يناير 6, 2024 - 16:02
صفقة ميناء بربرة بين عقدة السجن الجغرافي لاثيوبيا وصراع القوى الدولية


عرب جورنال / أنس القباطي - 
تتصاعد الأحداث في البحر الأحمر والقرن الافريقي بشكل ينذر بتحول المنطقة الى ساحة صراع اقليمية ودولية، كونها صارت واحدة من أهم نقاط الصراع المشتعلة في العالم.

و الاثنين 1 يناير/كانون أول 2024 اعلن رئيس الوزراء الاثيوبي، آبي أحمد، ورئيس جمهورية شمال الصومال غير المعترف بها دوليا، موسى بيهي عبدي،  التوقيع على مذكرة تفاهم  تقضي باستئجار اثيوبيا لميناء بربرة الصومالي.

واثار التوقيع أزمة جديدة في المنطقة المتاخمة للبحر الأحمر الذي يشهد تصعيدا غير مسبوق القى بضلاله على الاقتصاد الدولي.كما اثار الاعلان غضب الحكومة الصومالية في مقديشو، ما دفعها للتهديد بمنع هبوط الطيران المدني الاثيوبي في مطارات البلاد. وادى اعلان الاتفاق الى اثارة المخاوف المصرية، حيث اصدرت الخارجية المصرية بيانا نددت فيه بالموقف الاثيوبي واعتبرته تهديد لوحدة الأراضي الصومالية، ويمس بالأمن الاقليمي.

ويعد الموقف الاثيوبي مثيرا للغرابة، فعقد صفقة من هذا النوع مع كيان غير معترف به دوليا يخل بالتزامات أديس ابابا تجاه القوانين والأعراف الدولية، كونه يمثل تعديا على وحدة الأراضي الصومالية وتدخلا في الشأن الداخلي الصومالي وهو ما يتعارض مع التزاماتها كعضو في الاتحاد الافريقي.

منذ استقلال إريتريا عن اثيوبيا في تسعينات القرن العشرين، أصبحت اثيوبيا دولة حبيسة، وصارت تعتمد على ميناء جيبوتي في تصدير منتجاتها واستيراد حاجتها من السلع، ورغم عدم وجود خلافات مع جيبوتي اتجهت اديس ابايا نحو شمال الصومال للحصول على منفذ بحري على خليج عدن، وهو ما يثير أكثر من علامة استفهام، خاصة وان هذا التحرك الأثيوبي جاء في وقت تشهد فيه منطقة جنوب البحر الأحمر وخليج عدن حالة من التوتر جراء استهداف البحرية اليمنية للسفن الصهيونية والمرتبطة بها.

ونصت مذكرة التفاهم الموقعة في اديس ابابا على منح اثيوبيا ممر الى خليج عدن تستأجره لمدة 50 عاماً، وتمكينها من انشاء قاعدة عسكرية ومنشآت تجارية على طول الشريط الساحلي المستأجر، مقابل حصة لم تحدد لصومالي لاند في الخطوط الجوية الإثيوبية. وهذه الصفقة رغم ما أثارته من غضب وردود فعل؛ ليست ذات حجية قانونية، كونها وقعت مع طرف لا يملك السيادة بموجب القانون الدولي، لعدم الاعتراف به دوليا، غير ان مراقبين يرون أنه مؤشر على توجه لقوى دولية واقليمية لتغيير موازين القوة في البحر الاحمر وخليج عدن والقرن الافريقي، وهو جزء من الصراع الدولي القائم على الممرات والمضايق المائية، وان اثيوبيا ليست سوى واجهة في الصراع.

ميناء بربرة هو الميناء الرسمي لمدينة بربرة، التي اصبحت العاصمة التجارية لصومالي لاند التي اعلنت استقلالها من طرف واحد، ولم يعترف بها دوليا، ويصنف كميناء رئيسي. وميناء بربرة كان قاعدة بحرية وصاروخية للحكومة المركزية الصومالية في أعقاب اتفاقية 1972 بين إدارة الرئيس الصومالي السابق محمد سياد بري والاتحاد السوفيتي، وبموجب الاتفاقية أصبحت مرافق الميناء تحت إدارة السوفيت، ثم وسع لاحقاً للاستخدام العسكري الأمريكي. وهنا يتضح اهمية الميناء كموقع عسكري، وهذه الاهمية العسكرية عادت الى الواجهة في ظل الصراع الدولي القائم بين الشرق والغرب، والذي تشير تداعياته الى ان النظام الدولي القائم على الاحادية القطبية في طريقه للتحول الى متعدد الاقطاب. ولذلك يرى متابعون ان التحرك الاثيوبي في شمال الصومال مرتبط بالتداعيات التي تشهدها المنطقة وطبيعة الصراع الدولي، لافتين الى ان اثيوبيا لديها علاقات وطيدة مع الكيان الصهيوني، وبالتالي فإن محاولة حضورها على الساحل الصومالي، لا يستبعد ان يكون بدعم او ايعاز من الكيان الصهيوني الذي اصبحت مطامعه ظاهرة للعيان في البحر الأحمر وتحديدا في جنوبه القريب من خليج عدن، حيث يمتلك الكيان قواعد عسكرية في جزر اريترية قريبة من مضيق باب المندب، ويسعى للحضور في خليج عدن، ربما عبر البوابة الصومالية مستغلا حاجة اثيوبيا للوصول الى البحر.

ويربط متابعون بين العلاقات القائمة بين كيان شمال الصومال غير المعترف به دوليا وجزيرة تايوان غير المعترف بها دوليا، حيث تعد الأخيرة واحدة من ابرز الازمات المرشحة للتصاعد دوليا بعد الازمة الاوكرانية، وبالتالي فإن التدخل الاثيوبي في شمال الصومال قد يكون مرتبط بالتصعيد الصيني الأمربكي حول جزيرة تايوان.

تعد سواحل شمال الصومال المطلة على خليج عدن ذات اهمية استراتيجية لاطلالتها على طريق الملاحة الدولية، فضلا عن أهميتها الجيوسياسية عند احتدام الصراع الدولي على الممرات والمضايق المائية، وبالتالي فإن احتدام الصراع بين الشرق والغرب يجعل شمال الصومال ضمن دائرة المناطق التي يجري التنافس حولها بين القوى الدولية المتصارعة، ما يعيد الى الواجهة الحقبة الاستعمارية التي ادت الى تقسيم الاراضي الصومالية الى ثلاثة كيانات خضعت لسيطرة فرنسا وبريطانيا وايطاليا.
بعد توقيع مذكرة التفاهم الاخيرة في اديس ابابا الاخير، عقد مجلس الوزراء الصومالي في مقديشو، الثلاثاء 2 يناير/كانون ثان 2024 اجتماع طارئ، خرج بقرار اعتبر ان مذكرة التفاهم المعلنة "ملغاة وباطلة"، كما قامت مقديشو باستدعاء سفيرها من أديس أبابا. كما طالب الرئيس الصومالي؛ رئيس الوزراء الاثيوبي بإعادة النظر في الاتفاقية، مؤكدا إن ما حصل لن يؤدي إلا إلى زيادة الدعم لحركة الشباب المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي تسيطر على جزء كبير من الريف الصومالي، والتي جاء ظهورها كرد فعل على التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال في العام 2006.

من جانبها نددت وزارة الخارجية المصرية بالاتفاق، وفي بيان لها ابدت رفض القاهرة لمذكرة التفاهم الموقعة بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال (صومالي لاند)، موكدة على ضرورة الاحترام الكامل لوحدة وسيادة جمهورية الصومال الفيدرالية على كامل اراضيها، ومعارضتها لأي إجراءات من شأنها الافتئات على السيادة الصومالية، مشددةً في ذات الوقت على حق الصومال وشعبه دون غيره في الانتفاع بموارده، وحذر البيان الصادر الأربعاء 3 يناير/كانون ثان 2024 من خطورة تزايد التحركات والاجراءات والتصريحات الرسمية الصادرة عن دول في المنطقة وخارجها، التى تقوض من عوامل الاستقرار فى منطقة القرن الإفريقي، وتزيد من حدة التوترات بين دولها، منوهة الى ضرورة احترام أهداف القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، ومنها الدفاع عن سيادة الدول الأعضاء ووحدة أراضيها واستقلالها، وعدم تدخل أي دولة عضو في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. ومن بيان الخارجية المصرية تتضح مخاوف القاهرة من مذكرة التفاهم الموقعة، كونها ترى في التوسع الاثيوبي مساسا بالامن القومي المصري القائم على الحضور في حوض النيل والبحر الاحمر وصولا الى القرن الافريقي، فضلا عن ان القاهرة ترى ان التوسع الاثيوبي سيكون له تداعيات على مستقبل الصراع حول سد النهضة وحصص مياه نهر النيل.

تعاني اثيوبيا منذ استقلال ارتيريا في العام 1993 على اثر استفتاء شعبي صوت فيه الاريتريون لصالح الانفصال بنسبة تجاوزت 90% بعد عقود طويلة من الحرب، تعاني من عقدة الوصول الى البحر، فقد كان لديها قبل ذلك ميناءان هما مصوع وعصب الاريتريان، بالإضافة إلى قوات بحرية، إلا أنها خسرت هذين الميناءين عندما انفصلت إريتريا، ومنذ ذلك الحين، اعتمدت إثيوبيا على جيبوتي في التجارة الدولية، حيث يمر أكثر من 95% من وارداتها وصادراتها عبر ممر أديس أبابا -جيبوتي، ووفقاً لبيانات البنك الدولي تدفع اثيوبيا سنويا 1.5 مليار دولار مقابل استخدام موانئ جيبوتي، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لدولة وجدت صعوبة في خدمة ديونها الضخمة. ومن هذا المنطلق سعت الحكومة الإثيوبية إلى تنويع الوصول إلى الموانئ البحرية، بما في ذلك استكشاف الخيارات في السودان وكينيا. ولجأت في العام 2018، لعقد صفقة مع صومالي لاند وموانئ دبي العالمية التي كانت تدير موانئ صومالية، للاستحواذ على حصة 19% في ميناء بربرة، لكن الصفقة لم يكتب لها النجاح. ومنذ وصول أبي أحمد إلى رئاسة الحكومة الاثيوبية وهو يعلن عن سعي حكومته لجعل اثيوبيا قوة وازنة على البحر الأحمر وفي مضيق باب المندب، وظل ينظر لأراضي الجارة الصومال بعين طامعة، حيث سعى لتحقيق طموحاته بتوقيع اتفاق مع الرئيس الصومالي السابق، محمد عبد الله محمد، قضى باسستخدام إثيوبيا أربعة موانئ لم تحدد على طول ساحل الصومال، بما في ذلك ميناء بربرة، غير ان الاتفاق الذي وصف بالغامض لم يتحقق على ارص الواقع بسبب الهجوم العسكري الاثيوبي على منطقة تيغراي شمال إثيوبيا في العام 2020 والذي تسكنه اغلبية من السكان المنحدرة اصولهم الى الصومال، وعدم قدرة الحكومة الصومالية المركزية على بسط نفوذها على مختلف ارجاء البلاد، حيث ظل نفوذها محصورا في مدينة مقديشو العاصمة ومحيطها.

ويبدو ان ابي احمد راى في الوضع الدولي والاقليمي القائم في البحر الاحمر فرصة لتحقيق طموحاته واطماعه، مستفيدا من علاقاته المزدوجة مع الغرب والشرق، حيث نسج علاقات متينة مع القوى الغربية وحليفها في المنطقة الكيان الصهيوني، ووطد علاقاته بالشرق روسيا والصين، والتي تكللت بقبول بلاده عضوا في منظمة البريكس. ومع المساعي الغربية والصهيونية للسيطرة على البحر الاحمر ومضيق باب المندب والقرن الافريقي وجد ابي احمد ضالته في الوصول الى سواحل قريبة من باب المندب فسارع لعقد صفقة مع صومالي لاند، غير ان هذه الصفقة لا تحقق طموح ابي أحمد، نظرا لانه الصفقة وقعت مع كيان غير معترف به دوليا، وبالتالي فإنه بذلك عمل على تأجيج مشاعر العداء مع الدول الاقليمية، ما يعد نذيرا بفشل الصفقة، شانها في ذلك شأن الصفقات السابقة، خاصة وان الصفقة جاءت بعد تصريحاته التي بثّها التلفزيون الحكومي في أكتوبر/تشرين أول 2021، والتي قال فيها إن حكومته بحاجة إلى إيجاد طريقة لإخراج شعبها البالغ عدده 126 مليون نسمة من "سجنهم الجغرافي"، منوها الى ان البحر الأحمر يعد الحدود
الطبيعية لإثيوبيا. وهذه التصريحات أثارت مشاعر العداء لدى جيران اثيوبيا، وابرزهم اريتيريا، التي اخذت تلك التصريحات من باب انها مثيرة للصراع، في حين عبرت الصومال وجيبوتي عن غضبهما، واكدت معارضتها لأي محاولة للتعدي على أراضيها، وهو ما دفع ابي احمد للتراجع عن تصريحاته، غير ان مشاعر الغضب عادت مجددا بعد صفقة ميناء بربرة الأخيرة، خاصة من قبل الصومال. ويرى مراقبون ان تراجع ابي احمد عن تصريحاته السابقة كانت بدافع التهدئة انتظارا لفرصة مواتية، عوضا عن ان التصريحات تلك جاءت في وقت كانت لا تزال فيه بلاده تعاني من تداعيات سببتها حملته العسكرية على اقليم تلغراي.

ومما سبق يمكن القول ان مذكرة التفاهم الموقعة مؤخرا بين اثيوبيا وصومالي لاند مؤشر على حجم الصراع القائم في البحر الأحمر، ولا يستبعد وقوف قوى دولية خلف الصفقة سعيا منها لتوظيف المطامع الاثيوبية في الوصول الى البحر والخروج من العزلة الجغرافية التي تعيشها اديس أبابا، والارجح ان القوى الغربية والكيان الصهيوني هي من تقف خلف ابي أحمد، لأن التحرك الاثيوبي في شمال الصومال يخدم القوى الاستعمارية الغربية لقطع الطريق على روسيا والصين التي اصبحت تتغلل في قارة افريقيا بشكل يثير المخاوف الغربية، وهنا لابد من الاخذ في الاعتبار طبيعة العلاقات القائمة بين كيان شمال الصومال وجزيرة تايوان، وهما كيانان غير معترف بهما دوليا، ولديهما ارتباطات بالغرب، وهو ما يجعلنا نرى ان التحرك الاثيوبي في شمال الصومال يخدم المطامع الجيواستراتيجية الغربية اكثر من خدمة الاهداف الاستراتيجية الاثيوبية.