محمد البحري
في كتاب"ابن رشد طموحات مثقّف مسلم - دومنيك أورفوا" إجابة عن سؤالين أساسيين: كيف تمكن ابن رشد بمنهجه في تناول فلسفة أرسطو من تجاوز كل الذين سبقوه من الفلاسفة والشراح، بل كيف تمكن من الاستدراك على المعلم الأول نفسه؟ ثم كيف وصلت الفلسفة الإسلامية إلى ذروتها على يد فقيه؟
لقد سعى المؤلف إلى سبر أغوار شخصية ابن رشد الفذة فنقب في ما خلفه المؤرخون وكتاب السير كي يقدم ابن رشد الإنسان في جوانب متنوعة من حياته: فهو الابن البار والأب المسؤول المتعلق بشدة بموطنه: الأندلس وقرطبة بالخصوص، وهو التلميذ المكبر لشيوخه، والشيخ الحريص على إفادة تلاميذه بكل ما أوتي من معرفة، وهو العالم بأوسع ما تعني هذه اللفظة: الطبيب والفقيه والنحوي والفيلسوف الذواقة لروائع الأدب العربي.
وفوق هذا، درس المؤلف مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في عهد الموحدين، مركزاً على مواقف ابن رشد الفكرية ومشاركته العملية فيها، واكتوائه بنار تدخل السياسة في الفكر الحر، فانتهى إلى هذا الكتاب الذي يلقي أضواء جديدة على كثير من جوانب حياة ابن رشد الغامضة، ومن جوانب حضارة الأندلس التي لايزال يلفها الغموض إلى الآن.
شخصية أسطورية لم يعرف قدرها
قلة هم المؤلفون الذين شهدوا شخصياتهم لا تقدر حق قدرها على عكس كتاباتهم، كما كان الحال مع ابن رشد. ولا شك في أن مهمة شارح الكتاب الإغريق، التي اضطلع بها عن اقتناع، كان لها دور في هذا الاتجاه. ففي العالم العربي، وباستثناء مثال بارز، نجد أن القلائل من المؤلفين القدامى الذين ذكروه كمفكر، لم يكونوا يعرفونه إلا من هذا الوجه. أما في العالم الغربي، فقد ذاع صيته، بالمقابل، إلى حد إحداث الكلمة المستحدثة: «الـرشـديـون» «Averroistes»، للتعريف لا بالذين ينتسبون إليه فحسب، بل حتى بالذين اقتصروا على مجرد الإفادة منه. ولم يكن لهذا غير النتيجة نفسها، وهي استبعاد هذه الشخصية إلى ماض غامض.
وبالفعل، فقد وضع ابن رشد وأرسطو، لزمن طويل، تحت السمة نفسها: «القدامى» من دون اعتبار الستة عشر قرناً التي تفصل القرن الرابع قبل الميلاد عن القرن الثاني عشر بعد الميلاد، ولا الحضارتين المختلفتين جداً: حضارة اليونان القديمة وحضارة إسبانيا المسلمة (المسماة بالعربية الأندلس) وهذا اللبس لم يرتفع تماماً. فالصورة التي يحفظها الصحافيون والسينمائيون عن ابن رشد مكتشف أرسطو ثانية» توهم بانضغاط فجائي للزمن، وكأن المسافات التاريخية والثقافية قد وضعت بين قوسين بسبب هذا الإحياء لنص منسي. غير أنه لا معنى لهذا لأن أرسطو كان معروفاً جيداً لدى العرب منذ القرن الثامن، وقد صار بسرعة «المعلم الأول» لمدرسة حملت اسم الفلاسفة، لم تزد على أن استعادت اللفظ الإغريقي فيلوصوفيا بعد أن عربته. فابن رشد لم يكتشف» أرسطو «ثانية» وإنما نظر فيه بطريقة تختلف تماماً عما كان لدى سابقيه.
إنه إذن هذا الذهن الخاص الذي فحص به مؤلفنا الأندلسي المفكرين الإغريق، هو الذي يجب أن يلفت الانتباه، وهو ما يحيلنا على اختياراته الفكرية وحوافزه الأيديولوجية، وعلى ما يمكن أن يكون أثر فيها ضمن سياق عصره.
غير أن ردنا لا يقتصر على الذهن اللاتاريخي للقرون الوسطى وبدايات الحقبة الحديثة، ذلك أن القرن التاسع عشر، هذا الذي نزل علم التاريخ في مركز اهتماماته، لم يكن هو أيضاً منزهاً . الأخطاء عن الجسيمة. ففي هذه الفترة، وفي الوقت الذي عوض فيه لفظ «رشدي» بمبتكر آخر هو «رشدية»، على افتراض وحدة في المنظور لدى كل من سموا رشديين، وهو ما تصعب البرهنة عليه، صودر المؤلف العربي نفسه في جدل قدم كنزاع بين الفلسفة والدين. ففي النسخة الأولى من كتاب ابن رشد والرشدية التي ظهرت عام 1852، بنى إرنست رينان (Ernest Renan) تحليله - وهو لم يعرف غير آثار ابن رشد الأرسطية - على مادة محدودة تتألف من النصوص المدروسة تقليدياً في الغرب. لذلك كانت «الرشدية»، وهي تيار فكري خاص بالقرون الوسطى المتأخرة وعصر النهضة، موضوع اهتمامه أكثر مما كان ابن رشد المفكر العربي الذي هو رمز لها. وهكذا وقع رينان في إسقاط الأحكام التي توصل إليها حول التاريخ الفكري للغرب، على حضارة ابن رشد.
وبعد ذلك بقليل، نشر المستعرب الألماني مولر (Müller) النصوص الدينية التي ألفها ابن رشد. وقدم ألماني آخر هو عالم الساميات مونك (Munk) إشارات تاريخية تمكن من إلقاء ضوء جديد على كتابات ابن رشد. وقد أشار رينان إلى هذه الأعمال في الطبعة الثانية من كتابه، غير أنه لم يحور شيئاً من استنتاجاته الأولى.
ثم أُنجزت أعمال كبرى تمثلت في نشر النصوص بلغتها الأصلية، بقدر ما أمكن ذلك، أو على الأقل في ترجمات موثوقة، وكذلك في إرساء منظور تاريخي. إلا أن شخصية ابن رشد بقیت دوماً موضوع خصام وادعاء متحيز. فحتى يومنا هذا لايزال منجذبون لابن رشد – الشارح يشتكون من إيلاء أهمية أكبر مما يلزم للنصوص الفقهية لهذا المؤلف، وإسلاميون لا يتناولون بالدرس غير هذه النصوص، ويتساءلون بسذاجة ما إذا «كان ابن رشد مسلماً حقيقة» .