ وظائفها للمشاريع الاستعمارية الغربية في المنطقة، وجعلها حصريًا تحت النفوذ الغربي الذي بدأ يتآكل في ضوء المنافسة الاقتصادية للصين وروسيا.

المؤامرة العربية 

فضحت غزّة هذا النظام العربي الرسمي الهش، الذي لم يستطع إيصال الماء والغذاء لسكان غزة، وعجز أن يُغلق سفارة صهيونية واحدة، متواطئًا مع جرائم الاحتلال، ولم يستطع حتى أن يكون حياديًا، فارتباطاته بالكيان الصهيوني باتفاقيات سلام،  وخضوعه المفرط للكيان الصهيوني، جعله لا يجرؤ على الحياد، فهو منخرط في حصار غزة وتجويعها وخذلانها، مقدمًا خدمة تاريخية لجيش الاحتلال.  فالنظام العربي يُعاني من سوءة تاريخية مزمنة، بل هو جزء من المشكلة، بما في ذلك وضع السلطة الفلسطينية التي أبانت عن عجزها المخزي في التفاعل مع الحدث، ومشكلة فلسطين نسبتها الكبيرة عربية. فالمؤامرة الرسمية العربية على غزة أوضح من أن تُشرح، ولو أن النظام العربي تحمل مسؤوليته لانتهت أزمة غزة في أيام أو أسابيع على الأكثر.
 مفارقات العصر الأمريكي هو أن تُصبح الهيئات الدولية في وضع المتهم والمدافع عن نفسها في سياق الدعايات الصهيونية والأمريكية، وأبان هذا النظام الدولي المنهك عن عجز وضعف لم يسعفه للدفاع عن نفسه أو عن غيره.
للأسف كانت معظم مظاهرات التأييد لغزة والدفاع عنها تأتي من دول غربية، أمّا المجتمعات العربية كانت تخفي ضعف وجُبن النخب العربية، وخذلان المجتمعات العربية التي دجّنتها سنوات القهر والظلم والتجهيل وتزييف الوعي، جعلت من الملايين العربية في حالة من التشتت والتفكك الغريب. وهذا الإمعان في خذلان غزّة يستدعي مزيدًا من الجُهد لإعادة بناء الوعي بقضايانا الكبرى بعيدًا عن ذلك الترف الفكري المرتبط بالأنظمة والمصالح الضيقة والحسابات الصغيرة.
ومع كل هذا الاهتراء في الوضع العربي والعالمي، يبدو أنّ غزة تفتح أمام العالم بوابة الخلاص من العصر الأمريكي وهيمنته، نحو عالم جديد، ونظام عالمي جديد، يمنح الشعوب عدالة المصير في عالم إنساني لا يكون فيه لقوى الطغيان هذه الهيمنة والسيطرة على الشعوب والمجتمعات وإرهابها بالأسلحة الفتّاكة وتزييف وعيها الآدمي وقيمها المشتركة. ولاشك أنّ العالم العربي والإسلامي يأتي دوره اليوم في هذا التغيير والبداية من غزّة.

المظاهرات العالمية في التأييد لغزة وإدانة جرائم الصهاينة، وموقف بعض الدول مثل جنوب أفريقيا وإيرلندا، والبرازيل وكوبا، وغيرها وفريق من الشخصيات العالمية، يمنح بوادر أمل في حراك عالمي يتوسع، بما في ذلك داخل الشعب الأمريكي، والتحولات الارتدادية المرتقبة في عالمنا العربي والإسلامي ستعيد بإذن الله لرباط غزة وجهادها ومقاومتها مداها في دفع صولة جيش الاحتلال، منها مشاركة جبهة اليمن وجبهة لبنان، والعراق وسوريا، وتغيّر في المواقف العربية والإسلاميّة نحو المواجهة الصارمة. فصولة الجيش الصهيوني وصلت إلى ذروتها، والآن تأتي لحظة التلاشي والانهيار، ثم لحظة دفع الثمن، وكل هذا المخاض هو بداية النهاية..!


قرار حكومة الصهاينة 

من الواضح أن ثمّة قراراً داخل إسرائيل بمواصلة الحرب على غزّة، بإجماع يعكس رغبة إسرائيلية بإحكام السيطرة على غزة، وإعادة احتلالها. ولا يبدو أن الضفة الغربية بعيدة عن هذا المخطط الإجرامي. نحن نتحدث عن كيان صهيوني فاشي اعتاد على سلوك القتل والإرهاب منذ استيطانه الأراضي الفلسطينية منذ العام 1948، هذه السيناريوهات يتفق فيها الكيان الصهيوني مع الإدارة الأمريكية، ومع دول الغرب، وليس هناك أي خلاف بين هذه العصابات الدولية، وكل ما يقال في الإعلام عن ضغوط أمريكية هي من قبيل التبرير لإدارة بايدن تورطها واشتراكها في جرائم حرب الإبادة على المدنيين في قطاع غزة.
ويشكِّل التهديد الصهيوني بمواصلة الهجوم على رفح المحاذية لمصر خطراً وشيكاً، على الأمن القومي العربي، ويمكن أن ينشأ عنه ضحايا بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات الحالية لايجاد مأساة لكارثة إنسانية خطيرة، خصوصاً وأن رفح كانت الملاذ الأخير لكل من التجأ إليها من الأماكن الساخنة في وسط غزّة وشمالها، وهي تؤوي اليوم حوالى المليون ونصف المليون فلسطيني.
نتنياهو الجزار، لا يهمه تقدّيم خطط لإخلاء سكان رفح ونقلهم إلى مخيّمات جديدة، إلى منطقة المواصي، فلادليفا أو غيرهما، على شاطئ البحر غرب غزّة، هذا فقط ما يحاول الإعلام الصهيوني توصيله للجمهور بأن الصهاينة، تهمهم مسألة توفير وسيلةً آمنة تجنّبهم التعرّض لنيران الحرب، وهذه بحد ذاتها جريمة حرب، لكن إسرائيل لا يهمها كل ذلك، لأن مسألة إبادة السكان، هي ضمن أجندتها السياسية، والدينية والثقافية.
الإدارة الأمريكية تدرك كل ذلك، وهي تعلم مسبقًا أن إسرائيل سترتكب حماقات  في إبادة المدنيين، وأصبح العالم يدرك مسؤولية الولايات المتحدة في ما تقوم به إسرائيل من حملات إبادة وتطهير عرقي بحق المدنيين، ومحو وجودهم.

مخاوف أمريكية 

هناك مخاوف أمريكية من فضاعة، ووحشية المجازر الجماعية التي يقوم بها جيش الكيان بحق السكان المدنيين، وفي رفح ستكون هناك مجازر فضيعة، وهذه الجرائم ستقلب الأمور رأسًا على عقب، لا سيما وأن المنطقة مهيأة للانفجار، وهناك تغير نسبي في المواقف العربية. ومؤخرا تقدمت مصر بمذكرة قانونية لمحكمة العدل الدولية حول الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
وفي حال اشتعال فتيل الحرب في المنطقة، لن يكون بمقدور الولايات المتحدة السيطرة على الأوضاع أو إخماد حرائقها  باعتبارها طرفًا منحازًا وداعمًا لإسرائيل، وهي في قلب المعركة.
لهذا السبب تبدو هناك محاذير، ومخاوف كبيرة، في تأخّير الهجوم البري على رفح، ريثما يقنع الجانب الإسرائيلي إدارة بايدن بخطة إخلاء بعض المدنيين إلى منطقة المواصي، بهدف تقطيع المدينة، أو يقدّم بديلاً مرضيًا.. وهذه جزء من الضغوط على حماس لكي تتنازل، عن شروطها والقبول بإطلاق الأسرى قبل شهر رمضان المبارك. لكن في كل الأحوال نتنياهو سيرتكب حماقة جريمة حرب، فهو يحتاج لتحقيق نصر كامل غير منقوص من دون تأخير في حساباته السياسية لاقناع الداخل، والخصوم والحلفاء باستعادة الهيبة الاسرائيلية، التي مرغت بها المقاومة، والتشبث بسلطته المتهاوية، في ظل الخلافات المحتدمة بين أركان حكمه، وارتفاع الأصوات المطالبة بإقالته من أهالي الأسرى، والمعارضة، وخصوصًا بعد فشله بالافراج عن الأسرى المدنيين والعسكريين، والقضاء على حماس. فيما يرزح بايدن تحت ضغوط انتخابية قوية، ويرغب "باستمالة" الناخبين العرب والمسلمين، وغيرهما من الجاليات الأجنبية المتجنسة، وإرضاء الجمهور الأمريكي الذي أصبح يرى الوحشية الإسرائيلية في الحرب هي بضوء من إدارة بايدن العجوز المصاب بالزهايمير، وكل ذلك يؤثر على شعبيته التي تتناقص أمام منافسه الجمهوري ترامب.


قلب الطاولة على مشاريع التطبيع 


 قلب الطاولة على مشروع الخُرافة الصهيونية، الذي كان يُراد له أن يأخذ من هذه الأمّة عصورًا طويلة، وعلى قطار التطبيع لدهس الحُلم الفلسطيني وإنهاء القضية الفلسطينية، والوجود الفلسطيني برمته.  وعلى النخب العربية إعادة التفكير لهذه الهرولة غير المحسوبة، فإسرائيل تعتبر الأردن هي أرض فلسطينية، هنا الأمر يتعلق بإعادة التقسيم لخارطة "سايكس بيكو"، الدول العربية ستتجزأ إلى كنتونات سياسية صغيرة طائفية ومذهبية، وعرقية. 
وأخيرًا الكيان الصهيوني يريد تسديد طعنة نجلاء في جسم الأمة العربية، من خلال التطبيع مع السعودية، وكان هذا المشروع جاهزًا قبل طوفان الأقصى، خصوصًا بعد التحضيرات الأخيرة لتوقيعه مع السعودية الذي كان على وشك الإعلان عنه. ومازال الصهاينة حتى اليوم، وبعد كل هذه الجرائم في غزة، مخاتلة النظام السعودي لإعلان التطبيع، فقط تتريث السعودية حتى انتهاء الحرب. 


نظام عالمي جديد


الصراع يتمحور حول هذا المتغير العالمي، وأمريكا تتشبث بنظامها الأحادي الاستعماري، وقطبيتها للهيمنة على العالم. وكان لبوادر انبعاث نظام عالمي جديد، مع حرب أوكرانيا وأزمة تايوان وهروب الجيش الأمريكي من أفغانستان، لترتيب أوراقه في الشرق الأوسط، بينما يعمل العالم على نفض غبار عصور الهيمنة والتسلط الأمريكي. ويبدو أنّ العالم أمام تحوّلات عميقة في بنيته وعلاقاته، وأن عالمًا متعدد الأقطاب يُحاول أن يُعيد ترتيب توازناته، وكعادة التحوّلات الكبيرة التي تبدأ من بؤرة تبدو صغيرة، تجلت عربيًا في غزّة، تلك المنطقة الصغيرة التي حملت على عاتقها صدمة العدوان الصهيوني المتواصل، الذي جعل العالم يتعرّى سياسيًا وأخلاقيًا، بما يتيح لتأسيس ترتيب جديد،  ويمنحه فرصة التحرر من العصر الصهيوأمريكي، حيث دفعت الأوضاع في غزّة العالم إلى حالة التعري القيمي الذي يكشف حاجته إلى إنتاج منظومة جديدة في العلاقات الدولية، قائمة على التوازنات، يجنب العالم الاهتراء في ظل الأحادية القطبية التي مزقت العالم، بحروب وصراعات، فرضت مناخات عدم الاستقرار وانتجت اضطرابات كونية، مهددة للأمن والسلم العالميين.

وأخيرًا فإن الحرب العدوانية على غزّة أظهرت الوجه البشع للصهاينة، وحقدهم بارتكاب جرائم إبادة في التطهير العرقي العمدي للشعب الفلسطيني، لا تحترم أي أعراف أو قوانين أو مبادئ أخلاقية أو إنسانيّة، حيث تجاوز الجيش الصهيوني ومرتزقته كل الحدود والخطوط في إقدامه على ذلك الهدم والتفجير للبيوت والمستشفيات والمدارس ودور العبادة، وإقدامه على هذا القتل العبثي للمدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء بشكل همجي، تجاوز كل أساليب التطرف والكراهيّة والوحشية. اليوم يستفيق العالم على خطورة الفكر الصهيوني النازي على العالم والإنسانيّة والسلام العالمي، وكشف حقيقته وعدوانيته على الشعوب. ويبدو اليوم هناك صحوة، وانقلاب في الوعي وفي الفكر السياسي والثقافي حتى أمام أولئك الذين انخدعوا بالمبادئ الغربية، " لعولمة الرأسمالية " لعقود طويلة، فكانت الهزيمة الأخلاقية التي نراها تتعرى بجلاء أمام أعيننا دون الحاجة لأي اجتهادات، وهي بداية نذير لانهيار الأحادية القطبية، ولا نستعجل أمام العقد القادم لنرى هزات هذا النظام يتهاوى.