أجندة نُشر

هل بدأ العد التنازلي لانهيار النظام المصرفي الغربي ..؟

عرب جورنال / أنس القباطي -

يواجه النظام المصرفي الغربي تحديات مصيرية، بعد انهيار بنك السيلكون الامريكي، وانخفاض قيمة أسهم بنك كريدي سويس السويسري، الذي يعد واحد من اهم البنوك في سويسرا التي تعد اكبر مركز للاموال المنقولة للخارج.

هل بدأ العد التنازلي لانهيار النظام المصرفي الغربي ..؟

 

وانخفض الأربعاء 15 مارس/آذار 2023 سعر أسهم بنك "كريدي سويس" السويسري بنسبة 30%، فيما انخفض مؤشر Stoxx 600 لعموم أوروبا بنسبة 1.7% في منتصف التعاملات الصباحية، مع تداول معظم القطاعات والبورصات الرئيسية في المنطقة الحمراء، في حين واصلت أسهم البنوك الاوروبية سلسلة خسائرها بانخفاض تجاوزت نسبته 4.6%، يليها قطاع التجزئة الذي انخفض بنسبة 3.9%.

 

ويعد بنك كريدي سويس الذي يتخذ من مدينة زيورخ السويسرية مقرا رئيسا له، ثاني اكبر مصرف في سويسرا، وادى هبوط قيمة اسهمه بنسبة 30.13% إلى انخفاض أسهم "وول ستريت" صباح الأربعاء. وأصبح هذا البنك السويسري مهددا بالافلاس، وفي حال حصل ذلك، فإن مسلسل افلاس بنوك أخرى في اوروبا سيتوالى، ما يعد مؤشرا على ازمة مصرفية تعيشها البنوك الأوروبية والأمريكية، وهي نتاج للأزمة الاقتصادية التي تواجهها الحكومات الغربية، والتي اظهرتها إلى الواجهة الحرب الأوكرانية.

 

انتقال ازمة افلاس البنوك من الولايات المتحدة الأمريكية - التي شهدت مؤخرا افلاس بنك السيلكون وبنك أخر - إلى أوروبا، يؤكد ان اسباب الأزمة المصرفية واحدة في الدول الغربية، لكن هذه الازمة لم تكن وليدة الحرب الاوكرانية، وانما هي من أظهرتها إلى السطح، نتيجة السياسات الاقتصادية التي تقدم المصلحة السياسية على المصلحة الاقتصادية.

 

الأزمة المصرفية الاوروبية لم تقتصر على سويسرا، وانما امتدت إلى لاتفيا العضو في الاتحاد الاوروبي، حيث اعلن البنك المركزي الأوروبي، الأربعاء 15 مارس/آذار 2023 إلغاء رخصة مصرف "بلطيق إنترناشونال بنك" في لاتفيا كأول بنك أوروبي يوجه الافلاس أو يقترب منه. وجاء اعلان البنك المركزي الاوروبي الأخير وسط موجة اضطرابات تشهدها البنوك الدولية في الغرب، والتي بدأت الجمعة 10 مارس/آذار 2023 من الولايات المتحدة الامريكية بإفلاس بنك السيليكون.

 

ويمكن القول ان اوروبا صارت تقف أمام "مذبحة بنوك"، حيث تعاني أكبر بنوكها خسائر فادحة. ففي سويسرا بات بنك كريدي سويس مهدد بالافلاس بعد ان فقد مساعدة الشريك الاساسي فيه (بنك سعودي)، وكذلك مجموعة UBS باتت تعاني بعد انخفاض قيمة أسهمها بنسبة 9%، وفي فرنسا انخفضت أسهم سكوت جورنال بنسبة 13%، و BNP بنسبة 10%، أما في ألمانيا فقد انخفضت اسهم دوتشيه بنك بنسبة 10%. وهو ما يؤكد أن النظام المصرفي العالمي لم يعد قادرا على تحمل اي زيادات في أسعار الفائدة، وتخفيض المعروض النقدي من قبل الاحتياطي الفيدرالي.

 

وصول الافلاس إلى البنوك السويسرية سيمثل ضربة قاضية لائتمان بنوك البلاد، ما يعني فقدان المودعين من انحاء العالم الثقة بالبنوك السويسرية، وهو ما سيدفع المزيد من المودعين لسحب أموالهم، وفي حال حصلت عملية السحب بشكل كثيف فإن ذلك سيؤدي إلى افلاس بنوك عديدة، فسويسرا تصنف على أنها أحد أهم المراكز المالية عالميا، حيث حافظت على حيادها تجاه الكثير من الأحداث العالمية على مدى عقود، ما ساعدها على تطوير اقتصاد عالي المستوى. ويعد نظامها المصرفي من اقدم الانظمة الدولية، حيث نشأ النظام المصرفي السويسري في منتصف القرن التاسع عشر، وكانت بعض المصارف حكومية إقليمية، أي ترتبط بمقاطعة سويسرية محددة، وبعضها الآخر مؤسسات مالية وائتمانية خاصة، ويعد بنكي "يو بي إس" و "كريدي سويس جروب" من أشهر المصارف السويسرية، وتبلغ ممتلكات الأخير أكثر من 1.1 ترليون دولار، وتحيط البنوك السويسرية بياناتها بسرية كبيرة، ما جعلها مصدر ثقة للمودعين من مختلف قارات العالم. غير انه في مطلع العام 2022 سربت بيانات مالية لاكثر من 30 ألف من عملاء مصرف "كريدي سويس" ثاني أكبر بنوك سويسرا، المهدد اليوم بالافلاس، وفي التقرير الصادر عن 47 وسيلة إعلامية اتهم المصرف السويسري بـ"استقبال أموال مرتبطة بالجريمة والفساد على مدى عقود". ورغم رفض مصرف "كريدي سويس" تلك الاتهامات، وتاكيده أن البيانات التي درست "جزئية وغير صحيحة وأخرجت من إطارها ما يقدم صورة منحازة عن إدارة الشؤون"، إلا ان ذلك هز ثقة المودعين بالبنك الذي يعاني من عديد من المشاكل المالية منذ سنوات خلت. لكن السلطات السويسرية عمدت إلى اتخاذ اجراءات لاعادة الثقة للمودعين، حيث شددت سرية بيانات البنوك، كرد على قيام دول أخرى بشراء بيانات مصرفية سويسرية مسروقة، فتم تشديد المادة 47 من قانون سرية البنوك، والتي اكدت على سجن أي شخص يُسرب بيانات مصرفية، أو يحث شخصا آخر على ارتكاب هذا الفعل، لمدة تصل إلى 5 سنوات أو تغريمه.

مشاكل بنك كريدي سويس السويسري تغولت خلال العامين الاخيرين، ما دفعه نهاية العام 2022 للكشف عن برنامج يهدف لاغلاق 14 فرعا من أصل 109 في سويسرا، وتحويل فرعين آخرين إلى مراكز استشارية، وذلك بحلول فبراير/شباط 2023 كجزء من برنامج إعادة هيكلة شاملة للبنك، وارجع المتحدث باسم مصرف "كريدي سويس" سبب ذلك إلى ما أطلق عليه العادات المتغيرة لعملاء البنك، الذين يستخدمون خدمات الهاتف المحمول والإنترنت بشكل متزايد. لكن تقارير صحفية اعتبرت برنامج اغلاق الفروع مؤشر على حجم الانتكاسات التي يعاني منها البنك، والتي زادت خلال السنوات الأخيرة، متهمة البنك بالتورط في صفقات تجارية فاسدة وقضايا قانونية، مشيرة إلى ان إدارة البنك تسعى لوقف الفساد في البنك من خلال إصلاح جذري لعمليات البنك المالية واستراتيجيته.

 

تأثر بنك كريدي سويس بعد رفض البنك الأهلي السعودي - الذي اشترى حصة 10% من اسهم البنك خلال العام 2022 - تزويد البنك السويسري بالمزيد من المساعدة المالية، وهو ما اضطر ادارة البنك لمناشدة البنك المركزي السويسري لتقديم الدعم الذي يمنع انهياره، وهو ما جعل الأخير يعلن الخميس 16 مارس/آذار 2022 إقراض بنك كريدي سويس 54 مليون دولار، وكل ذلك لمنع افلاس البنك الذي سيؤثر على سمعة البلاد التي تعد ملاذا آمن للمودعين في العالم. وفي هذا الصدد قالت صحيفة فاينشال تايمز، ان البنك المركزي السويسري والحكومة السويسرية يدركان تماماً أن فشل "كريدي سويس" أو حتى أي خسائر من جانب حاملي الودائع من شأنه أن يدمر سمعة سويسرا كمركز مالي.

 

يكافح بنك كريدي سويس منذ العام 2007 لتجاوز عثراته بعد أن ظل يتعرض لخسائر متتالية، لكن تدخل البنك المركزي السويسري لانقاذ كريدي سويس لن يحل المشكلة التي اصبحت مزمنة للبنك، خاصة خلال الخمس عشرة عاما الماضية. فمشكلة البنك تفاقمت العام الماضي فاضطر لبيع 10% من اسهمه للبنك الأهلي السعودي، لكن هذا الاجراء لم يكن حلا نهائيا ينهي مشاكل البنك، وانما ترقيعي لم يدم سوى أشهر، فظهرت مشكلة أخرى كادت ان تعصف به، ليضغ البنك المركزي السويسري امام خيارين، اما ان يقف متفرجا ويجهز نفسه لوضع اليد على البنك، ويضحي بسمعة البلاد المصرفية، او يقرضه لانقاذه من الافلاس حفاظا على سمعة البلاد، ولذلك فضل الخيار الأخير، رغم انه يعلم ان ذلك لن يحل المشكلة، لأن أسها مرتبط بمشكلة أعمق تمتد لعقود، وهي مرتبطة بطبيعة النظام الاقتصادي الغربي، الذي أصبح حساسا للمتغيرات السياسية التي تتجه نحو تجاوز النظام الدولي احادي القطب، وبالتالي فإن القرض سيحل المشكلة مؤقتا، وستتفاقم المشكلة مجددا في حال حصلت تداعيات اقتصادية سلبية بفعل الصراع الدولي على النفوذ بين الغرب وكل من روسيا والصين. قد يكون أمام بنك كريدي سويس خيار أخر يتمثل في بيع نسبة اخرى من اسهمه لصالح البنك الأهلي السعودي - اكبر مساهم في البنك - لكنه بحاجة لاجراء تعديلات في القواعد التنظيمية للبنك. وفي هذا الجانب يقول عمار الخضيري، رئيس مجلس ادارة البنك الأهلي السعودي إنه لا يمكن إعطاء البنك السويسري المزيد من السيولة، بسبب عدم امكانية زيادة حصة الملكية فيه عن 10%.

 

ومن هنا يتضح ان النظام المصرفي الغربي بحاجة لاصلاحات اصبحت الحاجة ماسة لها، لكنها تقتضي اتخاذ قرارات سياسية مصيرية، تتعلق بالنفوذ الدولي، وهذه القرارات بيد واشنطن أكثر من غيرها من العواصم الغربية، وهو ما يعني ان الأسباب التي ادت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي اصبحت تهدد إلى حد ما النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية، لان تغول المشاكل الاقتصادية يعني ببساطة الانهيار من الداخل.

 

اذا حصل الافلاس للبنك السويسري فإن تداعياته السلبية ستكون أبعد من افلاس بنك السيلكون الامريكي، على اعتبار ان سويسرا تعد قلب النظام المصرفي الغربي، وبعبارة أخرى فإن انهيار البنك السويسري "كريدي سويس" لن تتوقف تداعياته على سويسرا وانما ستمتد إلى اوروبا وامريكا وربما تصل آسيا.

 

فالتقرير السنوي الذي نشره بنك كريدي سويس الثلاثاء 14 مارس/آذار 2023 كشف عن "نقاط ضعف جوهرية" في الضوابط على التقارير المالية، ما جعله غير قادر على كبح ظاهرة خروج أموال العملاء، خاصة في الربع الأخير من العام 2022، والتي بلغت نحو 120 مليار دولار، وبالتالي فإن خروج هذه الأموال من سويسرا خلال 3 أشهر أمر مخيف على اعتبار انها ظلت لعقود طويلة أكبر مركز دولي للثروات المنقولة للخارج. وهو ببساطة مؤشر على ان مركز الثقل المالي بدأ ينتقل من الغرب نحو آسيا في الشرق.

 

تداعيات الانخفاض القياسي لأسهم كريدي سويس يوم الأربعاء 15 مارس/آذار 2023 ادت إلى تراجع اليورو بنسبة وصلت إلى  1.72%، وهو ما ادى إلى تأثر أسهم البنوك الأوروبية سلبا، وان كان القرض الذي قدمه البنك المركزي السويسري لبنك كريدي سويس قد أدى إلى حالة من التحسن في السوق المالية الاوروبية في اليوم التالي إلا انه ظل تحسن طفيف، لأن الانخفاض

ظل قائما وان كان بنسبة أقل، ومرد ذلك للالتزامات القائمة على البنك والتي تصل قيمتها إلى نصف تريليون دولار ، أي ضعف التزامات بنك السيلكون الامريكي SVB الذي اعلن عن افلاسه الجمعة 10 مارس/آذار 2023.

 

ومما سبق يمكن القول ان أزمة النظام المصرفي العالمي مستمرة، وهذه الازمة ستؤدي بمرور الوقت إلى افلاس البنوك  تباعا، بسبب تدفق المودعين إلى الخارج، وأسعار الفائدة المرتفعة، والاخير هو الخيار الوحيد امام البنوك المركزية الغربية، وتحت ضغط المخاوف من افلاس البنوك اعلن البنك المركزي الاوروبي الخميس 16 مارس/آذار 2023 رفع سعر إعادة التمويل إلى 3.5٪، على الرغم من الاضطرابات في النظام المصرفي، وهذه الزيادة لن تنعكس تداعياتها السلبية على خسائر للبنوك وخطر إفلاس المدينين فحسب، وانما ستؤدي إلى زيادة العجز في ميزانيات الدول، والتي ستضطر إلى زيادة الإنفاق على خدمة الديون، وتراكم عجز الميزانيات ان استمر قد يؤدي إلى انهيار انظمة بمرور الوقت. وفي حال انهار بنك كريدي سويس السويسري فإن تداعياته في أوروبا ستصل إلى ألمانيا أكبر اقتصاد اوروبي، والمرشح للانهيار هو دوتشيه بنك الذي انخفضت اسهمه مؤخرا بنحو 10%، والواضح ان الأموال العالمية بدأت تتدفق من الغرب نحو الصين، وهو ما يؤكده مؤشر CSI 300 Financials الصيني الذي ارتفع بنحو 0.3٪ خلال الأسبوع الثاني من مارس/آذار 2023، مقابل انخفاض مؤشر المقرضين الأمريكيين بنسبة 12٪. ولذلك ستكون الأيام المتبقية من شهر مارس/آذار الجاري عصيبة على النظام المالي الغربي.

 

Anas770879893@gmail.com

 

تابعونا الآن على :


 

مواضيع ذات صلة :

حليب الهناء