وقالت وكالة الأناضول التركية، الثلاثاء 30 مايو/آيار 2023، أن الولايات المتحدة الأمريكية زودت قواتها المتمركزة قرب حقول النفط، شرق سوريا، بمنظومة صواريخ من طراز "هيمارس" خلال الأيام القليلة الماضية.
ومنظومة هيمارس هي راجمة صواريخ امريكية الصنع تحمل كل راجمة منها 6 صواريخ دقيقة التوجيه بمدى يبلغ 70 كم، وتم تطوير هذه المنظومة أواخر السبعينيات من القرن الـ20، لكنها دخلت الخدمة فعليا مع الجيش الأميركي وسلاح مشاة البحرية في العام 2005.
وبحسب وكالة الاناضول فإن الجيش الأمريكي أرسل منظومة "هيمارس" إلى محافظة دير الزور السورية التي تخضع لتنظيم "وحدات حماية الشعب" المصنّفة على قائمة الإرهاب في تركيا، حيث تعتبرها امتدادا لحزب العمال الكردستاني المصنّف على لائحة الإرهاب لدى أنقرة وواشنطن والاتحاد الأوروبي.
وجاء ارسال هذه المنظومة بالتزامن مع الانتخابات التركية التي أسفرت جولتها الثانية عن فوز الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي بدا يتقارب مع روسيا، رغم عضوية بلاده في حلف الناتو الدعم للنظام الاوكراني الذي يخوض حربا مع روسيا للعام الثاني.
تفيد الأناضول أن المنظومة الصاروخية الأمريكية "تم إرسالها إلى القاعدة الأمريكية في حقل العمر النفطي وقاعدة أخرى تقع في حقل كونكو للغاز الطبيعي".
وارسال هذا السلاح النوعي الأمريكي إلى الشمال السوري القريب من الحدود التركية سيؤدي إلى توتر العلاقات بين انقرة وواشنطن، خاصة وان القوة المحلية المسيطرة على المنطقة ليست على وفاق مع تركيا، وتعتبرها منظمة ارهابية. ويرى مراقبون ان ذلك مؤشر على رغبة أمريكية لإشعال المنطقة النفطية في شمال سوريا، والتي اصبح الجيش الأمريكي ينهب نفطها وغازها، ويستخدم جزء من عائداتها لتمويل مليشيات كردية تسعى لفصل المنطقة عن الأراضي السورية واقامة دولة مستقلة فيها.
تبرر واشنطن ارسال المنظومة الصاروخية إلى شمال سوريا بالتصدي لهجمات وقصف محتمل من المجموعات التابعة لإيران في الضفة المقابلة لنهر الفرات الذي يمر من وسط دير الزور، وان عملية الارسال جاءت بعد تعرض قواعد وحواجز تفتيش عسكرية أمريكية في سوريا لعدة هجمات سابقة من مسيرات وصواريخ تقول واشنطن انها انطلقت من مناطق تخضع لمجموعات تابعة ومرتبطة بإيران.
التبرير الامريكي لارسال منظومة "هيمارس" لا يمكن قبوله من انقرة ودمشق، ومثير لتوجس روسيا التي تتواجد عسكريا في سوريا، ولديها قواعد عسكرية في طرطوس وحميميم، كون تلك الصواريخ تضع قواتها في مرمى الاستهداف، وربما تكون واشنطن قد ارادت من نقل المنظومة الصاروخية ارسال رسالة مزدوجة لانقرة وموسكو، مفادها للأولى وقف تقاربها مع موسكو بعد فوز اردوغان بولاية جديدة، وللثانية تخفيف الضغط العسكري على نظام كييف. كما لا يستبعد ان تكون هناك رسالة ثالثة لدمشق، مفادها ان عودتها لجامعة الدول العربية وتقاربها مع الرياض لن يحقق أهداف الرئيس بشار الأسد اذا لم يتم فيه مراعاة المصالح الأمريكية.
التحركات الامريكية في شمال سوريا زادت وتيرتها مؤخرا، حيث اجرى الجيش الأمريكي في 16 مايو/آيار 2023 تدريبات لعناصر من "وحدات حماية الشعب" الكردية على دبابات، واسلحة مضادة للدبابات من طراز "تاو" امريكية الصنع، وهذه التدريبات تعد امتدادا للتدريبات الامريكية التي تجريها للفصيل الكردي المسلح منذ العام 2015، حيث دربت الآلاف من عناصر هذا الفصيل في قواعدها العسكرية بالمنطقة، تحت ذريعة مكافحة تنظيم "داعش" الارهابي، وزودته بكميات هائلة من الأسلحة والمعدات القتالية، ما مكنه من بسط سيطرته على مناطق واسعة في محافظة دير الزور السورية، وهو ما تراه تركيا تهديدا لأمن حدودها الجنوبية على اعتبار ان هذا التنظيم الكردي امتدادا لحزب العمال الكردي الذي تصنفه ارهابيا، ويخوض الجيش التركي مع جناحه العسكري اشتباكات متقطعة، وتتهمه انقرة بالوقوف خلف عمليات ارهابية داخل اراضيها.
يرى مراقبون ان الضربات الجوية التي شنتها القوات الأمريكية في أواخر مارس/آذار 2023 في سوريا، وقالت انها استهدفت جماعات متحالفة مع إيران تتهمها واشنطن بتنفيذ هجوم بطائرات مسيرة على قواعدها، كانت تمهيدا لنقل المنظومة الصاروخية "هيمارس" إلى الحقلين النفطيين في دير الزور مؤخرا. وترى واشنطن ان التواجد الايراني في شمال سوريا مهددا لقواتها التي نشرتها في المنطقة تحت ذريعة محاربة تنظيم داعش الارهابي، حيث تفيد تقارير لمراصد مقربة من واشنطن تعمل في سوريا ان قرابة 15 ألف مقاتل يتبعون مجموعات وفصائل مدعومة من أيران تنتشر في محافظة دير الزور السورية، الغنية بالنفط، وتحديداً في المنطقة الممتدة بين مدينتي البوكمال الحدودية مع العراق ودير الزور، مروراً بالميادين، وبحسب
هذه التقارير تعد هذه المنطقة الحدودية طريقا مهماً للكتائب العراقية ولـ"حزب الله" اللبناني ومجموعات أخرى موالية لإيران، لنقل الأسلحة والمقاتلين، وكذا نقل البضائع بين العراق وسوريا. وتعتقد واشنطن التي نشرت قرابة ألف جندي امريكي في مناطق سيطرة المقاتلين الأكراد شمال سوريا، وأنشأت لهم قواعد لهم في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا، والرقة (شمال)، ودير الزور (شرق) ان الهجمات التي تتعرض لها قواتها مرتبطة بالمجموعات التابعة لإيران.
لا يزال الغموض يكتنف الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، رغم اعلان واشنطن رسميا ان الهدف هو محاربة تنظيم داعش الارهابي، يتضح ذلك الغموض من خلال بقاء تلك القوات منذ العام 2014 رغم الوهن الذي اصبح يعانيه تنظيم داعش في المنطقة منذ سنوات، وبتراجع نشاط داعش اعلن البيت الابيض في العام 2021 مراجعة السياسة الأمريكية تجاه سوريا، محددا أولويات تتعلق بوجود القوات الأمريكية في ذلك البلد، تتمثل في الحفاظ على زخم مكافحة وقتال تنظيم "داعش" من خلال المساعدة في تدريب وتسليح المقاتلين الأكراد السوريين، وكذلك دعم عمليات وقف إطلاق النار السارية في عدة مناطق بسوريا، وتحقيق الاستقرار في المنطقة، والمساعدة في وصول المساعدات الإنسانية، فضلاً عن الضغط من أجل تحقيق محاسبة مجرمي الحرب واحترام القانون الدولي، وتعزيز حقوق الإنسان، وعدم انتشار سلاح الدمار الشامل. ومن هنا يتضح ان الأهداف الامريكية ابتعدت عن الهدف الرئيسي المعلن وقت التدخل في العام 2014 فلم يعد لداعش انشطة تذكر، وان تمكسها بالبقاء في المنطقة الغنية بالنفط ليس بعيدا عن نهب الثروات، وتعقيد الوضع في البلاد من خلال إنشاء مليشيات مسلحة تعقد انهاء الازمة السورية ووقف الحرب، وتهديد وحدة الأراضي السورية، وكذلك زرع جيوب مسلحة قرب الحدود التركية لاشغال انقرة بالتهديدات التي تمثلها الفصائل الكردية المعارضة على حدودها الجنوبية، وبالتالي فإن نقل منظومة صاروخية مؤخرا إلى دير الزور مؤشر على أن واشنطن لم تعد تستهدف دمشق بمفردها وانما إلى جانبها أنقرة، نظرا لخطورة هذا السلاح النوعي في حال اصبح في يد المليشيات الكردية الموالية لواشنطن والمناوئة لدمشق وانقرة.
ومن منظور عسكري فإن التواجد الامريكي في شمال سوريا يعرقل تقدم القوات التركية الموجودة شرق نهر الفرات لمحاربة المليشيات الكردية الحليفة لواشنطن، كما يعرقل تقدم الجيش السوري المدعوم من الروس والإيرانيين للسيطرة على المنطقة، وهو ما يعني ان الارادة الامريكية تسعى لملشنة المنطقة، ما يعيق استقرار سوريا، وفي الوقت نفسه اعطاء مبرر للتواجد الامريكي عسكريا في المنطقة الغنية بالنفط والذي لا يعلم حجم ما يتم استخراجه من نفطها وغازها وإلى اين تذهب موارد ما يتم بيعه، فضلا عن ابقاء تركيا في حالة قلق من تنامي قوة الفصائل الكردية المسيطرة على المنطقة، وجعل المنطقة جيب آمن للقيادات الكردية المناوئة لانقرة، واستخدامها كثكنة عسكرية ومنطلقا للهجمات نحو العمق التركي، واستخدام ملف الشمال السوري في المقايضة بين واشنطن وموسكو في حال تم التفاوض حول الحرب في اوكرانيا.
تقول "دارين خليفة" المحللة المختصة بالشأن السوري في مجموعة الأزمات الدولية: لا نعرف كم من الوقت يريد الأمريكيين أن يظلوا هناك، ولا نعرف لماذا أثناء وجودهم هناك، لا يحاولون حل بعض المشكلات الأساسية في المنطقة، مشيرة الى ان بقاء تلك المشكلات من شأنها أن تعاود الظهور بمجرد مغادرتهم، وترى خليفة أن الساسة الأمريكيين وجدوا أنه من الأسهل عدم التطرق لهذه الأسئلة الصعبة، معتبرة ان كل ما قاموا به هو "ركل العلبة إلى الطريق حتى تصبح مشكلة شخص آخر".
ويبدو ان واشنطن تتجه خلال المرحلة المقبلة للمزيد من عسكرة منطقة الشمال السوري وابقائها بؤرة توتر تؤرق موسكو وانقرة ودمشق تحسبا لمخاوف مستقبلية غير واضحة، بما يمكنها من توظيف الامر الواقع في المنطقة للحصول على مكاسب سياسية في حال اتجهت التطورات الدولية الحالية نحو طاولة التفاوض، وربما ترى واشنطن انها لم تحقق تلك المكاسب التي كانت ترومها من تدخلها في العام 2014، ولذلك تسعى لتعقيد الوضع اكثر بما يخلق مبررات لاستمرار بقائها.
يرى جيفري فيلتمان، مساعد سابق لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، في مقال نشره في يناير/كانون ثان 2021: "باستثناء مواجهة تهديد داعش في شمال شرق سوريا، فشلت السياسة الأمريكية منذ العام 2011 في تحقيق نتائج إيجابية". من جانبه يعتقد عبد الرحمن المصري، الزميل السابق في "قسم رفيق الحريري والشرق الأوسط" في مركز أبحاث "Atlantic Council" بواشنطن انه لم توجد سياسة قائمة بذاتها ومتسقة تجاه سوريا من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بداية الصراع في العام 2011، مشيرا إلى ان الولايات المتحدة لا تعرف ما تريده في سوريا، مضيفا ان كل من الأصدقاء والأعداء يدركون ذلك.
التوجه الامريكي الرسمي واضح في موضوع الانسحاب من سوريا، واكده في مارس/آذار 2023 مجلس النواب الأمريكي عندما صوت ضد قرار يوجه إدارة الرئيس بايدن إلى سحب جميع القوات الأمريكية من سوريا، حيث رفض القرار الذي قدمه النائب الجمهوري مات غايتس بأغلبية 321 صوتاً مقابل 103 أصوات بـ"نعم"، بما فيهم 47 صوتاً جمهورياً و56 ديموقراطياً. ومن هنا يتضح ان الاهداف الامريكية - التي تبدو غامضة - من التواجد العسكري في سوريا لم تتحقق بعد، او ان مبررات الانسحاب تبدو غير مقبولة في أحسن الاحوال، وجاء هذا التصويت لصالح عدم الانسحاب رغم إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في 19 ديسمبر/كانون أول 2019 تحقيق الانتصار على تنظيم "داعش" الإرهابي، وقرار سحب القوات الأمريكية المتمركزة شرقي الفرات في سوريا منذ العام 2015، وهو ما يؤكد ان المماطلة في الانسحاب وراه امور خفية او حالة من عدم الوضوح في الرؤية كما يرى بعض الخبراء. يقول نيل كويليام، الخبير المتخصص بشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، انه: "من الصعب العثور على أي شخص في الإدارة الأمريكية يُجادل علناً بأن للولايات المتحدة اليوم مصلحة حيوية في سوريا".
ومما سبق يمكن القول ان ما اقدمت عليه واشنطن مؤخرا بنقل منظومة صاروخية إلى شمال سوريا مؤشر على توجه امريكي للبقاء في المنطقة، ما يعني وجود اصرار امريكي على عرقلة عودة الاستقرار لسوريا، وإلحاق مزيد من الاذى بأمن تركيا، وابقاء قوات روسيا وإيران في سوريا في حالة حرب، لأن بقاء تواجدهما عسكريا تستثمره واشنطن في بقاء تواجدها العسكري في الشمال السوري الغني بالنفط والغاز.