فالهدف الأول لزيارة سموه لليونان ـ الجار العدو لتركيا ـ هو إرسال رسالة ضمنية للشعب التركي، مفادها أن المليارات، التي ستنالها اليونان من السعودية كان من المفترض أن تنالها تركيا، خلال زيارة ولي العهد لها، لولا أن الرئيس أردوغان حرم بلاده وشعبه منها، برفضه دعوة ولي العهد له للانضمام لتحالف إقليمي معادٍ لإيران.
كان ولي العهد قد زار أنقرة في 22 يونيو، ضمن جولته الإقليمية التحضيرية لقمة جدة. دامت هذه الزيارة بضع ساعات، فقط، تخللتها العديد من المواقف غير الودية بين الضيف ومضيفه، وانتهت ببيان عقيم، عبر عن طموحات البلدين لإطلاق حقبة جديدة من التعاون، بما في ذلك الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية والتجارية والاستثمارية.
إلا أن البيان لم يذكر حجم المبالغ المالية المعتمدة لذلك.الأمر الذي يعني فشل الزيارة التي كان يؤمل منها أردوغان دعمًا اقتصاديًّا سعوديًّا يمكِّن بلاده من التغلب على أزمتها الاقتصادية المتفاقمة.
الوضع الاقتصادي التركي المتأرجح هو الذي استدعى من الرئيس أردوغان التخلي عن غروره وتعاليه المعتاد وهو الذي أجبره على التنازل عن ملف التحقيقات حول مقتل خاشقجي وتسليمه للسعودية، بعد أن استخدمه لإحراج وتشويه السعودية، كدولة إرهاب لايجوز لها تزعم العالم الإسلامي السني، خلفًا للدولة التركية ـ العثمانية.
والسبب الاقتصادي ذاته هو الذي اضطر أردوغان لتحسين علاقاته مع كل من دولة الإمارات ومصر وإسرائيل، بعد سنوات من التوتر.
فبعد ثلاثة أسابيع، فقط، من تسليم ملف خاشقجي للقضاء السعودي، زار أردوغان الرياض. وخلال استقبال ولي العهد له عبر أردوغان عن تجاوزه للخلافات حول مقتل خاشقجي بأن احتضن الأمير بحرارة، الأمر الذي فسَّره عديدون على أنه تبرئة لسموه من تهمة الوقوف خلف مقتل خاشقجي، التي طالما لمحت إليها تركيا، فكان احتضان أردوغان لسمو الأمير بمثابة تبرئة واعتذار.
مع الأسف..لم يحقق أردوغان أهدافه الاقتصادية؛ لا من خلال تخليه عن قضية خاشقجي ولا من خلال زيارته للسعودية ولا من خلال زيارة ولي العهد لتركيا. وكذلك لم يحقق ولي العهد هدفه من الزيارة؛ لا بضم تركيا للتحالف الجديد، ولا بشراء طائرات مسيرة تركية.
لكن ولي العهد لم ينس الموقف الدولي المحرج، الذي وضعه فيه أردوغان عند مقتل خاشقجي، كما لم يغفر له رفض التبعية للقيادة السعودية في مواجهة إيران وحضور قمة جدة. لذلك لم يكتف ابن سلمان بحرمان تركيا من مساعدات مالية مباشرة ولا من مبالغ مالية استثمارية تحتاجها أنقرة، وإنما ذهب لزيارة أثينا، العدو اللدود لأنقرة، لإحداث تقارب، ولو صوريًّا، مع اليونان.
المتتبع لنتائج هذه الزيارة المستفزة لتركيا، وقيل عنها إنها جاءت بناء على توجيهات من خادم الحرمين شخصيًّا، سيكتشف أنها ليست بتلك الأهمية. فقد اقتصر الحوار فيها مع القيادة اليونانية، على الطاقة والإنترنت وأمور أخرى غير ذات أهمية. إلا أن ولي العهد لم ينس أن يبعث المزيد من الرسائل التأديبية لأردوغان. فقد أدلى بتصريح له استهدف به إيغال صدر الرئيس التركي، قال فيه : سنعمل على جعل اليونان مركزًا للهيدروجين في أوروبا.
أمَّا استياء ولي العهد من الرئيس الأمريكي بايدن، الذي لم يتحاش الحديث عن قضية خاشقجي المحرجة لمستضيفه ولا عن حقوق الإنسان المزعجة للنظام السعودي برمته عند محادثاته مع ولي العهد، فكان ماكان من نقاشات حادة عكرت صفو الزيارة، فقد كانت له وجوه متعددة؛ منها ما يرجع لخطاباته أثناء حملته الانتخابية، التي وعد فيها بجعل السعودية دولة منبوذة عقابًا لها على مقتل خاشقجي وغيره من انتهاكات حقوق الإنسان، وتأديبًا لها على دعمها المالي للحزب الجمهوري في سباقه الانتخابي الرئاسي الأخير لصديقها الحميم ترامب.
لكن الوجه الأبرز للاستياء السعودي من بايدن كان بسبب سحب بطاريات الدفاع الجوي ( الباتريوت) من أراضي المملكة، بعد وصوله للبيت الأبيض، الأمر الذي فُهم في السعودية على أنه تخلٍّ عن حمايتها، بل وإيحاء لإيران بإمكانية مهاجمة المملكة.
تعددت أوجه الخلافات بين الحليفين السعودي والأمريكي، منذ وصل بايدن للرئاسة، فكان من بينها حظر بيع الذخائر الغربية الذكية لكل من الرياض وأبوظبي بسبب الجرائم التي ارتكبتها طائرات التحالف العربي بحق الشعب اليمني.
لكن الأحدث في تلك الخلافات أساسه رفض واشنطن تلبية الرغبات السعودية بشن هجمات عسكرية على إيران وتفضيلها حل المشكلة مع طهران بالحوار السلمي.
لهذا السبب، بالذات، قرر ولي العهد التحاور مع إيران. ومثله فعل الشيخ محمد بن زايد مع طهران.
لتلك الأسباب مجتمعة ولغيرها مما يصعب حصره هنا قرر ولي العهد السعودي وبذات ردود الفعل العاطفية، النفسية الطفولية الساذجة، إرسال رسائل خصام أخرى لواشنطن من خلال زيارته لفرنسا، الدولة الأوروبية التي تجمعها مع الولايات المتحدة خصومات وتنافسات عديدة، ظاهرة وخفية، كان أشدها وقعًا قصة استحواذ الأمريكيين والبريطانيين على صفقة الغواصات لأوستراليا، وكان آخرها تخاذل باريس من الحرب الروسية على أوكرانيا.
كان رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد قد سبق ابن سلمان بزيارة فرنسا، بعد قمة جدة مباشرة، بهدف إرسال رسالة لواشنطن، التي رفضت بيعه طائرات حديثة من طراز إف 35، خشية إفشاء أسرارها التقنية، كما يقال، فذاهب لشراء طائرات فرنسية من طراز رافال المقاتلة ومعدات عسكرية وأمنية أخرى، قد لاتحتاجها دولته وإنما لإيغال صدر الحليف الأمريكي وحسب.
العلاقات الأمريكية مع الإمارات لاتختلف عن علاقاتها مع السعودية. فالسلوكيات المغامرة والطائشة لمحمد بن زايد تتطابق مع مغامرات محمد بن سلمان.
ولطالما تسبب الشابَّان الحديثا العهد بالقيادة وبالعمل السياسي لحليفهما الأمريكي بإحراجات كثيرة جراء سلوكياتهما المثير للمشكلات، سواء في السياسة الداخلية وتجاوزاتهما لحقوق الإنسان أم في السياسة الخرجية المثيرة للمشكلات في المنطقة، باعتبارهما حليفين لها يستمدان منها السطوة والغرور والتجاوزات الصريحة للقوانين الدولية الأساسية.
لو تابعت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية، ودققت بمواقفهما السياسية، منذ بداية العام الجاري، فقط، وحتى اليوم، لوجدت أنها تسير خلافًا لسياسات واشنطن.
نفس السياسات الانفعالية الصبيانية، التي لا تقيم وزنًا لمصالح الدولتين، بقدر ما هي تنفيس عن ضيق الحكام وتعبير عن أهوائهم الشخصية. فمواقف السعودية والإمارات الداعمة لسياسات روسيا والصين ليست صادرة عن قناعات عقلانية متزنة وإنما هي عنادية ومكابرة غايتها لفت انتباه الأمريكيين ومحاولات لاستعادة المودة السابقة، ليس إلا.
قبل يومين اجتمع وزراء نفط أوبك بلاس لبحث الطلب الأمريكي بزيادة الإنتاج لتلبية حاجات أسواق الطاقة ولضبط الأسعار..، إلا أن السعودية والإمارات ضغطتا لحصر زيادة الإنتاج بـ 100 ألف برميل، فقط، من بداية سبتمبر القادم. وذلك ما لايرضي البيت الأبيض، لكنه يرضي المحمدين المدللين.
في فرنسا، كما في اليونان، لم تكن الزيارة بتلك الأهمية، لأن هدفها الأول كان بعث رسالة لواشنطن، مفادها: إذا لم تغيروا من سياستكم نحونا، فتعطونا كل ما نريده منكم، من دون نقاش، سنجعل من فرنسا بديلًا عنكم يحتل موقع الصداقة ويحظى بالاستثمارات والشروات السخية.
الأمريكيون يفهمون جيدًا هذه الممارسات الطفولية الغبية، فلايعيرونها اهتمام.
هذه هي السياسة السعودية الطفولية، التي عرفناها وعرفها العالم عن قياداتها المتعاقبة، منذ عدة عقود، وكأنها قوانين صارمة لا يجوز لأحدهم الخروج عنها. فشراء مواقف الآخرين بالمال هو السبيل لإقامة العلاقات الجيدة والاستثمارات الضخمة وإلا فإن البديل هو الحرب السياسية والاقتصادية ( المقاطعة) .
وأمَّا المساعدات المالية والإنسانية فإن من أهم شروطها التبعية والولاء السياسي المطلق لقيادة المملكة، وذلك ما يتحقق في علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية الفقيرة؛ بداية من باكستان في الشرق وانتهاء بدول الساحل الأفريقي الغربي.
صحيح أن باريس شهدت التوقيع على 19 اتفاقية استثمارية واقتصادية بملغ 18 مليار دولار، فضلًا عن مذكرات تفاهم، إلا أن من المحتمل جدًّا ألَّا يُنفَّذ منها سوى القليل، وبالتالي لن تحصل باريس على كل المليارات، التي تطمح إليها، وهي المبالغ التي أريد من الإعلان عنها، أصلًا، إغاضة واشنطن، قبل أي شيء آخر.
وعليك أن تعلم وبكل ثقة أن اتفاقية الاستثمار الفرنسي في المجالين الثقافي والسياحي في مدينة نيوم السعودية هي الأهم من بين بقية الاتفاقيات الأخرى. فالغاية من اتفاق الطرفين على تولي فرنسا مهمة البناء الثقافي و السياحي والإشراف عليهما في مدينة نيوم الحديثة في شمال غرب المملكة هو بيت القصيد.
هذه المدينة الحديثة ( نيوم) التي أريد لها أن تكون بعيدة عن الحراك المجتمعي والشبابي في المملكة، فاختيرت لها منطقة العُلا الواقعة إلى الشمال الغربي، على خليج العقبة، هي المعول عليها احتضان كل الفعاليات الثقافية والسياحية الانفتاحية لمحمد بن سلمان، بدلًا من. العاصمة الرياض ومدن المملكة الأخرى، التي ستعود إلى سيرتها الظلامية الدينية الأولى، متخلية عن الانفتاح الثقافي والمجتمعي، الذي فرضته الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر، وقبل به محمد بن سلمان ، بذكاء ماكر، للتخلص من التبعيات العقابية، المتمثلة بقانون (جاستا).