فبراير 14, 2024 - 15:25
لماذا تسعى فرنسا لاستعادة نفوذها في الجنوب الليبي..؟




أنس القباطي


عاد الاهتمام الفرنسي بليبيا الى الواجهة منذ بداية العام 2024 بشكل ملحوظ، وجاء هذا الاهتمام في ظل صراع نفوذ تخوضه باريس مع كل من موسكو وبكين حول افريقيا، وهو ما جعل قصر الاليزيه يتجه لمضاعفة اهتماماته بليبيا التي تعاني حالة تمزق منذ الاطاحة بالرئيس الليبي السابق معمر القذافي في العام 2011.


والسبت 10 فبرائر/شباط 2024 استقبل عضو المجلس الرئاسي الليبي، موسى الكوني، المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي إلى ليبيا، بول سولير، وبحسب الأخبار في هذا الشأن حمل سولير رسالة من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون تؤكد استمرار اهتمام فرنسا بالملف الليبي، ومعالجة الانسداد السياسي، وتحقيق الاستقرار من أجل الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي، ودعم جهود إعادة الأعمار في مناطق الجنوب الليبي. وهنا يتضح ان فرنسا عادت لتركيز اهتمامها بالجنوب الليبي، وهذا النطاق من الجغرافيا الليبية تراه فرنسا منطقة نفوذ تاريخي لها، ضمن منطقة نفوذها التاريخي في الصحراء الافريقية والساحل الغربي للقارة.


عندما يتحدث المسؤولون الفرنسيون عن مساعدة ليبيا في الوقت الحالي؛ فهم يتحدثون وعيونهم متجهة صوب إقليم فزان في الجنوب الليبي، والحديث الفرنسي عن هذا الاقليم يأتي من باب مكافحة الهجرة غير الشرعية الى أوروبا، على اعتبار ان الاقليم يعد نقطة عبور للمهاجرين إلى القارة الأوروبية، وان ليبيا تحتاج للمساعدة الأمنية لتحجيم عملية الهجرة التي باتت تؤرق اوروبا، نظرا للهشاشة في الجهاز الأمني، وبذلك تسعى فرنسا لتسجيل حضور أمني لها في هذا الاقليم لحسابات اخرى ابعد من مكافحة الهجرة غير الشرعية.


اهتمام فرنسا بليبيبا، وتحديدا جنوبها، هو اهتمام يصنف في خانة علاقة مستعمر قديم بجزء من مستعمراته السابقة، لأن الجنوب الليبي كان قد وقع تحت الاحتلال الفرنسي لعقود. وعندما تتبع التواجد الفرنسي في ليبيا؛ سنجد ان القوات الفرنسية احتلت بلدة "مرزق" التي تعد احدى اهم بلدات اقليم فزان، وذلك بعد طرد القوات الايطالية، حيث اصبحت هذه البلدة منذ منتصف يناير/كانون ثان 1943 ضمن مناطق النفوذ الفرنسي، ثم توسعت في الاقليم حتى العام 1951، وفي هذا العام أصبحت ولاية فزان جزءا من المملكة الليبية المتحدة على خلفية الأستفتاء الذي أجراه أبناء الاقليم، والذي على أثره أعلن الملك أدريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة في 24 ديسمبر/كانون اول 1951. لكن اهمية الجنوب الليبي بالنسبة للوجود الفرنسي فيما يعرف بافريقيا الاستوائية الفرنسية جعلها تسعى لعرقلة استقرار الحكومات الوطنية في اقليم فزان والجنوب الليبي بشكل عام، مستفيدة من بعض القيادات التي دعمتها لمحاربة التواجد الايطالي في المنطقة، كما سعت فرنسا دبلوماسيا لدعم تواجدها في الجنوب الليبي، فقد امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا في العام 1949، وقامت بإجراءات عملية على الأرض، حيث فصلت فزان عن بقية التراب الليبي، ودعمت الاصوات التي تطالب بانفصال فزان عن الوطن الأم ليبيا، ودعمت اصوات أخرى للمطالبة بانضمام اقليم فزان إلى فرنسا.


واليوم وجدت فرنسا نفوذها التاريخي في وسط وغرب افريقيا على محك خطير، حيث فقدت نفوذها في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وافريقيا الوسطى، لصالح خصمها الروسي، وبات نفوذها  في باقي الدول مهدد بالانقلابات، وهو ما استدعى حضورها في الجنوب الليبي باعتباره نقطة حماية استراتيجية لابقاء نفوذها في دول الصحراء المجاورة، خاصة في تشاد والسنغال، والاخيرة تعيش حالة اضطراب قد يدفعها نحو السير في ذات الطريق الذي سلكته دول مجاورة.


وتأتي أهمية الجنوب الليبي بالنسبة لفرنسا في الوقت الحالي لتأمين نفوذها في المنطقة الذي بدأ يتأكل، ولذلك هي بحاجة لخلق قطيعة بين ليبيا العربية الإسلامية وجوارها الإفريقي المسلم الممتد من السنغال وحتى دارفور غرب السودان، حتى لا يؤدي التواصل فيما بين شعوب هذه المتطقة الى ضرب التواجد الفرنسي في المنطقة الغنية باليورانيوم والذهب والغاز والنفط، وهو اجراء وقائي لمنع تكرار ما حصل في النيجر وقبله في دول مجاورة، وترى ان الفرصة مواتية في الوقت الراهن للعودة الى فزان تحت يافطة مكافحة الهجرة غير الشرعية واعمار الجنوب الليبي، فضلا عن ان تواجدها هناك سيكون بداية لتحقيق حلم قديم يعود الى نهاية القرن التاسع عشر عندما سعت للوصول الى مدينة سرت الساحلية ابتداء من إقليم فزان ليكون لها منفذا إلى البحر المتوسط، وذلك ما تضمنه الاتفاق الذى عقد بين فرنسا وبريطانيا فى 31 مارس/آذار 1899 الذى تم بموجبه تسوية الخلافات بين الدولتين، فقد تنازلت فرنسا لبريطانيا عن بحر الغزال وبحر العرب ودارفور، مقابل الحق في التوسع فى شمال وشرق بحيرة تشاد، بما يحقق لها ربط مستعمراتها فى شمال وغرب أفريقيا.


لقاء مبعوث الرئيس الفرنسي بعضو المجلس الرئاسي الليبي، موسى الكوني، لم يكن من باب الصدفة، وانما جاء وفق اجندات تسعى فرنسا لتحقيقها، فالكوني هو ممثل الجنوب الليبي في المجلس الرئاسي، وفرنسا تقدم نفسها بأنها حاضنة للمعارضين من الجنوب الليبي، ما يجعلها تستخدم هؤلاء المعارضين كورقة ضغط للتأثير على الملف السياسي الليبي بما يحقق اجنداتها السياسية والاقتصادية والأمنية في الجنوب الليبي.


وفي الوقت ذاته لجأت فرنسا لاستخدام الجنوب الليبي كورقة ضغط مهمة في وجه روسيا التي باتت تدعم قيادات الدول التي نجحت انقلاباتها ضد المؤيدين لفرنسا في الصحراء والساحل الغربي لافريقيا، حيث تتخوف باريس من تدخل موسكو في دعم احتجاجات السنغال التي تتكرر بين الفينة والاخرى. وفي الوقت ذاته تسعى فرنسا لتحجيم النفوذ التركي في ليبيا، في ظل الصراع القائم بين البلدين، حيث تخشى باريس من التغلغل التركي في ليبيا، بعد ان أصبح لأنقرة نفوذ في الغرب الليبي، وتخشى من تاثبرها على قبائل الطوارق والهوسا التي تناصب فرنسا العداء. ولا يستبعد ان يكون لدى قصر الاليزية مخطط يهدف من خلاله لاسقاط الانظمة الموالية لموسكو التي وصلت للحكم في الدول الواقعة ضمن ما تعرف بمنطقة النفوذ التلريخي لفرنسا في غرب افريقيا، وذلك من خلال استخدام الجنوب الليبي كمنطلق للمعارضين لتلك الأنظمة الجديدة، وربما تسعى لتثبيت تواجدها في الجنوب الليبي الغني بالثروات لتعويض ما فقدته في الدول الافريقسة التي خرجت من دائرة نفوذها التاريخي.


ومما سبق يمكن القول ان عودة الاهتمام الفرنسي بالجنوب الليبي مؤشر على شعور باريس بأنها تلقت ضربات مؤثرة في منطقة نفوذها التاريخي في قارة افريقيا، وتسعى لمحاصرة اي توجهات لشعوب المنطقة للتحرر من هيمنتها، وربما استخدام المنطقة لاستعادة نفوذها في تلك الدول، لكن يبدو ان هذه التحركات جاءت تحت ضغط الصدمة التي حصلت في النيجر ومالي ودول أخرى، متناسية ان المواطن في ليبيا اصبح لديه شعور عدائي نحو فرنسا التي قادت التدخل العسكري الجوي ضد نظام الرئيس معمر القذافي في العام 2011 ما اوصل البلاد الى مرحلة التمزق جغرافيا والانهيار اقتصاديا. وفي المجمل فإن عودة فرنسا إلى ليبيا لن تقرأ إلا في سياق عودة المستعمر القديم الممزق للتراب الوطني الوطني والناهب للثروات والموارد. وما يمكن لفرنسا تحقيقه هو انها ستقف عائقا امام حل الازمة الليبية، وهو ما سيضاعف من مشاعر العداء الشعبي ضدها.