فبراير 22, 2024 - 16:16
فبراير 22, 2024 - 16:16
هل ستنجح السياسة الفرنسية الجديدة في افريقيا..؟


أنس القباطي


غيرت فرنسا سياستها في التعاطي مع قارة افريقيا، كنوع من التعامل مع الأمر الواقع في منطقة نفوذها التاريخي في الصحراء والساحل الغربي للقارة السمراء، وهذا التعاطي جاء نتيجة الثورات على التواجد في فرنسا في كل من بوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى ومالي والنيجر والغابون، والذي لا تزال تداعياتها قابلة للتوسع الى دول مجاورة ابرزها السنغال وتشاد والكاميرون.


السياسة الفرنسية الجديدة جاءت كنوع من المقاربة للسياسة التي تعتمد عليها روسيا في قارة أفريقيا، حيث اعتمدت موسكو على شركة فاغنر لدعم الدول التي خرجت من تحت النفوذ الفرنسي، من خلال توفير الدعم اللوجستي وتدريب الجيوش في مواجهة الجماعات الارهابية وعديد من اشكال الدعم اللوجستي وتغيير تسليح الجيوش. 


السياسة الفرنسية الجديدة في منطقة نفوذها التاريخي تعتمد بشكل رئيسي على مجموعة "مجلس الدفاع الدولية" وهي شركة عسكرية مرتبطة بشكل غير مباشر بالحكومة الفرنسية، التي تملك 55% من اسهمها، وتعرف هذه الشركة باسم (DCI) وتعمل في خدمة وزارة القوات المسلحة الفرنسية منذ تأسيسها في العام 1972، حيث تقوم بمراقبة عقود تصدير الأسلحة الفرنسية ونقل المعرفة العسكرية ذات الصلة بالعقود، ويعد 80% من موظفيها جنود سابقون في الجيش الفرنسي.


ادركت فرنسا بعد انهيار عدد من الأنظمة الموالية لها في قارة افريقيا ان نفوذها في القارة بات مهددا بالزوال، وتعلم باريس جيدا ان زوال نفوذها من افريقيا يعد تهديدا وجوديا لها، ولذلك اعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن استراتيجية جديدة في أفريقيا خلال جولته في عدد من دول القارة في فبراير/شباط 2023، وخلال تلك الجولة اعلن ماكرون أن بلاده ستخفض "بشكل ملحوظ" نشاطها العسكري في قارة إفريقيا، وستنهي استضافة قواعد عسكرية منتظمة في دول القارة، وستنشئ بدلاً من ذلك أكاديميات عسكرية تشارك في إدارتها الجيوش الفرنسية والإفريقية.


من جانبه قال رئيس أركان القوات الجوية الفرنسية، ستيفان ميل، في سبتمبر/أيلول 2023 أن الجيش الفرنسي سيقلص حضوره في إفريقيا، مقابل تعزيز وجوده في المحيط الهادئ. وبدات بالفعل وزارة الدفاع الفرنسية التوجه لإنتاج طائرات نقل كبيرة متعددة الأدوار من طراز إيرباص. واكد "ميل" أن تلك الطائرات ستلعب دورا رئيسيا في تطوير استراتيجية فرنسا في المحيط الهادئ، حيث ستوكل لها مهمة مساعدة الجيش الفرنسي في الوصول إلى أماكن أكثر بوقت واحد وبصفة دائمة. والواضح من هذه التصريحات ان فرنسا بدأت الاعتماد على شكل جديد للتواجد في افريقيا بعيدا عن الوجود العسكري، ولكنه وجود يعتمد على طريقة استخدام "وكلاء" يدارون عن بعد، وهو ما عدة مراقبون شكلا جديدا للنفوذ الفرنسي في القارة السمراء.


والمتتبع لنشاط شركة DCI الفرنسية سنجد ان نشاطها حتى العام 2018، كان بعيداً عن قارة إفريقيا، حيث لم تتعامل سوى مع ثلاث دول إفريقية، أي ما لا يتعدى 0.1% من نشاطها الإجمالي، وخلال العام 2023 تغير هذا الواقع تغير كلياً، حيث جرى توسيع نشاط الشركة في إفريقيا إلى 14 دولة، أي ما يعادل 15% من النشاط الإجمالي للشركة، حسب موقع TRT. وهو ما يعني ان الحكومة الفرنسية اوكلت لهذه الشركة رعاية مصالح البلاد فقيرة الموارد في قارة افريقيا الغنية بالموارد المختلفة. وخلال نفس العام اعلن عن فوز الشركة الفرنسية بصفقة توريد مسيّرات للقوات الجوية في دولة بنين، والإشراف على برنامج تدريبات استخباراتية لصالح أجهزة الأمن البنينية، بقيمة وصلت إلى 11.7 مليون يورو. كما ظهر اسم DCI في انشطة مرتبطة بمكافحة الارهاب بالشراكة مع القوة المختلطة المتعددة الجنسيات ضد تنظيم بوكو حرام، الذي ينشط في عدد من دول الصحراء الافريقية.


والواضح من الاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه افريقيا، انها بدأت تستشعر مدى احتقان الشعوب الافريقية من نفوذها، ولذلك لجأت إلى عملية التمويه في حيلة جديدة لبقاء نفوذها من خلال شركة تبدو في ظاهرها تقدم الخدمات، في حين أنها واجهة جديدة للنفوذ الفرنسي "واجهة ناعمة، بدلا من الواجهة الخشنة التي كانت تعتمد على التواجد العسكري". وهذا التواجد ليس ابتكارا فرنسيا لكنه مجاراة للتواجد الروسي الذي نجح في الحضور في الدول التي كانت تخضع للنفوذ الفرنسي السياسي والعسكري، ومن هنا فإن المجاراة تختلف عن الابتكار، وهو ما يجعل الطريقة الفرنسية الجديدة مهددة بالفشل، كون نجاح أنشطتها والاجندة المأمول تنفيذها مخاطرة قد تصيب وقد تفشل، خاصة في ظل التذمر الشعبي من النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وبالتالي فإن نشاط هذه الشركة الفرنسية سيقتصر على الدول التي ما تزال خاضغة للنفوذ الفرنسي ولن تتمكن من مزاولة أي نشاط في الدول التي ثارت ضد الأنظمة التي كانت موالية لباريس، ما يعني تسليم قصر الاليزية بزوال نفوذه من بوركينا فاسو ومالي والنيجر وافريقيا الوسطى والغابون، وهي بمعايير السياسة اعتراف بالهزيمة في جزء من جغرافيا النفوذ.


ورغم لجوء فرنسا الى طريقة الوكيل المسير عن بعد للحفاظ على نفوذها ومصالحها في قارة افريقيا، إلا أنها لا تزال تحتفظ بتواجد عسكري على الارض في عدد من الدول الافريقية، حيث تملك خمس قواعد عسكرية في تشاد أبرزها في العاصمة أنجمينا، وقاعدة عسكرية بكوت ديفوار وتحديدا في العاصمة أبيدجان، وقاعدة في العاصمة السنغالية، دكار، وقاعدة اخرى في جيبوتي في شرق أفريقيا. وهو ما يعني وجود حالة من الازدواج في التعاطي الفرنسي مع قارة افريقيا، يتمثل في التواجد المباشر وغير المباشر، ما يؤكد ان السياسة التي اعلنها الرئيس ماكرون تجاه افريقيا لم تنفذ كما اعلن عنها، ويفهم من ذلك أن اعلان السياسة الجديدة جاء تحت ضغط الثورات التي بدأت تشهدها دول القارة، التي اربكت صناع القرار في باريس، ما جعلهم يبدون متخبطون في تعاملهم على أرض الواقع في القارة السمراء التي تطمح شعوبها للتخلص من النفوذ الفرنسي الناهب للموارد والمستبد للانسان.


أكدت باريس أنها لن تتخلى عن مكافحة الارهاب في أفريقيا، وهذا الاعلان بحد ذاته يؤكد عدم وجود رغبة للحكومة الفرنسية في التخلي عن حضورها العسكري في دول القارة التي تعد ضمن منطقة النفوذ التاريخي الفرنسي، لأنها تعرف ان بقاء التنظيمات الارهابية يتيح لها التواجد العسكري، ولذلك تجد نفسها متضاربة بين بقاء التواجد العسكري والحضور عبر شركة DCI التي تقدم خدمات التدريب والتسليح لجيوش دول النفوذ، هذا التضارب يرجع لمأزق فرنسي فرضته مقتضيات الثورات التي اطاحت بالنفوذ الفرنسي في خمس دول افريقية، والحضور الروسي غير المباشر في دعم تلك الدول وجيوشها وما تقدمه شركة فاغنر الروسية من دعم لوجستي وتسليح وتدريب للجيوش في مكافحة الارهاب في الدول التي تحررت من النفوذ الفرنسي، والتي حققت نجاح نسبي في مكافحة الارهاب، خصوصا في افريقيا الوسطى ومالي.


وبالمقارنة بين النفوذ الفرنسي التاريخي في دول الصحراء والساحل الافريقي الغربي وبين النفوذ الروسي الوليد في بعض تلك الدول سنجد ان الحضور الفرنسي عن طريق شركة DCI لن يحقق لباريس الاجندة التي تسعى لتحقيقها، لأنها لا تسعى لتقليص نفوذها وتخفيف نهب موارد القارة، وانما تسعى لتغيير طرق النفوذ والنهب، في حين تسعى موسكو لتوجيه ضربات سياسية لفرنسا بدرجة رئيسية لاجبارها على المساومة في ملفات اخرى، أبرزها الملف الأوكراني، ومن ثم الحصول على مصالح اقتصادية وسياسية في قارة تزخر بمختلف الموارد. ولهذا تجد فرنسا نفسها مجبرة على ابقاء قواعد عسكرية في دول نفوذها، وهو ما يؤجج الغضب الشعبي تجاهها ويجعل دول اخرى تسير في ذات الطريق التي سارت فيها دول تمكنت من نفض النفوذ الفرنسي، ويبدو ان القادم الذي تخشاه فرنسا سيأتي من السنغال.