واعلنت السلطات المصرفية الأمريكية الجمعة 10 مارس/آذار 2023 افلاس بنك وادي السيليكون SVB. وادى ذلك إلى اثارة حالة من الذعر لدى المودعين، ما اربك القطاع المصرفي في البلاد. وافلاس البنك يعد ثاني أكبر فشل مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
افلاس بنك السيلكون ينظر له على انه مؤشر على وجود ازمة في النظام المصرفي الغربي عموما والأمريكي على وجه الخصوص، والتي تتزامن مع ازمات اقتصادية يعيشها النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، وهذه الازمة اظهرت إلى الواجهة تداعيات الحرب الاوكرانية التي دخلت عامها الثاني.
تفيد تقارير مصرفية ان بنك السيلكون أفلس بسبب سحب المودعين أرصدتهم من البنك، غير ان عمليات السحب جاءت بسبب مخاوف المودعين، جراء السياسات المالية التي يطبقها البنك الفيدرالي الأمريكي، وافلاس هذا البنك يعد بمثابة جرس انذار لبنوك اخرى تقف على هاوية الافلاس. وسيلقي افلاس البنك بتداعياته السلبية على الشركات الناشئة، خاصة تلك المودعة اموالها في البنك المنهار، فهي تحتاج لمزيد من الوقت لاسترداد أموالها المودعة، ما سيؤدي إلى حصول مشاكل في خططها، ما قد يدفعها إلى اعلان الافلاس.
افلاس بنك السيلكون SVB إلى جانب بنك اخر في الولايات المتحدة، يعد بمثابة زلزال في الصناعة المصرفية الأمريكية، حيث يحذر خبراء مصرفيين من أن يتسبب ذلك في تعثر بنوك اخرى، ليس في الولايات المتحدة وانما في اوروبا، وقد يصل الامر إلى بنوك آسيوية، نظرا للترابط المالي العالمي بين البنوك في العالم، لأنه عندما يبدأ الذعر المصرفي وأزمة الديون في العالم، يتعين على الجميع سداد الديون المقومة بالدولار واليورو ، وبالتالي سيزداد الطلب على هاتين العملتين، وهو ما سيؤدي إلى نشوء ازمة مالية، وتدريجيا سيؤدي تفاقم الأزمة المالية إلى ظهور ازمة ديون.
في سلم ترتيب البنوك الأمريكية يعد بنك السيلكون هو البنك السادس عشر في الولايات المتحدة، وأكبر بنك إيداع محلي في وادي السيليكون. ولذلك سيؤدي افلاس هذا البنك إلى تراجع أسهم كبار المقرضين في جميع أنحاء العالم، بعد انخفاض أسهم البنك إلى أكثر من 50٪ في فترة ما قبل التداول، لأن ادارة البنك بدأت في التخلص من الأصول لجمع الأموال لتغطية ما يسحبه المودعون.
وفي محاولة لتطمين المودعين وتخفيف حالة الذعر التي سادت في اوساطهم، قامت السلطات الامريكية باتخاذ تدابير اقتصادية، حيث اعلنت إدارة بايدن مساء الأحد 12 مارس/آذار 2023 عن تدخل لتجنيب البلاد أزمة مصرفية، فقد طمأنة عملاء بنك السيلكون SVB وبنك سيغنتشر، لكن تلك التطمينات لن تكن كافية لأصحاب الحسابات غير المؤمنة في بنوك اخرى، ما قد يدفعهم لسحب أموالهم، وهو ما سيؤدي إلى ضرب ائتمان البنوك، وفي حال فقد المودعون الثقة بالبنوك فإن ذلك سيدفعهم لشراء الذهب للحفاظ على قيمة اموالهم، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع اسعاره، وفي حال حصل هذا السيناريو فإن العالم سيكون امام ازمة مصرفية، سيكون لها ابلغ الأثر على الاقتصاد الدولي، وقد تنهار حكومات بسببها.
تعود مشاكل بنك السيلكون إلى العام 2021 حيث عانى البنك من تضخم في حجم الودائع، حيث بلغت قيمة الودائع 189 مليار دولار، فقام بالاستثمار بكثافة في سندات الخزينة الامريكية، التي كان مردودها منخفض للغاية، بسبب تدني سعر فائدة الأساس، ولذلك بلغت في نهاية العام 2022 قيمة سندات استثمار البنك 91.3 مليار دولار، أما مجموع أصوله فوصلت إلى 209 مليار، وقيمة الودائع كانت في حدود 175.4 مليار دولار، وعندما قام البنك الفيدرالي الامريكي بعد ذلك برفع الفائدة، ارغم المودعون على سحب جزء من ودائعهم لتغطية النفقات المترتبة على خدمة ديونهم، كاجراء تحوطي من ركود اقتصادي بدأ يلوح في الأفق، بسبب الحرب الاوكرانية، الامر الذي دفع ادارة البنك إلى تسييل قسم من استثماراته، ليرغم البنك الاربعاء 8 مارس/آذار 2023 للاعلان عن خسارة ضريبية بقيمة 1.8 مليار دولار، وهو ما اثار حالة من الذعر في اوساط المودعين، وفاقم ذلك أزمة البنك، ليرغم مجموعة "سيليكون فالي بنك المالية" للاعلان بأنها بصدد جمع 2.25 مليار دولار من خلال بيع أسهم، اضافة إلى بيع سندات من محفظتها الاستثمارية بقيمة 21 مليار دولار، لكن العائد الاستثماري في محفظة المجموعة لم يصل إلا إلى نسبة 1.79%، ما تسبب في خسارة البنك 1.8 مليار دولار، وكان ذلك دافعا إلى توجه ادارة البنك نحو السوق لجمع استثمارات جديدة ببيع أسهم، وهو ما أفقد المودعون الثقة بالبنك، فسارعوا لسحب اموالهم، خاصة بعد توصيات شركات استثمارية بذلك، أبرزها شركة "فاوندرز فندز"، وبسبب ذلك فقدت اسهم البنك 60% من قيمتها
بعد إقفال البورصة الخميس 9 مارس/آذار 2023، فانهار البنك في اليوم التالي تحت وطأة طلبات السحب الكثيفة، ليوضع تحت الحراسة القضائية بعد أقل من 48 ساعة من بدء أزمته.
يرى خبراء اقتصاديون ان افلاس بنك السيلكون سببه اجراءات البنك الفيدرالي الامريكي الخاصة برفع أسعار الفائدة بشكل سريع، وهي الاجراءات التي ادت إلى اثقال كاهل عديد من البنوك والمقرضين.
وادى افلاس بنك السيلكون وبنك أخر إلى نشوب ازمة بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، حيث يتهم الديمقراطيون خصومهم الجمهوريين بالتسبب في عملية الافلاس عندما قاموا في عهد ترامب بتحرير البنوك ما أدى إلى ازالة ضمانات هامة، لكن الجمهوريون يرون ان ذلك الاتهام غير حصيف، وجاء لتبرير فشل الديمقراطيين، ويعتبرون ان ما حصل لبنك السيلكون يرجع للفشل في تحديد العلامات الحمراء في محفظة استثمارات البنك وقاعدة العملاء.
يعتقد خبراء مصرفيون دوليون ان افلاس بنك السيلكون يرجع إلى ازمة الديون التي يعاني منها الاقتصاد الامريكي، والتي تنذر بانهيار وشيك لهرم الديون، وما حصل لبنك السيلكون هو مؤشر لهذا الانهيار، معتبرين ان المشاكل في القطاع المصرفي ادت إلى افلاس البنكين، وفي الطريق بنوك أخرى، مشيرين إلى ان التدخلات التي تقوم بها إدارة بايدن لن تجدي نفعا، وان حصل تعافي فلن يكون سوى تعافي مؤقت، وستعود بعده المشكلة، منوهين إلى أن الفائدة المنخفضة جدا على الودائع ستجبر المودعين على سحب اموالهم، مشددين على ضرورة تدخل البنك الفيدرالي الامريكي عبر سلسلة اجراءات مزمنة تعيد الثقة للمودعين بائتمان البنوك، ويؤكدون انه في حال لم تحصل تدخلات مجدية فإن الانهيار قد يكون وشيكا بحلول الخريف القادم.
الاسباب التي ادت إلى سحب المودعين اموالهم وافلاس بنك السيلكون، هي ذاتها الاسباب التي ادت إلى اقفال بنك "سيغنيتشير" الذي يعد أحد بنكين أميركيين تتعامل معهما شركات العملات المشفّرة، وافلاس البنكين سيؤدي إلى فقدان الثقة بقطاع التكنولوجيا والحاق ضرر كبير بسلامة أوضاع البنوك المتعاملة مع الإستثمارات غير المحسوسة، وهو ما سيكون له تداعيات على الاقتصاد الامريكي، الذي يسعى لتشديد الاجراءات على هذا القطاع من الاستثمارات لمحاربة الصين.
افلاس بنكا السيلكون وسيغنيتشير يؤكد على ان ازمة افلاس البنوك الامريكية التي بدأت في العام 2008 بافلاس بنك واشنطن ميوتشوال ستتوالى، وان ذلك يرجع لفشل السلطات المصرفية الأمريكية في ابتكار حلول تضمن تعافي الاقتصاد الامريكي. ويرى خبراء ان ازمة افلاس البنوك الثلاثة متشابهة إلى حد كبير، ما يعد مؤشرا لفشل السياسات المصرفية، والتي تعكس فشل راسمي السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة.
وعند تتبع الاجراءات المصرفية التي اقدم عليها البنك الفيدرالي الامريكي، سنجد ان تلك الاجراءات تكشف عن ازمة عميقة داخل النظام المصرفي، فخلال شهري يناير/كانون ثان وفبرائر/شباط 2023 سحب الفيدرالي الامريكي 168 مليار دولار من النظام كجزء من برنامجه للتشديد الكمي، وبذلك بلغت الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي 8.339 تريليون دولار منذ بدء برنامج QT، ما ادى إلى تقلص الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي بنحو 6.5٪ من ذروتها، وهو ما يراه خبراء سببا من ضمن أسباب ادت إلى ظهور ازمة البنكين المفلسين، ما يفتح الباب على مصراعيه لبدء مسلسل ازمة افلاس البنوك في أي لحظة مستقبلا.
ويتوقع خبراء ان بنك كريدي سويس الامريكي مرشح لان يصبح البنك الامريكي الرابع في مسلسل افلاس البنوك الامريكية، حيث انخفضت اسهمه بنسبة 95٪ خلال 13 عاما، والخميس 9 مارس/آذار 2023 أعلن هذا البنك تأخير تقاريره السنوية لعام 2022 مبررا ذلك بوجود شكاوى حول التقرير من لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، وتفيد تقارير احصائية مصرفية ان أسهم البنك انخفضت مجددا قبل شهر ، فالبيانات الاولية المتداولة عن حسابات البنك للعام 2022 سجل خسارة سنوية قياسية قدرها 7.9 مليار دولار، وهو ما يؤكد الشائعات التي تداولتها الصحافة الامريكية حول الإفلاس الوشيك للبنك خلال العام الماضي.
تقول صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن "الذعر المصرفي" يبدأ عندما يخشى العملاء أن تكون ودائعهم في "خطر"، وهو ما يؤدي إلى عمليات سحب متزايدة من البنوك، مشيرة إلى أن هلع المودعين لسحب أموالهم قد يصيب حتى البنوك التي تتمتع بصحة جيدة، الأمر الذي يقود في النهاية إلى إفلاس عديد من البنوك والشركات.
والولايات المتحدة عانت كثيراً من حالات الذعر المالي على مدى العقود القليلة الماضية، والتي ترجع إلى أزمة المدخرات والقروض في ثمانينيات القرن الماضي، ومرد ذلك إلى ان واشنطن تميل إلى تنظيم بنوكها بشكل خفيف، بحسب ما أوردته الصحيفة.
ولتفادي الذعر المصرفي، أعلن البنك الفيدرالي الأمريكي أنه سيضع برنامج إقراض طارئ، بموافقة وزارة الخزانة، لتوجيه التمويل إلى البنوك المؤهلة والمساعدة في ضمان قدرتها على تلبية احتياجات جميع المودعين.
ويقول مسؤولون مصرفيون إن الأموال المستخدمة لمساعدة المودعين ستأتي من صندوق تأمين تدفع فيه البنوك، لا من اموال دافعي الضرائب، ويبدو ان هذه الخطوة هدفها تجنب الغضب الشعبي المتراكم منذ أزمة 2008 عندما استُخدمت أموال دافعي الضرائب لإنقاذ البنوك وعمالقة وول ستريت، وترك المواطنون يعيشون الأزمة حتى النخاع بلا مساعدة، وجاء تجنب خطوة السحب من اموال دافعي الضرائب حتى لا تؤثر في تصويب الناخبين خلال الانتخابات المرتقبة للحزب الديمقراطي الحاكم، لكن في حال اثبت الواقع عدم نجاعة التدخلات المتخذة فإن ذلك سيصيب الديمقراطيين في مقتل خلال الانتخابات المرتقبة.
وجاءت ازمة افلاس البنوك التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل ازمات اقتصادية تعيشها الحكومات الغربية بتأثير الحرب الاوكرانية، لكن بدئها من امريكا وليس من اوروبا رغم هجرة كثير من رؤوس الاموال منها إلى الاولى، يرجع بحسب باحثين اقتصاديين إلى ان ارتفاع معدل الفائدة في امريكا أدى إلى ضرر فادح بالمدينيين والشركات والبنوك غير المستقرة ماليا، مشيرين إلى ان واشنطن خاطرت بهذا الاجراء لجذب رؤوس الاموال الأوروبية، ولم تضع حسابات لما سيترتب على ذلك من ضرر، ولذلك ستجد نفسها مضطرة بعد افلاس البنكين؛ إلى استئناف خفض سعر الفائدة والتيسير الكمي، من خلال طباعة النقود الورقية، لكن هذا الاجراء سيؤدي إلى مشكلة اخرى وهي استئناف نمو التضخم، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم مشاكل الاقتصاد الامريكي مرة اخرى، وقد يكون نذير بانهيار هرم الديون، وهي الكارثة التي تحاول واشنطن تفاديها قدر الامكان، وربما يدفعها ذلك إلى اتخاذ قرارات مصيرية كوقف الحرب الاوكرانية ووقف التدخل في ازمات دولية توشك على الانفجار كازمة تايوان مثلا، غير ان ذلك يبدو مستبعدا قبل اجراء الانتخابات القادمة، لما سيكون له من تاثير سلبي على تصويب الناخب الامريكي لصالح الحزب الديمقراطي الحاكم، ومن هنا يتضح حجم الورطة الماثلة امام ادارة بايدن، ما سيجعل التخبط سمة للقرارات والخطوات المتخذة، والتي قد تؤدي إلى كارثة.
ومما سبق يمكن القول ان الادارة الامريكية بقيادة الديمقراطي بايدن باتت تواجه ازمات متداخلة محليا ودوليا، ومعالجتها في هذا الوقت العصيب لن تكون مهنية بحتة وانما ستظل مرتهنة للمتغيرات والمستجدات محليا ودوليا، وهو ما سيجعل حصول الاخطاء وارد بشكل كبير، والاخطاء في الجانب المصرفي وعلى مستوى السياسة الخارجية ستكون اضرارها وتاثيراتها مؤلمة ليس للحزب الحاكم وانما ستتجاوزه إلى الحاق الضرر بالسمعة الدولية للبلاد، وهو ما سيصب في صالح خصومها، الذين يتحينون الفرصة لاستغلال اي ثغرة لتوجيه ضربات مؤلمة لواشنطن تزيحها من واجهة الهيمنة الدولية الآحادية، واجبارها على التعاطي مع قوى اخرى بندية متساوية تقاسمها النفوذ، وان لم تقبل ذلك، فلن يكون امامها سوى الهروب لاشعال حرب عالمية لا يمكن التنبوء بمآلاتها.
Anas770879893@gmail.com