ومثل هذا المعلم الأثري الفريد والنادر يفتح نافذة على حقبة تاريخية انقضت، ولكنه في صمته وفراغه وغموضه يحمل معه سحراً غريباً ويولد أحاسيس بالرهبة والشوق والحنين والخوف والكآبة المفعمة بالحيوية والتطلع إلى ما يخفي جنبات هذا المكان الذي تسكن في ثناياه قصة حضارة الأجداد الأولين الذين تكاملوا مع الطبيعة، وتركوا مناقبهم دالة على عظمتهم.
موقع المدينة
تقع مدينة البليد على الشريط الساحلي لمدينة صلالة بمنطقة الحافة في محافظة ظفار جنوب سلطنة عمان على مسافة قريبة جدا من ساحل المحيط الهندي. وهي تعد
من أهم المواقع الأثرية في السلطنة نظرا للمكانة التي كانت "البليد" تتمتع بها على مدى التاريخ، ورغم اندثار المنطقة في أزمنة طويلة إلاّ أن الجهود التي بذلها مكتب مستشار جلالة السلطان المعظم قابوس بن سعيد (تغشاه الله برحمته) للشؤون الثقافية استطاعت أن تحول المنطقة إلى قبلة للسياح والزائرين من مختلف دول العالم، ولمحافظة ظفار مدينة اللبان وسلطنة عمان بشكل عام. وهو اليوم أحد أهم المزارات التاريخية الثقافية ويضم متحف أرض اللبان، ومسجل في قائمة اليونسكو للتراث العالمي في المناطق التابعة لطريق اللبان، وكانت مدينة البليد أطلالا مهجورة عندما وصفها عالم الآثار كارتر وهو أول باحث يقوم بإعداد مخطط منظم للموقع في عام 1846 أشار فيه إلى بعض المباني الرئيسة كسور المدينة الجنوبي على ساحل البحر وبعض الأبراج، وقام برسم حدود الموقع في المنطقة الواقعة ما بين الدهاريز والحافة بمساحة تصل إلى ميلين طولا، وبعرض 600 ياردة. أما العالم الأثري مايلز فقد ذكر في عام 1883 أن البليد والمنطقة المحيطة بها كانت يوما ما مأهولة بعدد كبير من السكان ويوجد بها نشاط زراعي واسع.
في العام 2009 تم تنفيذ مسح أثري شامل في محافظة ظفار بهدف تحديد طبيعة الاستيطان البشري في العصور التاريخية القديمة المختلفة وشمل المسح مدينة البليد والمنطقة المحيطة بها. وأشارت النتائج إلى أن أقدم البقايا الأثرية التي تم العثور عليها في المنطقة تعود إلى العصر الحجري القديم ما بين مليون إلى 10 آلاف عام تشير إليها الأدوات المكتشفة والمصنوعة من حجر الصوان المتناثرة على طول خط الأنهار القديمة، كما تم العثور على بقايا أثرية مطمورة تحت قنوات التصريف المائي القديم في سهل صلالة وعلى طول وادي عندوب.
تاريخ المدينة
تذكر بعض المصادر التاريخية أن مدينة البليد أنشئت على يد محمد بن أحمد الحبوضي على الأرجح في عام 918هـ، لكنه لا يمكن تخيل بناء مدينة بحجم البليد من حيث المساحة، وبراعة المعمار في ثلاث سنوات، حيث تشير هذه المصادر إلى أن الحبوضي اتخذها عاصمته الجديدة بعد أن استولى على السلطة من آخر حكام "المناجوه" ونقلها من "مرباط" إلى ظفار. ويقال إن هذه المدينة بلغت من السلطة والثراء ما جعلها عرضة لأطماع الغزاة والمحتلين، كما كانت عرضة للاستيلاء عليها من حضرموت، وهرمز والبرتغاليين.
عاشت فترات هدوء وازدهار امتد إلى قرن ونصف القرن، لكنها شهدت في عهد سالم بن إدريس الحبوضي مخاطر خارجية تمثلت في غزو الجيوش الرسولية لمدينة ظفار .. ودافعت جيوش سالم بن إدريس عن المدينة ببسالة ضد الرسوليين. وكانت خطوط دفاعه تبدأ من "عوقا"، وتذكر المصادر التاريخية المعركة الطاحنة التي جرت بين جيش سالم بن إدريس والرسوليين في 27 من رجب عام 677 هـ في عوقد، والتي قتل فيها الحبوضي و 300 من أفراد جيشه، وأسر منهم 800 مقاتل ويومها لم تسقط المدينة، فقد دافع عنها حمد بن ادريس وصد الغزاة الذين آثروا الانسحاب لاعداد قوة أكبر بعد أن عاثوا سلبا ونهبا في القرى والمناطق التابعة للمدينة، وبعدها بعام عاودوا الهجوم على المدينة التي سقطت بأيديهم، ولم تدن لهم إلا بقوة السلاح .. لكنهم استمالوا وجهاء القوم، وسارعوا في تنشيط التجارة وزادوا من التحصينات الدفاعية مستعينين بموقع المدينة الهام الذي يحيط به خور يلتف على جهتيها الشرقية والشمالية ويقال بان الرسوليين عمدوا إلى طمس تاريخ المدينة باستيلائهم على ما انتج من علم وأدب وتاريخ في الفترات التي سبقتهم، ولم يستطع الرسوليون فرض كامل السيطرة على ظفار، فبقيت
بعض المناطق خارج سيطرة حكمهم المركزي الذي كان يدار من اليمن والذي اعتمر ما بين 130 إلى 150 عاما على أوجه التقديرات .. ثم جاء الكثيرون في القرن التاسع الهجري وانهوا حكم الرسوليين، ومع ذلك لم يكن حكم الكثيرين أكثر استقرارا وازدهارا فقد واجهوا مقاومة الصراعات القبلية الثائرة ضد سلطتهم، وقد أثر ذلك على الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي للمنطقة إلى أن جاء البرتغاليون في عام 1526م، وقاموا بمناوشات عديدة للسيطرة على المدينة لكنهم لم يفلحوا، ولا تزال الذاكرة الشعبية تحفظ أحداث المعركة المشهورة في "ويسرت" ضد البرتغاليين الذين أقاموا لبعض الوقت حامية هناك وسرعان ما أبيدت تلك الحامية. بكاملها في المعركة وربما كان ذلك في عام 1555 م.
والمؤكد ان الأسر التي حكمت الدولة الكثيرية في ظفار نقلت مقار حكمها من البليد نتيجة عوامل طبيعية كوارث الفيضانات والأمراض إلى موقع آخر حمل تسمية "صلالة".
أقسام مدينة البليد
مدينة البليد تنقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
القسم التجاري
حيث تؤكد ملاحظات المؤرخين والرحالة العرب والغربيين الذين كتبوا عن مدينة البليد أو زاروها بأنها مدينة مزدهرة عظيمة البنيان واسعة التجارة، كثيرة السكان وهي من أهم الموانئ على ساحل بحر العرب، وتعود شهرة المدينة التجارية إلى تصديرها اللبان والخيول والمحاصيل الزراعية والحيوانية إلى الشرق والغرب، ويمكن الاستدلال باشارات الاصطخري في القرن الرابع الهجري وبعده الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" ولاحقا كتاب "الكامل" لابن الاثير، ومن بعده الادريسي ومن ثم ابن المجاور الذي ذكر في عام 616 هـ قدوم بعض البدو من اليمامة لبيع الخيول في ظفار. وفي عام 984 هجرية وصلها الرحالة ماركو بولو وقد وصفها قائلا: ظفار بلد جميل وعريق سكانها من العرب، وهي تطل على البحر، ولها ميناء جميل ذو حركة نشطة ويقوم التجار بنقل أعداد كبيرة من الخيول العربية إلى الأسواق. وللبلد قرى ومناطق كثيرة تابعة لسلطتها، وهي تنتج كميات هائلة من اللبان.
تعتبر ملاحظات "بولو" هامة جدا، ويمكن تأكيد حالة الاستقرار السياسي من خلال النشاط التجاري المزدهر للمدينة في ذلك الوقت.
وفي عام627هـ وصل ابن بطوطة إلى ظفار، ومكث بها بعض الوقت، ثم عاد إليها في عام 748هـ، وقد اخبرنا عن أحوال المدينة وعن حاكمها المسمى ناصر بن الملك المغيث وقال بأنها تشتهر بكثرة مساجدها وروعة مبانيها.
وفي عام 1692م وصل افينجتون إلى ظفار وقال بأنها بلد يقع على الساحل ومزدهر بالتجارة، واشار إلى الحروب المستمرة بين سكانها، ومن هذه الاشارة يمكن التأكيد على بداية النهاية لهذه المدينة العربية التي أثرت وتأثرت بمحيطها الجغرافي ايجابا وسلبا خلال عهود من الزمن لم تكن بالقصيرة. وهي اليوم أطلال تحكي محارب مساجدها الاحد عشر وأبراج حصنها المهيب وبواباتها وأسرارها وقناطرها ومدافن أهلها قصة قوم سادوا ثم بادوا، وهذه حال الأمم والأقوام لا يبقى الا تاريخهم وعاداتهم إن حفظت.
القسم السكني والخدمي الذي يقع في وسط المدينة.
المسجد والحصن فيقعان في الجهة الغربية. ويحيط بها من الجانب الشمالي والشرقي والغربي خور البليد الذي يتراوح عمقه ما بين مترين إلى ستة ونصف المتر، حيث كان الخور يستخدم لنقل البضائع بين المدينة والسفن الراسية في البحر، وهو يعد بمثابة ميناء طبيعي للسفن الصغيرة، كما يعمل على حماية المدينة من فيضان المياه التي تصب في البحر، بالإضافة إلي الحماية من هجمات الغزاة. وقد كشفت أعمال الحفر والتنقيب في موقع "شصر" الأثري عن وجود مدينة أثرية قديمة يعتقد أنها مدينة "إرم" التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، أرض قوم عاد، ولا زالت أعمال الكشف مستمرة للتنقيب عن هذه المدينة المطمورة في أعماق الربع الخالي من صحراء جنوب سلطنة عُمان.
آثار المدينة
وعندما تم تنفيذ أعمال التنقيب لم يكن من الممكن رؤية سوى عدد بسيط من الخصائص المعمارية للبوابة أما بعد أعمال التنقيب فقد أصبح واضحا بأن البوابة في الواقع جزء من سور المدينة الكبير المجاور لها، ويحيط بفناء كبير ومنبسط يمتد من الشمال إلى الغرب، ويحيط بالمجمع بأكمله سور مدينة ضخم، وثلاثة أبراج.
بعد أن هجر السكان المدينة أصبحت هذه المنطقة مساحة رئيسة تستخدم كمقبرة صغيرة. أما في جهة الغرب من هذه المنطقة فيوجد سد صغير، وبوابة صغيرة للتحكم في تدفق المياه العذبة من نبع الماء القريب، وإلى الجنوب من البوابة الشرقية يمتد جدار المدينة حتى أحد الأبراج الرئيسة الذي يمتد بدوره غربا حتى يصل لجدار بحري ضخم جدا يصل طوله لحوالي 40 مترا، وعرضه 10 أمتار، وهو تحفة هندسية رائعة، وقد تم بناء هذا الجدار من الحجارة تم قصها لتتناسب مع بعضها البعض مع وجود أعمدة خشبية كبيرة تعمل على دعم جدار المدينة من الجهتين، ويبدو أن هذه الأعمدة هي بقايا لمرفأ كان يستخدم لتحميل البضائع.
كما تم العثور في قاعدة الجدار البحري على حفر تصريف منتظمة مصممة للتخفيف من ضغط الماء، بينما توجد في أقصى النهاية الجنوبية أساسات من الحجارة الضخمة، بالإضافة إلى أعمدة خشبية أيضا بحالة جيدة كانت تستخدم على الأغلب لتدعيم جانبي المرفأ المطل على البحر. كما يوجد جدار بحري صغير يحيط بالمجمع ككل من جهة الشرق، ويمتد حتى الخور في الجهة الشمالية. ويبلغ إلى الغرب ارتفاع جدار المدينة حوالي مترين ويتكون من حجارة تم تجهيزها بعناية بينما يبلغ عرضه مترين أيضا وتتخلله أبراج شبه متصلة يبلغ مجموعها 13 برجا تفصل بين كل منهما مسافة 50 متراً تقريبا. وتوجد بوابة ذات مدخل معقوف على شكل فأس على بعد حوالي 600 متر نحو الغرب على طول الجدار البحري كما هو حال البوابة الجنوبية – الشرقية التي تم الكشف عنها عام 1952م فقد تم بناء هذه البوابة من الحجارة الضخمة، وعلى بعد أمتار قليلة إلى الغرب من هذه البوابة يوجد جدار بحري آخر يبدو بأنه كان في السابق برجا تم تمديده ليصبح جدارا بحريا يبلغ طوله 45 مترا. وحتى اليوم أسفرت أعمال التنقيب في الجهة الغربية من الجدار البحري الثاني بالكشف عن 10 – 11 برجا وسيتم التوصل إلى المزيد من المعلومات حول جدار المدينة والأبراج الإضافية والمباني الأخرى بعد الانتهاء من أعمال التنقيب في البوابة الجنوبية – الغربية التي تم الكشف فيها عن حفريات فيها في عام 2008م. وبناء على نتائج أعمال التنقيب التي تم تنفيذها فإنه يمكن القول بأن المجمع تم هجره بحلول 1300م، نظرا لكون قطع السيراميك من العصور الوسطى التي تم العثور عليها في الجزء الغربي من الموقع غير معروفة هنا، ولكن يظل أصل هذا المجمع وتاريخ بنائه الرسمي غير واضح جدا. ولقد تم العثور في المنطقة على مستوطنات غير مكتملة العناصر تعود للعصر البرونزي المبكر والعصر الحديدي مما يشير إلى وجود استيطان مبكر في الفترة بين 2500 عام قبل الميلاد وعام 250 ميلادي.
وهكذا فإن ما بذل حتى الآن من أعمال لترميم وتأهيل الموقع وعمل ممرات للمشاة وانارتها يعتبر انجازا كبيرا.
المدينة التاريخية كنز أثري يجب الاعتناء به، واستغلاله كمزار أثري، والموقع جدير بالاهتمام، ويبدو لنا ان الموقع بحاجة الى المزيد من الجهود في أعمال الحفريات والترميم وفي مجال الدراسات التاريخية التي تدعم الموقع.