اسباب النزاع
اندلعت المواجهات بين القوات الأذرية والأرمينية ، وسط اتهامات متبادلة بين الدولتين بإشعال المواجهات، إذ تقول أذربيجان إنها شنت "عملية مضادة" ردًّا على إطلاق القوات الأرمينية النار على مناطق سكنية على خط التماس في إقليم قره باغ ما أسفر عنه سقوط قتلى في صفوف المدنيين، بينما تتهم أرمينيا الجانب الأذربيجاني بشن ضربات جوية ومدفعية على الإقليم، وإعلان الحرب ضدها. وتستخدم قوات البلدين في المواجهات الدائرة بينهما الصواريخ والمدفعية وقذائف الهاون والدبابات والمدرعات والطائرات المُسيّرة والطائرات المروحية.
وأعلنت وزارة الدفاع الأذربيجانية، عن سيطرتها على 6 قرى في منطقتي "فضولي" و"جبرائيل"، في إقليم قره باغ، بعد تحريرها مما وصفته بـ"الاحتلال الأرميني"، بالإضافة للسيطرة على عدة مرتفعات استراتيجية قرب قرية "تاليش" في الإقليم. بينما قالت أرمينيا إن قواتها استعادت بعض المواقع التي خسرتها. وقد أعلنت الحكومة الأرمينية الأحكام العرفية والتعبئة العامة في البلاد على خلفية التصعيد العسكري مع أذربيجان، ودعا رئيس الحكومة "نيكول باشينيان"، جميع أفراد الاحتياط للحضور إلى مقرات المفوضيات العسكرية. وردت أذربيجان على ذلك بإعلانها هي الأخرى "حالة الحرب" في 19 مدينة ومنطقة سكنية، بما فيها العاصمة باكو، بالإضافة للتعبئة العسكرية الجزئية في البلاد.
ويبدو أن الاشتباكات بين الدولتين مرشحة للتصاعد خلال الفترة المقبلة، فقد هدد سفير يريفان لدى موسكو "فاردان توغونيان"، باستخدام القوات الأرمينية لكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك منظومات صواريخ "إسكندر" الباليستية التي يصل مداها إلى 650 كم، التي حصلت عليها أرمينيا من روسيا في 2016، في حال أرسلت تركيا مقاتلات "F-16" إلى إقليم قره باغ. وردت الخارجية الأذربيجانية على هذه التهديدات بالقول، إن بإمكان أذربيجان الرد بشكل مناسب على أرمينيا، إذا استخدمت منظومات "إسكندر".
جذور الازمه
تعود جذور النزاع إلى القرن التاسع عشر عندما أبرمت معاهدة جولستان (1813) للسلام ومعاهدة تركمانشاي (1828) للسلام بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية الفارسية والتان بموجبهما تم توطين جماعي سريع للأرمن من إيران وتركيا في المنطقة وتغير بالتالي التكوين العرقي في المنطقة تمامًا. ثم تأسست جمهورية أذربيجان الديموقراطية وجمهورية أرمينيا عام 1918، وكان إقليم قره باغ تابعا لجمهورية أذربيجان الديموقراطية آنذاك.
في 1920، تم تأسيس الحكم السوفيتي في كلا البلدين وفي 1921 أكد المكتب القوقازي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي (البلاشفة) بقراره الصادر في 5 يوليو 1921 على بقاء ناغورنو قره باغ داخل جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، وليس "نقله" أو "منحه" أو "ضمه" لأذربيجان، الأمر الذي يثبت أن الإقليم كان جزء من أذربيجان وتم تأكيد مرة أخرى بقرار المكتب المذكور أعلاه، على أن يظل داخل أذربيجان.
كان قرار 5 يوليو 1921 هو القرار النهائي والملزم، والذي اعترفت به أرمينيا نفسها على مدار السنوات.
وفي عام 1923 مُنح لإقليم ناغورني قره باغ الذي كان جزءا من أذربيجان، حكما ذاتيا داخل أذربيجان.
عندما نالت جمهورية أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، اعتُبرت الحدود الإدارية السابقة لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية، والتي شملت أيضا منطقة ناغورني قره باغ، حدود دولية ويجب حمايتها بموجب القانون الدولي (مبدأ الحدود الموروثة ).
وقد تم التأكيد على هذا المبدأ بشكل قاطع وغير مشروط في قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن النزاع بين أرمينيا وأذربيجان.
في نهاية عام 1987، أعلنت الجمهورية الأرمنية الاشتراكية السوفياتية عن مطالبتها بأراضي منطقة ناغورني قره باغ المتمتعة بالحكم الذاتي التابعة لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفياتية. عندما انهار الاتحاد السوفيتي، قامت أرمينيا بالعدوان على أذربيجان مما أدى إلى احتلال منطقة ناغورني قره باغ والمناطق السبع المجاورة لها.
أودت الحرب بحياة عشرات الآلاف من الناس ودمرت المدن وسبل العيش وأسفرت عن الطرد القسري لأكثر من مليون أذربيجاني من منازلهم وممتلكاتهم.
في عام 1993 بعد الاستيلاء المسلح على الأراضي الأذربيجانية، اعتمد مجلس الأمن الدولي القرارات التي تدين استخدام القوة ضد أذربيجان واحتلال أراضيها و إعادة التأكيد على سيادة ووحدة أراضي أذربيجان وحرمة حدودها المعترف بها دوليا.
وأكد مجلس الأمن من جديد في هذين القرارين أن منطقة ناغورني قره باغ جزء من أذربيجان ودعا إلى انسحاب فوري وكامل وغير مشروط لقوات الاحتلال من جميع الأراضي المحتلة بأذربيجان.
وتزامنا مع ذلك، أعلن أرمن الإقليم الانفصال عن أذربيجان، فأرسلت حكومة أذربيجان قوات إليه محاولة استعادته. وبدورها ساندت أرمينيا أرمن قره باغ؛ فبدأت الحرب التي أودت بحياة أكثر من 30 ألف شخص من الأذريين والأرمن.
وفي مسعى لوقف الحرب، أصدر مجلس الأمن عام 1993 قراره رقم 822، وطالب فيه القوات الأرمينية بالانسحاب من الأقاليم المحتلة في أذربيجان، لكن القوات الأرمينية لم تمتثل للقرار.
وانتهى القتال بين أذربيجان وأرمينيا على ناغورني قره باغ عام 1994، عندما تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار. وما زال الجانبان رسميا في حالة حرب لأنهما لم يوقعا على معاهدة سلام.
وفي عام 2006، أقر أرمن الإقليم الوليد دستورا كرسه باعتباره "جمهورية" مستقلة ومنفصلة عن أذربيجان، واختاروا مدينة "إستبانا كريت" عاصمة لهم.
ولطالما تعثرت الجهود المبذولة لإحلال السلام النهائي في الإقليم بسبب قضايا شائكة، مثل قضية المناطق الواقعة خارجه، والتي تحتلها القوات الأرمينية.
وتشكل عدة دول -على رأسها روسيا والولايات المتحدة وفرنسا- "مجموعة مينسك" المفوضة دوليا بالعمل وسيطا لحل هذا النزاع، ونظمت المجموعة عدة جولات من المحادثات لهذا الغرض، لكنها لم تكلل بالنجاح.
ففي 24 يونيو 2011، عقد الرئيسان الأرميني سيرج سركسيان والأذربيجاني إلهام علييف محادثات في مدينة قازان الروسية برعاية من الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف.
وفشل المجتمعون في التوصل إلى وثيقة إطار تلزم طرفي النزاع برفض استخدام القوة لحله وتضع تسوية لمشكلته، لكنهم أكدوا -في بيان أصدروه عقب الاجتماع- ضرورة التوصل إلى تفاهم متبادل حول مجموعة من القضايا ستساعد على خلق ظروف مواتية للموافقة على المبادئ الأساسية.
وفي الخامس من يوليو 2015، أعلنت أذربيجان تمكن قواتها العسكرية من إسقاط طائرتين من دون طيار تابعتين للجيش الأرميني، قالت إنها اكتشفتهما لدى قيامهما بجولات استطلاع فوق المواقع الأذرية بمنطقة "ترتر" على خط الجبهة بين البلدين.
وأدى تطور الأحداث إلى أن استخدمت أذربيجان في ديسمبر 2015 -للمرة الأولى منذ 20 عاما- دبابات ضد مواقع الانفصاليين في ناغورني قره باغ.
وفي الثاني من أبريل 2016، تبادل الجانبان اتهامات بانتهاك وقف إطلاق النار على خط التماس، مما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا، وهدد باشتعال الحرب بينهما، لكن وزارة الدفاع الأذرية أعلنت لاحقا وقف إطلاق النار من جانب واحد، مهددة بالرد في حال تعرض قواتها للهجوم مجددا.
وفي 27 سبتمبر 2020، لاحت نذر الحرب بين أذربيجان وأرمينيا مع اندلاع جولة عنيفة من التصعيد العسكري في الإقليم، حيث سقط قتلى وجرحى من الجانبين، وأعلن الانفصاليون الأرمن حالة الحرب والتعبئة العامة بالإقليم، وسط دعوات إقليمية ودولية لوقف القتال.
توقيت تجدد النزاع
أن توقيت تجدد النزاع اليوم، وعنف المعارك، واستعمال الطائرات المسيّرة من قبل أذربيجان أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح لدى أرمينيا في فترة قياسية، ما أثار الريبة في أن الأمر محضر سلفاً، فمن له مصلحة فعلية في إشعال فتيل الحرب في القوقاز، وفي هذا التوقيت بالذات؟
يكتسب الصراع الأذربيجاني-الأرميني أهميته من حيث التوقيت، إذ يتزامن مع قمة شنغهاي للتعاون التي تعقد في سمرقند، أوزبكستان يومي 15 و16 سبتمبر، وعلى هامش القمة، يولي الرئيس رجب طيب إردوغان أهمية كبيرة للقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل مستجدات الحرب الأوكرانية، وصفقات الحبوب والغاز الطبيعي والأسلحة، ومحطة أكويو للطاقة النووية وتحويل رأس المال من روسيا، كلها أمور مطروحة على الطاولة، ستضاف إليها مسألة النزاع الآذري -الأرميني.
ويرى محللون ان الغرب يحاولون إحياء اتفاق مينسك والعودة إلى القوقاز، وهو الحديقة الخلفية لروسيا من خلال اشعال فتيل الحرب في القوقاز وكان الرئيس بوتين حذر الغرب من فتح مناطق نزاع جديدة، وذكر عدداً من القضايا التي يتم العبث بها، أتى ذلك بعد زيارة وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات الأميركية، في 12يوليو إلى أرمينيا، ولقائه كلاً من رئيس الوزراء ورئيس الأركان العامة للجيش الأرميني. بعد 4 أيام، قام رئيس المخابرات الروسية في 19 يوليو، بزيارة هذه المرة إلى يريفان للقاء باشينيان.
تواصلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع زعماء كل من أرمينيا وأذربيجان، للمطالبة بعدم التصعيد، فيما طالب باشينيان بقرار من مجلس الأمن. في الوقت عينه، تحدث قائد الأركان الأرميني هاتفياً إلى نظيره الروسي صباح الثلاثاء، واتفقا على اتخاذ خطوات من أجل استقرار الوضع على الحدود الأرمينية -الأذربيجانية.
و يبدو الاهتمام الغربي واضحاً هذه المرة في ظل الحرب الأوكرانية-الروسية والحاجة إلى الغاز، وهو أقامة علاقات مع باكو من أجل تعزيز جر الغاز إلى أوروبا، ما جعلها تعتقد بأنه يمكنها أن تفرض ما تطمح إليه في حربها مع أرمينيا التي بدورها تفعّل اللوبي الأرميني في الغرب للمطالبة بالمساعدة.
وقد طرحت فرنسا موضوع الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان في مجلس الأمن الدولي، وقام غوتيريش بالاتصال بالرئيس الروسي ليبدي قلقه، وصرح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بأن على روسيا أن تفعّل دورها. علماً بأن موسكو تواصلت مع الطرفين، وحثّت الجانبين على الالتزام بوقف إطلاق النار، وعقدت اجتماعات للبلدين، فهل يضطر الروسي إلى إدخال التركي عنصراً مقرراً إلى جانبه كقوة حفظ سلام تمون على باكو، كما كانت أنقرة تريد في العام 2020، وباءت مساعيها بالفشل، من أجل إبعاد شبح التدخل الغربي؟
التداعيات الصراع
لا شك أن أنقرة ترغب بحل النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، لكن لمصلحة باكو، الأمر الذي يمكن أن يعزز الاتحاد التركي –الأذربيجاني، ما يمكنه أن يحمل علييف على الاعتراف، رسمياً، بجمهورية شمال قبرص التركية. وبذلك، يضمن لأنقرة نجاحاً في الصراع مع اليونان وقبرص يخدمها حالياً بدرجة كبيرة. وهي على خلاف مع اليونان بشأن الجزر.
وكانت أذربيجان قد وسعت سيطرتها الاقتصادية في تركيا، فشركة النفط الحكومية SOCAR تعد أكبر مستثمر أجنبي منفرد في تركيا، كما يمثل خط أنابيب النفط المزدوج الذي ينقل النفط الأذربيجاني عبر جورجيا إلى محطات التصدير على شاطئ البحر المتوسط التركي، وآخر ينقل الغاز الطبيعي إلى تركيا وإلى أوروبا مصدراً كبيراً للإيرادات التي يستفيد منها الطرفان؛ وهناك الكثير من المصالح التجارية بين علييف وإردوغان.
أذربيجان أيضاً تشعر بمزيد من الثقة، مع تشتيت انتباه روسيا في أوكرانيا.. لقد نزعت الحرب جزئياً الشرعية عن وجود قوة حفظ السلام الروسية في كاراباخ، وعززت طريق النقل "الممر الأوسط" الذي يمر بين تركيا والصين عبر أذربيجان وبحر قزوين وتجاوزت روسيا، ما جعل أوروبا أكثر حرصاً على شراء الغاز الأذربيجاني.
ولا شك أن حرب 2020، دفعت باشينيان الذي كان يسعى للابتعاد عن موسكو، إلى أن يدخل أكثر تحت جناحها، إذ أصبحت أرمينيا عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي للدول السوفياتية السابقة، كما تحرس القوات الروسية حدود البلاد مع تركيا وأذربيجان وإيران، وتنتشر قوات حفظ سلام لمراقبة خط وقف إطلاق النار المهتز بينها وأذربيجان في ناغورنو كاراباخ وحولها، وكذلك تمتلك روسيا البنية التحتية للطاقة في أرمينيا، وجميع خطوط السكك الحديد الخاصة بها، وتدفع أرمينيا أسعاراً أقل من أسعار السوق للغاز الطبيعي الروسي.
إيران، من جهتها، أعربت عن قلقها من تجدد التوتر والاشتباكات الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا، داعية إلى "حلّ الخلافات عبر القانون الدولي"، وعدّت أي تغيير للحدود بين البلدين غير مقبول، وهي تراقب بقلق الاشتباكات الحدودية؛ نظراً إلى تداعياتها المحتملة الكبيرة على حدودها، وموقعها الجيوسياسي في القوقاز الجنوبي، إذ إن الربط البري بين نخجوان وأذربيجان لوصول تركيا إلى آسيا الوسطى يمكنه التأثير في الطريق التي تربط بين إيران وأرمينيا وبين إيران وأوروبا، ما قد يؤثر في نفوذ إيران الجيوسياسي في القوقاز.
وبالإضافة إلى ذلك، يطرح الوضع المتبلور تحديات أمنية جديدة أمام إسرائيل، فهي من أبرز الأطراف التي تزوّد أذربيجان بالسلاح. ونظراً إلى أن هذه الأسلحة تُستخدم على الأرجح في القتال الحالي، يمكن أن تضغط روسيا على إسرائيل للامتناع عن إرسال قطع الغيار والمزيد من الإمدادات. فقد سبق لموسكو أن نجحت في فرض ضغوط مماثلة خلال الحرب التي وقعت مع جورجيا في عام 2008. وصحيحٌ أن القوات الروسية ليست منخرطة بشكل مباشر هذه المرة، إلا أن في جعبة الكرملين حالياً المزيد من الوسائل للضغط على إسرائيل نظراً لتدخلها المستمر في سوريا المجاورة.
تنافس جيوسياسي مستمر في المنطقة
بعد إحجامها عن التدخل المبكّر لاحتواء التصعيد في ” كاراباخ”، نجحت موسكو في اللحظة الأخيرة بالتوسط لإنهاء الحرب من خلال الاتفاقية الثلاثية التي وقعها رؤساء روسيا وأذربيجان وأرمينيا، بدون مشاركة مجموعة “مينسك” التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (يشترك في رئاستها ممثلون من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا)، مما أعاد تأكيد دور روسيا المحوري في المنطقة، خاصة وأن الاتفاقية تؤسس لأول قاعدة عسكرية روسية كبرى داخل أذربيجان، وسمحت بانتشار أوسع للوجود العسكري الروسي في جنوب القوقاز.
لكن الطريق أمام موسكو لا يزال غير واضح، وسوف يعتمد تطور علاقات روسيا مع أرمينيا وأذربيجان على قدرتها على ترجمة نجاحها في فرض الوقف إلى تحقيق سلام دائم في المنطقة. خلاف ذلك، سينتهي الأمر بتكرار أخطاء اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1994 السابقة، والتي انهت حرب دامت ست سنوات وتوسطت فيها روسيا أيضًا، لكنه لم يرافقها معاهدة سلام دائمة مما أدى في النهاية إلى إعادة التصعيد.
من جهة أخرى، سيواصل العديد في المجتمع الدولي الإصرار على حقوق الأرمن وتأمين حمايتهم، والمشاركة في مسار أي معاهدة دائمة، وهو موقف عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة، عندما رحب بالاتفاق ودعا لبدأ مفاوضات موضوعية تحت رعاية مجموعة “مينسك”، ونفس الأمر دعا له وزير الخارجية الفرنسي، حيث طالب باستئناف فوري للمفاوضات تحت رعاية “مينسك” للسماح بعودة النازحين ومن أجل تحديد “الوضع المستقبلي” لناغورنو كاراباخ.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ظل بعيدًا إلى حدٍ كبير عن الأزمة، إلا أنه من المحتمل أن يأخذ الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” المزيد من القرارات والموقف المؤيدة للأرمن، على غرار فرنسا، بالنظر إلى صلاته الطويلة مع الشتات الأرمني في الولايات المتحدة، والتصريحات التي أدلى بها بالفعل إلى وقف تقديم الولايات المتحدة المساعدات العسكرية لأذربيجان.
من جهتها، ستسعى تركيا التي أيدت ” باكو” أثناء الحرب، دبلوماسياً وعسكرياً، وعززت نتيجة الحرب من نفوذها في جنوب القوقاز ودفعتها لتصبح لاعباً مؤثراً في المنطقة، لتشكيل تسوية مستقبلية لصالح حليفتها أذربيجان، وستواصل أنقرة المطالبة بدور رسمي في محادثات التسوية بعد أن استبعدتها موسكو من المشاركة المباشرة في “الاتفاق الثلاثي”، وستلعب بلا شك دورًا مهمًا للغاية في الأراضي الخاضعة للسيطرة الأذربيجانية في منطقة الصراع
اتفاق سلام دون حل للقضايا الأمنية
بالرغم أن اتفاق السلام الموقع بين أرمينيا وأذربيجان أنهى حرباً استمرت 44 يوماً، لكنه ترك بعض الثغرات التي ستشكل بؤرة توتر في السنين القادمة، لا سيما مع وجود ارث ثقافي وصراع طويل ممتد بين البلدين منذ تأسيس جمهورية القوقاز السوفيتية تحت الاتحاد السوفيتي في عشرينيات القرن الماضي.
ووفقاً للاتفاقية، سيتعين على أرمينيا الانسحاب من المقاطعات الأذربيجانية الخاضعة للسيطرة الأرمينية والتي تحيط بـ”ناغورنو كاراباخ”. ومع ذلك، الصفقة لم تحدد وضع ” كاراباخ” نفسها بشكل دقيق، حيث أنها منطقة معترف بها دوليًا ضمن دولة أذربيجان ولكنها تخضع فعليًا لسيطرة عرقية الجمهورية الأرمنية (غير معترف بها). ولا تزال مكانًا ذا أهمية لكلا الطرفين ومفتاحاً لهوياتهم الوطنية. كما أن الاتفاق لم يذكر طرق عودة اللاجئين داخليًا، وشروط استرداد الممتلكات لعودة النازحين الأذربيجانيين.
الخاتمة
بينما من المرجّح أن يؤمن وقف إطلاق النار نهاية الجولة الأخيرة من معارك إقليم “كاراباخ”، سيبقى الوضع الأمني عموماً في منطقة القوقاز متقلبًا، في ظل كون الطرفين المتصارعين لا يزالان بعيدين جدًا عن الاتفاق على شروط دائمة للسلام، وخضوع الوضع الميداني لاختبار للدور الروسي في منع حدوث انتهاكات للاتفاق.
وقد تدفع ضغوط محلية أكبر، السلطات الأذرية، التي تتمتع بالجرأة العسكرية، إلى إحياء الصراع في “ناغورني كاراباخ” مستقبلاً، والسعي لضمها. وفي هذا السيناريو، فإن أرمينيا – على الرغم من النكسة الأخيرة- من المحتمل الرد بعمل عسكري، مما يؤدي إلى مزيد من الصراع المسلح، وسيكون في حينها موقف إدارة الرئيس “بايدن” والموقف الروسي أحد المحددات الرئيسية لمسار الصراع.
من جهة أخرى، ستقوض خسارة أرمينيا، والتسوية التي فرضت عليها من روسيا، العلاقات بين يريفان وموسكو، وقد يدفع ذلك الحكومة الأرمنية نحو شراكة أوثق مع الغرب، أملاً في تأمين ضغط دولي على باكو لفرض تنازلات سياسية. ومع ذلك، لن تتخلى روسيا بسهولة عن منطقة نفوذها في أرمينيا، وستستغل الإرادة الداخلية المهزومة للقادة الأرمن، والوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور، بما فيه احتمالية الإطاحة بحكومة “باشينيان”، للضغط أكثر على يريفان.
وسيؤمن الانتصار العسكري الذي حققته أذربيجان بدعم من تركيا نفوذاً أكبر لأنقرة في جنوب القوقاز، وربما كلاعب سياسي في المحادثات المستقبلية، وستحافظ تركيا على وجودها، بما في ذلك القوات العسكرية ونقاط المراقبة الروسية التركية المشتركة، من خلال العلاقات الثنائية مع أذربيجان، وسعي باكو الأرجح إلى موازنة الوجود العسكري الروسي على أراضيها بالقوات والسلاح التركي. وستعمل تركيا اقتصادياً على زيادة حصتها في التجارة الإقليمية من خلال الاستفادة من الطرق البرية عبر أذربيجان التي حققها