وهذا الاتفاق الذي جرى الإعلان عنه في 10 مارس/ شباط الجاري بمبادرة من الصين وكل من قيادتي السعودية وإيران قد جرى بشأن استضافة الصين ورعايتها للمباحثات بين السعودية وإيران، رغبة من الطرفين في حل الخلافات بينهما من خلال الحوار والدبلوماسية، وفي إطار من الروابط الأخوية التي تجمع بينهما، والتزاماً منهما بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرهما من المواثيق والأعراف الدولية. وبالفعل فقد جرت في الفترة من 6-10 مارس الجاري مباحثات ودية بين وفدي المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية كان الوسيط الصيني هو الضامن لهذا الاتفاق، فيما أعرب الجانبان عن تقديرهما لجمهورية العراق وسلطنة عمان لاستضافتهما جولات حوار سابقة في الأعوام 2021-2022، وشكرهما لقيادة وحكومة الصين على استضافة المباحثات ورعايتها وإنجاحها.
مضامين الاتفاق
تضمن الاتفاق توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإعادة فتح السفارات والممثليات خلال شهرين. وهذا في الحقيقة انتصار للسلام، فهو يرسم ملامح المرحلة الجديدة، ويسهم في تسوية النزاعات الإقليمية والدولية، وتخفيف حدة التوتر فى المنطقة، ويعزز من دعائم الاستقرار والحفاظ على مقدرات الأمن القومي العربي، وتطلعات شعوب المنطقة في الرخاء والتنمية والاستقرار، وتجاوز العقود الماضية وما حفلت به من أحداث وتطورات انعکست معظمها سلباً على الأوضاع في مختلف بلدان المنطقة، بما فيها إيران نفسها، فإننا سنجد أن بلدان المنطقة لم تجن من وراء حالة الاختلاف والتناقض غير توتير المناخات، لدرجة أن الشعب الإيراني نفسه قد عانى الأمرين من جراء ذلك، وقد وجد الكيان الصهيوني هذا المناخ لمحاولة تمرير أوراقه السياسية بالتطبيع مع بعض دول المنطقة، ومحاولة جر المنطقة للصراع مع إيران، لا سيما مع استمرار تحرشه بإيران وتوجيه أنشطته العدائية، والاستخبارية والقيام بهجمات على منشأته النووية. فإن الحقيقة التي يجب على جميع بلدان المنطقة الإقرار بها هي أن حالة الاختلاف والتناقض تلك کانت سلبية وانعكست آثارها الضارة على الجميع. وعلى العكس من ذلك فإن استعادة تطبيع العلاقات بين الدولتين تمثل خطوة هامة في طريق استقرار المنطقة، وإنهاء مناخات التوتر، وعودة مسار العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مجاريها الطبيعية.
ولأول مرة في تاريخ الأزمة والعلاقات المنقطعة بين كلاً من إيران والسعودية منذ عقود، يمثل اختراقا ايجابيا في جدار الأزمة الدبلوماسية والقطيعة بين البلدين، وحاجة المنطقة إلى استرداد أمنها المفقود الذي عبث به تدخلات القوى الأجنبية لفرض هيمنتها وعسكرة المنطقة بالقواعد العسكرية، وجعلها منطقة غليان في إشعال الحروب والصراعات الدامية، التي كان لها اليد الطولى في إدارة وتصعيد الصراعات والتدخلات المباشرة في شؤون البلدان، وجعلها تابعيات للسياسة الأمريكية. وهو ما يراه مراقبون بأنه سيقطع الطريق على إسرائيل التي تسعى لحشد الدول المطبعة معها إلى جبهة الصراع مع إيران.
ترحيب إقليمي ودولي
ورحبت دول المنطقة، والعالم بهذه الخطوة في إعادة تطبيع العلاقات، ولم تكن روسيا بعيدا عن هذا الحدث الهام، حيث أفاد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في تصريح لـ RT بأن موسكو ساهمت في العملية السياسية جنباً إلى جنب مع دول أخرى مثل سلطنة عمان والعراق وغيرهما، وقال إنه زار البلدين مؤخرا، وكانت قضية التطبيع بينهما في جدول أعمال الزيارة. وأضاف بوغدانوف أن عودة العلاقات تتماشى مع المبادرات الروسية الرامية إلى إنشاء منظومة للأمن في منطقة الخليج ذات الأهمية الاستثنائية على المستوى الاقتصادي العالمي، واصفاً التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإيران بأنه إيجابي للغاية، ويأتي في سياق سياسة روسيا الداعية إلى حسن الجوار وضمان واحترام السيادة والاستقلال على الجانب الآخر.
امتعاض أمريكي
لم يتسم الرد الأمريكي على الاتفاق بنفس درجة الحرارة والحماسة، حيث رحبت الولايات المتحدة باستئناف العلاقات الدبلوماسية، إلا أنها وفي الوقت نفسه أعربت عن شكوكها في احترام طهران لالتزاماتها، حيث أعلن الناطق باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي بأن واشنطن "ترحب بالاتفاق، إلا أنه ينبغي رؤية ما إذا كانت إيران ستفي بالتزاماتها". وليس أدل من رد الرئيس الأمريكي جو بايدن على سؤال للصحفيين بخصوص رأيه في الاتفاق بين السعودية وإيران، عندما تجاهل نهائيا السؤال المحدد، وأجاب بأهمية تطبيع وتقوية وتوسيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، مكتفياً بذلك، فيما جاءت تصريحات أمريكية أخرى من عدد من المسؤولين بـ "عدم الارتياح" لهذا الاتفاق. ويكشف ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في أغلب الأحيان كانتا وراء معظم الخلافات بين دول منطقة الشرق الأوسط، وهما من وفر الأرض الخصبة دائماً للصراعات والتوترات بالتنظير لنظريات على غرار "الشرق الأوسط الكبير" و"الفوضى الخلاقة" و"الهلال الشيعي" و"المحور السني" و"الناتو العربي" وغيرها من المسميات التي تخلق واقعاً في منطقة الشرق الأوسط يضمن الهيمنة والنفوذ الكامل للولايات المتحدة الأمريكية على مقادير المنطقة، لتكون جبهة مساندة لها في مواجهة مسار الانتقال المنطقي والطبيعي إلى عالم التعددية القطبية، الذي تسير عليه روسيا والصين والهند ودول "بريكس" التي يزداد عدد الراغبين في الانضمام إليها في الفترة الأخيرة بشكل دائم.
مخاوف الكيان الصهيوني
حذرت تقارير إعلامية وأمنية إسرائيلية من نتائج اتفاق التطبيع بين السعودية وإيران، معتبرة أن الاتفاق سيفتح المجال لعلاقات أوسع بين إيران ودول إقليمية كبرى بينها مصر. وقال تسفي برائيل محلل الشؤون الأمنية والاستخبارية في صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية في مقال له إن الاتفاق يبدد الحلم الإسرائيلي في إقامة تحالف عربي دولي ضد إيران. وأضاف برائيل، أن الاتفاق الأخير سيبث الحياة في مفاوضات الاتفاق النووي الجديد بين الغرب وإيران، مشيراً إلى أن هذا الاتفاق التاريخي يشير إلى صعود قوة الصين في المنطقة على حساب الولايات المتحدة الأمريكية. وأكد المحلل الأمني أن الحلم الإسرائيلي تلاشى بإقامة تحالف عربي دولي ضد إيران، بإعلانهما استئناف علاقاتهما الدبلوماسية في غضون شهرين.
وأوضح برائيل أن هذه الخطوة الدراماتيكية سترسم خريطة جديدة للعلاقات في الشرق الأوسط وخارجه. وأن الاتفاق الجديد بين الرياض وطهران سيوفر شرعية أساسية لإيران بين الدول العربية في المنطقة، والتي قد تؤدي لاحقًا إلى علاقات دبلوماسية مع دول أخرى مثل مصر. وكان قد أكد إيتمار آيخنر المراسل الدبلوماسي لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في تحليل له: "الاتفاق الذي وقعته السعودية وإيران بوساطة الصين، والذي يستأنف في الواقع العلاقات التي قطعت بين البلدين في يناير 2016، هو خطوة دراماتيكية تعتبر تعبيرا عن عدم الثقة في القيادة الأمريكية أولا وقبل كل شيء، وكذلك تعبير سعودي عن عدم الثقة في رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لعزل إيران.. فقط صباح اليوم ذكر نتنياهو رؤيته لتطبيع العلاقات بين البلدين، بخط قطار من السعودية إلى حيفا". وكان قد هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو معتبرا أن "تجديد العلاقات بين السعودية وإيران تطوراً خطيراً لإسرائيل، وانتصاراً سياسياً لإيران، وفشلاً مدوياً، وإهمالاً وضعفاً من حكومة نتنياهو". وأضاف بينيت أن "دول العالم والمنطقة تراقب إسرائيل في صراع مع حكومة غارقة في تدمير ذاتي ممنهج. وفي هذا الوقت تختار تلك الدول طرفاً فاعلاً للعمل معه".
أما يائير لبيد، شريك بينت في رئاسة الحكومة السابقة فقد أكد أن "الاتفاق هو فشل كامل وخطير للسياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية، وهذا انهيار لجدار الدفاع الإقليمي الذي بدأنا ببنائه ضد إيران".
ويرى محللون بأن الاتفاق يشكل نهاية موجهة لمسار التطبيع مع الكيان الصهيوني مع بعض الدول العربية التي اعتبرت الكيان الصهيوني "الشريك الإقليمي الموثوق"، وإيران "مصدراً للتهديد والخطر"، ويأتي ليضع النقاط على الحروف بشأن نظرية الأمن في منطقة الخليج والشرق الأوسط بصفة عامة. لهذا فإن الإدارة الأمريكية الحالية، ومعها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل تعيشان مرحلة صعبة، إذ أصبح من الممكن تسميتها بمرحلة الفشل والهزيمة، فيما يفلت الشرق الأوسط من بين أيديهما، وتصبح القواعد العسكرية الأمريكية، ومليارات الدولارات التي أنفقت على "أمن الخليج"، و"الإملاءات" و"فرض المواقف" بالمساعدات تارة وبالتهديد تارة أخرى أموراً من الماضي، ولا أحد يستغرب على وضع حد لإسرائيل وممارساتها العنصرية والتوسعية والهمجية المنفلتة، وربما انقلاب تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية رأساً على عقب ضد إسرائيل إذا لم تتوقف عن هذه السياسات، ولم تستجب للمبادرة السعودية،
وتنسحب من كافة أراضي 67 بما في ذلك القدس الشرقية، ويتم إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة.
فشل الرهان الأمريكي
عودة العلاقات السعودية- الإيرانية، وما سيتبعها من تطبيع للعلاقات الإيرانية مع باقي دول المنطقة، لهو فشل للرهان الأمريكي- الصهيوني على إحداث شرخ في العالم الإسلامي بين السنة والشيعة،
وسيعزز سيادة جميع دول المنطقة، وحقها الكامل في اختيار سياساتها، وهو ما سيشكل دعماً راسخاً لنضال الشعب الفلسطيني، والمضي نحو تنفيذ قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وربما تفعيل دور الرباعية الدولية للتسوية في الشرق الأوسط، وكل ما يصب في مصلحة القضية الفلسطينية، قضية العرب والمسلمين الأولى. وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية ما تكاد تخرج من أزمة إلا وتقع في أخرى أعمق منها وأخطر ، ولكن الأهم من هذا وذاك أن مصداقيتها كدولة عظمى في الحضيض.
تحولات هامة
لا شك أننا مقبلون على تحولات هامة جداً ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، ولكن على مستوى العالم، فيما لا زال الاتحاد الأوروبي "المريض" منساق وراء الولايات المتحدة التي تعاني من أزمات حادة، وتضخم وإفلاس لأحد بنوكها" سيليكون فالي"، وفتح جبهات جديدة في أوروبا، آخرها في بريدنيستروفيه، ثم في جورجيا، بعد الهزيمة المرة في الجبهة الأوكرانية. أوروبا تدرك ذلك، إلا أنها تتجاهله وتتجاهل إرادة شعوبها، التي بدأت في طرح الأسئلة بشأن عودة ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى أوطانهم، وسقف المساعدات الأوكرانية العسكرية من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، وفاتورة العقوبات ضد روسيا، وهي أسئلة لن تفضي سوى إلى انهيار الاتحاد الأوروبي، و"الناتو".
وأصبح العالم اليوم أمام تحولات جديدة، ربما تقودها دول بريكس، وتقودها في منطقتنا المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا ومصر وغيرهم من الدول الفاعلة في المنطقة وفي إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية، الدول التي اختارت مسار التعددية القطبية مصيراً للعالم، بعد فشل نظرية القرن الأمريكي وهيمنة القطب الواحد.
اليوم، بإمكاننا القول إن اتفاق السعودية وإيران بمثابة خطوة هامة وبارزة نحو هذا المسار، وبإمكاننا القول إن أهداف المخطط الأمريكي في افتعال الأزمة الأوكرانية، وفتح الجبهات في محيط روسيا فشلت وهزمت، ولن تنشب حرب عالمية بعد اليوم، لا سيما أن دول "الناتو" تعي جيداً أن صداماً مباشراً مع روسيا سيكون مدمراً لهذه الدول، حتى دون اللجوء لاستخدام السلاح النووي.
سوف نشهد قريباً جداً كيف سيبادر الغرب إلى التراجع عن جميع الحماقات التي ارتكبها في تهديد الأمن القومي الروسي، ومحاولات إعاقة مسار الانتقال إلى النظام العالمي الجديد وعالم التعددية القطبية. وفي هذا الإطار، ربما سوف نشهد كذلك عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، واضطلاع الجامعة بدورها وتأثيرها بوزن مختلف وإرادة سياسية مختلفة في حل القضية الفلسطينية.
وأخيرا فإن هذه الانفراجة التي فاجأت بها الصين العالم، باتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين سيكون لها انعكاسات إيجابية في حلحلة كثير من الإشكالات والملفات التي تعاني منها المنطقة، وفي مقدمتها الحرب في اليمن، التي تدخل في السادس والعشرين من مارس/آذار الجاري عامها التاسع، وتحديدا منذ بدء عدوان التحالف بقيادة السعودية على اليمن.
نتمنى أن تكون هناك مصداقية في المضي بتنفيذ الاتفاق، لأن هذا الاتفاق في غاية الأهمية، وسيكون له انعكاساته على مستوى المنطقة كلها. وأن معيار مصداقية هذا الاتفاق يتمثل فيما ستلمسه اليمن من خطوات لحل القضية اليمنية.