أجندة نُشر

أفول شعارات الأورو- أطلسي راية واحدة وعلم واحد !

عرب جورنال / أروى حنيش -

كانت فترة الحرب الباردة هي الفجوة العميقة في تاريخ الصراع الكوني بين الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية وقفت هاتان الكتلتان السياسيتان في حالة عداء متزايد ضد بعضهما البعض، ولكن بالرغم من العداء القوي الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والأيديولوجي والأمني والعسكري والثقافي في صورته العلنية، ومع ذلك لم تبلغا إلى حالة الحرب والمواجهة،

أفول شعارات الأورو- أطلسي راية واحدة وعلم واحد !

رغم أن مناخات تلك المرحلة لم تكن بالعادية تماماً في تاريخ الدول والمجتمعات التي شابها بعض التوترات المستمرة، والحروب بالوكالة في العديد من الأماكن المتفرقة من العالم، تزامن مع حراك سياسي دولي أكثر ديناميكية في تسارع الأحداث وسباق التسلح وظهور الصناعات التكنولوجية الحديثة، ولم تخلو المراهنة بينهما بأفول نجم أحدهما على الساحة الدولية. فالصراع السياسي والايديولوجي انعكس بصورة أفقية على الوعي الطبقي المجتمعي، وتشكلت فئات وشرائح على ضوء هذا الفرز  أخذت في الاتساع في فضاءات عالمية كبيرة ونهلت التيارات في الوطن العربي وفي أمريكا اللاتينية وافريقيا المنهج العلمي للاشتراكية والأفكار القومية  أساسا لنشوء  حركة التحرر القومي ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي في فترة الثلاثينات وحتى ستينيات القرن الماضي، كما انعكس هذا الوضع على العديد من حركات التنوير والاحزاب السياسية في مناهج التفكير الحديث الذي نشأ في ذلك الوقت على النخب الأوروبية لفترة أطول بكثير مما كان متوقعاً لتحرير أوروبا من الفكر النازي المتطرف.

 

الهيمنة على العالم

 عندما أعلن القرار الرسمي بشأن حل الاتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر عام 1991 كان العالم مقتنعا بأن عصر الحرب الباردة قد ذهب إلى غير رجعة وفقاً للكثير من التوقعات والتنبؤات، كان النظام الدولي حينذاك يترقب لتغير هام في ذلك الوقت من نظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، حيث وجدت الولايات المتحدة هذا الفراغ لتلعب الدور المهيمن على العالم، وكانت تعتقد أن الليبرالية الرأسمالية سوف تسود العالم وإلى الأبد، وأن النموذج الأورو- اطلسي هو الذي سيحدد التفكير السياسي في أوروبا، والنظام العالمي سيحمل علماً وراية واحدة فقط مع شعار “السلام الأمريكي”. غير أن الناس لم يلاحظوا أن نوعا من السلوك الذي أدى إلى إضعاف الكتل السياسية أثناء الحرب الباردة، وما بعدها، لاسيما عشية تفكك الاتحاد السوفيتي الذي أصابات هياكله التنظيمية في رأس الهرم "سوسة" المافيا السياسية التي نخرت جسم الدولة من الداخل. لم يكن العالم حينها يتصور ما يحدث، هكذا هيأ جورباتشوف "النهاية المأساوية"  وهو رئيس الدولة الذي وافق على إزالة جدار برلين 1989، ونهاية عصر الدولة السوفيتية المريع 1991. كل ذلك تظهر أثاره المباشرة  على الحالة التي نشهدها اليوم، إذ لم تكتف واشنطن بابتلاع الدول الشرقية التي سيطرت عليها، وجعلت حلف الناتو مهيمنا عليها بقواعده العسكرية، بل أخذت تزحف نحو أوكرانيا وجورجيا لاكتمال سيناريو تطويق روسيا وضربها بواسطة الوكيل الأوكراني، وإذا ما تم لها ذلك ستتوجه نحو الصين لتطبيق سيناريو أوكرانيا من ذات الخاصرة المشابهة تايوان الصينية. وهناك شيء آخر أكثر أهمية، وهو أن الاتحاد الأوروبي بات يقع وسط أزمة هيكلية وإيديولوجية عميقة وخطيرة. فالولايات المتحدة الأمريكية بدأت تفقد بإستمرار القوة في البعد العالمي، وهذا السلوك بدأ يظهر من خلال مواقف الرئيس الامريكي جو بايدن الواهية. ومع ذلك، فكما تكره الطبيعة الفراغ، فإن الأمر نفسه غير ممكن في هيكل النظام الدولي العالمي على المدى الطويل. فقد أصبح النظام العالمي اكثر  فضفاضاً  وغير مستقر، وكان ذلك وراء السبب في وصول قوى جديدة، كالصين، أو قديمة مثل روسيا، إلى المسرح الدولي من جديد.

 ولكن عندما يتعلق الأمر بروسيا، يبدو أن الأمر أكثر تعقيداً، ويمكن الاشادة  ببطولات الجنود الروس الذين ساعدوا في تحرير سوريا من الإرهابيين المدعومين من الغرب، واتخاذ روسيا الإجراءات السلسة التي أثرت وجودها في الشرق الأوسط بشكل مباشر بهزيمة داعش وتوجيه لها ضربات ساحقة، والاستقرار الجزئي للمنطقة.

 

العلاقة الروسية البولندية

 العداء والكراهية العنيفة  البولندية تجاه روسيا تضرب بجذورها بعيداً في التاريخ. ففي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وبعد الغزو المغولي احتلت بولندا معظم الأراضي الروسية الغربية، وأصبحت لبعض الوقت القوة الأكبر في أوروبا من حيث المساحة، بل لقد استولت بولندا في 1610-1612، على موسكو واحتلتها، وأعلن الملك البولندي نفسه قيصراً على روسياً. إلا أن الروس تمكّنوا من طرد البولنديين، وأعادوا إنشاء دولتهم، ومن ذلك الحين بدأت بولندا تتقلص إقليمياً، وفقدت فرصة أن تصبح قوة سلافية عظمى رئيسة من جديد، وهو ما نجحت فيه روسيا. يعجز البولنديون عن تجاوز تلك اللحظة التاريخية الفارقة، ومع ذلك لا تزال بولندا تحلم بمكانة القوة العظمى، ولا تفوت أي فرصة واحدة لمحاولة توسيع نفوذها نحو الشرق. بدا ذلك واضحاً على وجه الخصوص، في دور "وارسو" الكبير والمعروف في التنظيم والدعم الإعلامي للاحتجاجات المناهضة للحكومة عقب الانتخابات البرلمانية في بيلاروسيا عام 2020، ثم في الانقلاب الفاشل على الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بعد فشل الانقلاب، لم يكن هناك سبيل سوى تعزيز العلاقة  بين موسكو ومينسك، وقعت مينسك وموسكو مؤخراً حزمة جديدة من الاتفاقات حول التقارب الاقتصادي المتبادل بين البلدين. من جانبها بدأت وارسو تبدو كقاعدة عسكرية كبيرة لحلف الناتو، وبدأت بشن هجومها في معظم الأعمال المعادية لبيلاروسيا، ومناهضة روسيا في الاتحاد الأوروبي، وبعد فشل الانقلاب واصلت جهودها في هذا الاتجاه أضعافاً مضاعفة. فعلى خلفية الصور التلفزيونية المروعة من الحدود البيلاروسيا- البولندية، تتحدث العواصم الأوروبية من جديد عن عقوبات جديدة. وبالفعل تم تشديد العقوبات ضد بيلاروسيا واتهامها بأنها وراء اللاجئين القادمين من مناطق النزاعات المسلحة والحروب في الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلا عن إصرار  وارسو أن بوتين وراء كل هذا، بمعنى أنه يجب فرض عقوبات جديدة على روسيا هي الأخرى. وفي هذا المقام  نود التذكير بأن شركة "غازبروم" الروسية توفر حوالي ثلث الحجم الإجمالي لإمدادات الغاز إلى أوروبا.  ويتم ذلك في إطار عقود طويلة الأجل مرتبطة بسعر سلة من المنتجات البترولية والغذائية، ومع ذلك قررت المفوضية الأوروبية الحصول على ميزة من خلال ربط الأسعار بمضاربة البورصة، وخلق "سوق للمشتري" للهيمنة عليها. إلا أن تلك النظرية أثبتت غبائها في ظل ظروف نقص الغاز المسال من قطر والولايات المتحدة الأمريكية، وتحويله نحو آسيا، لتقع أوروبا في أزمة غاز، حيث ارتفعت على أثرها أسعار الغاز في البورصات الأوروبية عدة مرات. وكانت بولندا قبل ذلك قد رفعت دعوى قضائية على شركة "غازبروم" لعدة سنوات لفسخ الاتفاقية السابقة، طويلة الأجل، والتحوّل إلى أسعار الصرف، ونجحت في ذلك عندما قضت المحكمة الأوروبية "العادلة" بتعويضها بمبلغ 1.5 مليار دولار، ولكن بعد ذلك ارتفعت أسعار الصرف، أعلى بعدة مرات من الأسعار الروسية بموجب عقود طويلة الأجل، لتعود بولندا مرة أخرى إلى "غازبروم" بطلب لتخفيض أسعار الغاز .  بصفة عامة، فإن أزمة الغاز الحالية في أوروبا كشفت عدم كفاءة البيروقراطية الأوروبية، بل وظهر غباء بولندا في هذا الإطار نموذجياً بأبعاد أسطورية. وبغض النظر عن أزمة الغاز الحالية، فهناك سؤال استراتيجي حول "السيل الشمالي-2". فبحسب تصريحات "غازبروم"، أصبح الخط جاهزاً للاستخدام وتوريد الغاز إلى أوروبا، ويعني ذلك منطقياً تعزيز التعاون الروسي الألماني، وزيادة دور ألمانيا في الاتحاد الأوروبي كأكبر مركز للغاز، وهو ما يمثّل كابوساً يقض مضجع الولايات المتحدة الأمريكية وعملائها في الاتحاد الأوروبي. وعليه سيتم تحديد مصير "السيل الشمالي-2" في الأشهر المقبلة، حيث ستحتاج واشنطن بشكل عاجل افتعال أزمة روسية أوروبية كبرى لمنع تشغيل خط الأنابيب. فإدارة الرئيس بايدن لا تريد، أو بالأحرى لم تعد قادرة على فرض هذا القرار على ألمانيا، لذا أصبح من الضروري تنظيم مثل هذا القرار "من داخل الاتحاد الأوروبي نفسه" وكانت الأزمة الأوكرانية التي افتعلتها الولايات المتحدة لتضييق الخناق على روسيا أحد الأسباب في اتخاذ العقوبات وإيقاف خط سيل الشمال-2 الذي كان قيد التشغيل ليعطي غرب وشمال أوروبا بالكامل. لذلك تصبح بولندا خياراً نموذجياً كونها الوكيل الأكثر ولاءً ونشاطاً للأنجلوساكسون في الاتحاد الأوروبي. في الوقت نفسه فوارسو على استعداد للعمل ليس فقط ضد المصالح الأوروبية، بل ضد مصلحتها في بعض الأحيان، إذا ما كانت نتيجة تضحياتها مزيداً من الأذى لخصومها. لم يكن من قبيل الصدفة أن أطلق تشرتشل على بولندا لقب "ضبع أوروبا".

وطالما استمرت واشنطن في محاولة زعزعة استقرار أوروبا، وعرقلة التقارب الروسي الألماني، فستكون بولندا حتى ذلك الحين في طليعة هذا الركب.

 

العداء الغربي لروسيا

بناء على ما سبق فإن جذور علاقات روسيا القيصرية، والسوفيتية، والفيدرالية بدول الجوار، تمتد في أعماق تربة الخلافات والحروب التي ولّدَت الكراهية والعداء بين الأطراف المتحاربة منذ مئات السنين، وكان امتدادها مرتبطا بالمناخ السياسي-الاقتصادي. فالنظام السوفيتي مثلا حاول تحسين علاقاته بالدول التي حررها من الإحتلال النازي من خلال زيادة التعاون الاقتصادي والثقافي، لكنه جوبه بقوى سياسية داخلية وخارجية اعتبرت التحرير امتدادا لهيمنة الاتحاد السوفيتي.

 

ورغم هدوء جبهات الحروب التي خاضها الاتحاد السوفيتي واخماد نيرانها بعد الحرب العالمية الأولى، ونجاح الثورة الروسية البلشفية، وإعتراف الاتحاد السوفيتي باستقلال الدول المُحررة، إلا أن بعض قيادات الغرب، لم تتحرر من هواجس العداء التاريخي، واعتبرت هذه المتغيرات احتلالا تابعا للاتحاد السوفيتي.

 

تجاوز الصعاب

تحملت روسيا الفيدرالية أعباء إقتصادية وسياسية ثقيلة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، الذي حصل بفعل عوامل داخلية ( تدهور الأوضاع الاقتصادية، والتذمر الشعبي، والخيانة الجماعية في المكتب السياسي واللجنة المركزية، التي بدأها جورباتشوف ويلتسين وشيفرنادزة ومَن لف لفهم) وخارجية ( الضغوط والتدخلات الأمريكية والأوروبية والصهيونية المعادية). ومرّت روسيا في تسعينات القرن الماضي بأصعب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ظل قيادة سياسية مرتدة وفاشلة، لكنها تمكنت تدريجيا من تجاوز الصعاب واستعادة عافيتها، وفرض وجودها السياسي والعسكري في العقدين الماضيين، بشكل خيّب آمال الامبريالية الأمريكية والرأسمالية الأوروبية التي لا تريد لروسيا ان تلعب دورا سياسيا واقتصاديا في أوروبا والعالم، بجعلها منشغلة في دوامة الأزمات المفتعلة مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، كما حصل في الشيشان وجيورجيا سابقا ويحصل حاليا في أوكرانيا.

 وهناك  أغفلت حقائق لايمكن التغافل عنها يتوجب ذكرها :

- لا يجوز الخلط بين روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية، فالإولى انشغلت بحروب توسعية على حساب دول الجوار، بينما الثانية حررت هذه الدول واعترفت باستقلالها.

- لا يجوزالخلط بين الاتحاد السوفيتي وروسيا الاتحادية. فالأول تشكل من 15 جمهورية شاركت شعوبها بتحرير النمسا وتشيكوسلوفاكيا وبولندا ودول البلطيق وكانت الثانية (روسيا) من بين هذه الجمهوريات،

- هنالك دول أقدم تاريخيا من روسيا، اعتبر المهاجر أنها تأسست بمساعدة الاتحاد السوفيتي .

- القول بأن نصف أوروبا وجزء من آسيا نال وضع " دولة " بفضل روسيا، مبالغ فيه ويعوزه مراجعة تاريخ نشوء الدول. وأخيرا لا تتحمل روسيا الفيدرالية تبعات حروب الامبراطورية الروسية ضد دول الجوار، وما خلفته من كراهية وجفاء مٌزمن كشفت عنه الأحداث في فترة الحكم السوفيتي عام 1953 في ألمانيا الشرقية و 1956 في المجر، وربيع براغ سنة 1968 والاضطرابات العمالية التي شهدتها بولندا سنة 1980.

أما ما يتعلق بالأزمة مع أوكرانيا، فإنها فضحت نفاق وغباء السياسة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية باختيار التصعيد وتقديم المساعدات المالية والعسكرية للنظام الأوكراني في الوقت الذي أعلنت فيه روسيا الفيدرالية مرارا، بأنها لا تسعى إلى مهاجمة أوكرانيا، وتغيير نظامها وفق مشيئتها، وترفض تجاوزات الناتو واقترابه من حدودها، مما دفع بها إلى المطالبة بضمانات أمنية، لم تلق أذانا صاغية، لكنها في النهاية ستلقى قبول أصحابها صاغرين، ويبدو اليوم روسيا تصنع انتصاراتها السياسية والعسكرية، ففي الميدان وصلت إلى أهدافها المرجوة، وعلى صعيد المفاوضات هناك موافقة من قبل القيادة الأوكرانية على شروط موسكو، وهناك تقدم في المفاوضات، وهناك نقاط ما يتعلق بجزيرة القرم سوف تدرسها موسكو. ونجحت روسيا بتكتيف حلف الناتو الذي جعلته ذليلا، كما فشلت العقوبات الأمريكية، واكتسبت روسيا دعم المجتمع الدولي الذي تضامن معها علنا وسرا، فخابت العقوبات أن تحقق غايتها، بل بالعكس لم تتأثر منها روسيا إلا جزئيا لكن أثرها راح يطحن المجتمعات الأوروبية بالأزمات والتظاهرات الشعبية التي عمت الكثير من المدن الأوروبية التي نددت بسياسة الغلاء وارتفاع أسعار الوقود والضرائب، ولعل تصريحات بوتين قد خففت من ذلك بعدم قطع الغاز والنفط والمواد الغذائية، وكذلك قبوله بالتعامل باليورو عوضا عن الروبل وهو ما هدأ من تصاعد الأوضاع. إذ ليس هناك من بديل للدول الأوروبية بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع روسيا، ذلك أن مصلحتها أن تبقى العلاقات في حالة من التبادل التكاملي، وأن الوصايا والاملاءات الأمريكية تتسبب بخلق وتوتير المناخات وصناعة الأزمات التي لا حاجة لأوروبا لها طالما وهي وتهدد أمنها واستقرارها.

 

 

 

تابعونا الآن على :


 

مواضيع ذات صلة :

حليب الهناء