سبتمبر 20, 2023 - 19:27
هل سيحول صراع القوى العظمى منطقة القوقاز الى جغرافية مشتعلة..؟
عرب جورنال


أنس القباطي


تعد منطقة القوقاز من اهم المناطق في العالم التي تتصارع عليها القوى العظمى في العالم، نظرا لموقعها الجغرافي الرابط بين قارتي اوروبا وآسيا، ولما تزخر به من ثروات نفطية.


وتجددت منتصف سبتمبر/ايلول 2023 الاشتباكات بين اذربيجان وارمينا في اقليم قرة باغ، بعد هدنة استمرت 4 اشهر. الصراع في هذه المنطقة الحدودية بين البلدين، صراع تاريخي فرضته طبيعة الصراعات الاقليمية والدولية على منطقة القوقاز التي يعد الاقليم جزء منها.


واقليم قرة باغ هو إقليم جبلي في جنوب منطقة القوقاز، يمتد شرق أرمينيا وجنوب غرب أذربيجان، واصبح الاقليم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينات القرن العشرين يكون جمهورية ناغورني قره باغ غير المعترف بها. وشهد الاقليم نزاع مسلح خلال الفترة (1994 - 1988)، وبدأ النزاع بصراع بين جماعات عرقية في الاقليم، ورغم الهدن التي يتم رعايتها من قبل القوى الدولية والاقليمية؛ الا ان التوتر يعود بين فينة واخرى، ويتحول الى اشتباكات بين القوات الارمينية والاذرية.


يعد الصراع في اقليم ناغورني قرة باغ جزء من الصراع الدولي بين القوى الدولية على منطقة القوقاز التي تحظى بأهمية جيوسياسية وجيو اقتصادية على مرِ التاريخ، فموقعها الجغرافي يلعب دورا هاما في الاتصال والتجارة بين قارتي أوروبا وآسيا، وهذه الميزة الجغرافية مثلت اهم الأسباب التي جعلت القوى الإقليمية والدولية تسعى للسيطرة عليها، وبالتالي فإن لعنة الموقع جعلت من هذه المنطقة بؤرة صراع يشتد ويتراجع ثم يعود ليشتد بالتزامن مع طبيعة العلاقات بين الدول المتنافسة تجاريا واقتصاديا، والتوترات المرتبطة بالاتصال الاقتصادي والتجاري.


والتوتر القائم في الوقت الحالي في اقليم قرة باغ بين ارمينيا واذربيجان مرتبط بدرجة أساسية بالصراع القائم في اوكرانيا بين روسيا والغرب، ويعد تجدد الصراع مؤشر على ان الغرب بقيادة الولايات المتحدة يسعون للضغط على روسيا لتحقيق مكاسب في اوكرانيا، وهو ايضا مؤشر على ان روسيا حققت مكاسب في اوكرانيا، ما يعني ان تفجير صراع جديد في قرة باغ يهدف لوقف التقدم الروسي في اوكرانيا، او على الاقل خلط الأوراق على روسيا، نظرا لحساسية منطقة القوقاز بالنسبة لروسيا، كون هذه المنطقة تعد حساسة للامن القومي الروسي.


ولو عدنا لبدايات الازمة في اقليم قرة باغ، سنجد انها بدات قبل 3 سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتي - انهار في ديسمبر/كانون اول 1991 - ومن هنا فإن تفجير الصراع في هذه المنطقة حينها شكل ضغوط على الاتحاد السوفيتي، وكان واحد من الأسباب التي عجلت بانهياره، ليصبح الوضع مهيئا للغرب لتحقيق اطماعهم في منطقة القوقاز التي كانت واقعة تحت النفوذ السوفيتي. واتبع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية سياسة دعم المشاريع الانفصالية في منطقة القوقاز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث انفجرت الحرب في الشيشان وبعدها في جورجيت، للضغط على روسيا الاتحادية التي كانت حينها تواجه ازمات متعددة، ما اجبرها لاستخدام القوة المفرطة لقمع التمرد الشيشاني، ومنع تحول هذا البلد نحو الغرب، وبنفس الاسلوب قمعت تطلعات القيادة الجورجية، وصولا الى الحرب الأوكرانية التي تبدو مختلفة، وتعد بمثابة حرب كسر العظم بين روسيا والغرب.


سعت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لتوسيع نفوذها في منطقة القوقاز، مستغلة حالة الضعف التي كانت تعيشها روسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفيتي، ومع عودة روسيا للدفاع عن حضورها الدولي كقوة عالمية؛ عاد التوتر مجددا الى القوقاز، وعاد اقليم قرة باغ ليصبح جغرافيا مشتعلة تدور على رحاها تفاصيل تصفية حسابات ليس بين الاقطاب الدولية (روسيا، الغرب) وانما بين الاقطاب الاقليمية (ايران، تركيا).


بعد تفكك الاتحاد السوفيني اصبحت منطقة جنوب القوقاز (ارمينا، اذربيجان، جورجيا) تحظى بأهمية استراتيجية، حيث ظهر النفط في حوض قزوين ومحيطه، وهو ما جعل القوى الدولية والاقليمية تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة، حيث اصبحت تتنافس في المنطقة كل من روسيا وتركيا وايران والولايات المتحدة والصين والاتحاد الاوروبي، بهدف استكشاف ثروات المنطقة واستغلالها وفقا لما يخدم مصالحها، وبما يحقق اهدافها خاصة في مجال نقل الطاقة، وبذلك ظهرت ما تعرف بحرب خطوط الأنابيب.


مع بداية القرن الحالي احتدم التنافس الروسي الامريكي في جنوب القوقاز، ما زاد من الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، حيث اصبحت موسكو وواشنطن لاعبين اساسيين فيما اطلق عليه "اللعبة الكبرى الثانية"، ووصل التنافس الروسي الامربكي في منطقة جنوب القوقاز مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي حد الصراع المحتدم، ما جعل المنطقة ذات أهمية جيواستراتيجية، حيث سعت روسيا لمواجهة الولايات المتحدة في هذه المنطقة مستثمرة انتصارها في حربها ضد النظام الموالي للغرب في جورجيا.


تعد منطقة القوقاز في الوقت الراهن واحدة من اهم جغرافيات الصراع في العالم بين القوى الدولية، والصراع في هذه المنطقة لا يقتصر على الصراع المعلن في اقليم قرة باغ جنوب المنطقة، وانما هناك صراع لا يزال غير معلن، لا يستبعد ان ينفجر قريبا في دول اخرى في المنطقة، تشهد استقطابات حادة بين القوتين المتصارعتين، وهذا النوع من الصراع سيكون له ارتباط بطبيعة الصراع جنوب القوقاز من ناحية، والحرب الاوكرانية من ناحية اخرى. الصراع الدولي الحالي في القوقاز لن يكون بعيدا عن الصراع الذي كان قائما ابان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وما قبلها، فخلال سنوات الحرب العالمية الثانية كانت اطماع ألمانيا الهتلرية كبيرة في منطقة القوفاز، وهو ما دفع الزعيم السوفياتي الأسبق جوزيف ستالين لاتخاذ قرارات تهجير الكثيرين من أبناء القوميات، التي كان يتوقع إنها تتطلع إلى التعاون مع قوات هتلر سعياً إلى التخلص من الهيمنة السوفياتية، كالشيشان والأنجوش وتتار القرم، نحو سهول كازاخستان وغربي سيبيريا، ورغم ان القيادات السوفيتية سمحت في فترة الرئيس غورباتشوف لابناء تلك القوميات بالعودة الى مواطنها، لكن الاستخبارات الغربية ما تزال تستخدم عملية التهجير تلك لتأليب تلك القوميات ضد روسيا وتغذية ميولها الانفصالية، وان كان الرئيس الروسي بوتين قد تمكن الى حد ما في وضع حد لهذه الميول منذ مطلع القرن الحالي، إلا ان الدوائر الغربية ما تزال تعمل على تغذية الميول الانفصالية وتوسيع الهوة بين القوميات في منطقة القوقاز.


عند الحديث عن الصراع الروسي الامريكي في القوفاز لابد من الاشارة الى ما طرح في كتاب "رقعة الشطرنج الكبرى" الذي الفه "زبيغنيو بجيزينسكي"، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، حيث تضمن كتاب بجيزينسكي الذي تعود اصوله إلى بولندا، رؤية إستراتيجية جيوسياسية لاعلاء التفوق الأميركي، تؤكد على أهمية السيطرة الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة الأورو آسيوية، وفي القلب منها القوقاز، بما يؤدي الى فرض واشنطن سيطرتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، حتى تكون القوة الأكثر تأهيلاً لفرض تفوقها، ووضعها الاستثنائي في هذه المنطقة الغنية بالثروات النفطية، وتكشف تلك الرؤية عن الأطماع الأمريكية في منطقة القوقاز، وتؤكد على أهمية أذربيجان وأوكرانيا في التفوق الأمريكي، وذكر بجيزينسكي إلى أن "هتلر" توصل مع ستالين مطلع العام 1940 (أي قبل انقلابه على الاتحاد السوفياتي) وبدء غزوه لأراضي الاتحاد السوفيتي في 22 يونيو/حزيران 1941 الى اتفاق استبعاد الولايات المتحدة من هذه المنطقة التي اعتبراها مركز العالم. وأسهمت الأحداث اللاحقة، وابرزها انهيار الاتحاد السوفياتي، في وضع كثير مما طرحه بجيزينسكي حيز التطبيق.


يرى محللون سياسيون ان روسيا تسعى جاهدة لتهدئة الوضع بين ارمينا الاقرب لها واذربيجان الأقرب لتركيا والغرب، لأن الانفجار سيفتح لها جبهة جديدة مع تركيا، حيث تخشى موسكو من ان يؤدي ذلك لفتح الباب على مصراعيه أمام تدخل قوى أخرى، تتحفز للتدخل في منطقة القوقاز ذات الأهمية الإستراتيجية للأمن القومي الروسي، بكل ما تمثله من أهمية لنقل النفط والغاز من منطقة بحر قزوين إلى الأسواق العالمية، فضلاً عن أهميتها بالنسبة إلى إيران وبلدان منطقة الشرق الأوسط.


وفي هذا السياق تدرك روسيا ان اقليم قرة باغ يعد الأكثر خصوبة وأهم النقاط الاستراتيجية في جنوب القوقاز، لأنه ظل منذ عقود ساحة صراع بين الأذريين والأرمن، الى جانب ان مرتفعاته تشكل أهمية عسكرية كبيرة، وبالتالي فإن نشر قوات عسكرية فيها سيجعل طرق الاتصال في أذربيجان والسهول المحيطة بالطريق بين الشمال والجنوب مكشوفة وفي مرمى المدفعية.


ومما سبق يمكن القول ان الصراع في اقليم قرة باغ جعل من هذه المنطقة جغرافية مشتعلة، تهدد بنقل النيران الى كامل جغرافية منطقة القوقاز، التي تتداخل فيها الاطماع الدولية والاقليمية، فإلى جانب الصراع الروسي الأمريكي الصيني الاوروبي في المنطقة، هناك صراع مصالح بين ايران وتركيا سيؤجج في حال اندلعت حرب واسعة بين ارمينا الاقرب الى إيران واذربيجان الاقرب لتركيا. ولا يستبعد استخدام كل هذه التناقضات في اشعال حرب واسعة بين الاذريين والأرمن، والتي ستكون مقدمة لحرب تتوسع في منطقة القوقاز بأكملها، فالاتفاف الموقع بين الطرفين في العام 1994 ما يزال مجرد هدنة، ولم يتم التوصل لاتفاق للازمة التي ما تزال قائمة بين ارمينا واذربيجان. التهدئة القائمة التي تخترق بين فينة وأخرى قد تنهار في حال افرزت الحرب الأوكرانية صراعا من مستوى متقدم بين روسيا والغرب، وفي هذا الحال لا يستبعد ان تكون القوقاز ساحة لحرب عالمية ثالثة، تبدأ شرارتها من قرة باغ.