أروى حنيش
لم يكن سقوط مدينة الفاشر حدثًا عسكريًا عابرًا في حرب أهلية سودانية متطاولة، بل لحظة فاصلة في المسار الاستراتيجي للدولة السودانية، ونقطة تحول إقليمية تُعيد خلط الأوراق في فضاء الساحل والقرن الإفريقي، وربما تتجاوز حدودهما إلى موازين النفوذ الدولي بين القوى المتصارعة على منابع الذهب ومسارات الممرات العابرة للصحراء.
انهيار آخر حصون الجيش
فما حدث في الفاشر ليس مجرد انهيار لآخر حصون الجيش في دارفور، بل مؤشر على انتقال الحرب من كونها نزاعًا بين الجيش و"قوات الدعم السريع" إلى صراع أعمق على هوية الدولة السودانية، واتجاهات نفوذها، وموقعها في خارطة التوازنات الجديدة بين الشرق والغرب.
منذ حصار المدينة في مايو 2024، بدا واضحًا أن دارفور ليست ساحة حرب محلية، بل منطقة تتقاطع فيها مشاريع النفوذ الإقليمي والدولي. فالقوات التي تطوق المدينة لا تتحرك في فراغ، بل في سياق معقد تغذيه شبكات من الدعم المالي والعسكري الإقليمي والدولي، وتغذيه كذلك توازنات داخلية قبلية وجهوية تصنع مع الوقت خريطة جديدة للسلطة على أنقاض الدولة المركزية المنهارة.
ولأن الفاشر تمثل قلب دارفور النابض، فإن السيطرة عليها كانت بمثابة إعلان غير مكتوب عن نهاية مرحلة وبدء أخرى، تترسخ فيها سلطة "الدعم السريع" كقوة أمر واقع، تمتلك الأرض والثروة، وتفاوض المجتمع الدولي من موقع المنتصر.
أهمية مدينة الفاشر
تاريخيًا، كانت الفاشر المركز السياسي والتجاري لدارفور، ومفتاح خطوط الإمداد نحو تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، ما جعلها نقطة ارتكاز رئيسة لأي مشروع سيطرة على الإقليم. لذا لم يكن غريبًا أن يتحول الصراع حولها إلى اختبار لإرادة كل الأطراف: الجيش الذي خسر العاصمة الخرطوم، والحركات المسلحة التي انحازت إليه بعد أن فشلت في البقاء على الحياد، و"قوات الدعم السريع" التي أرادت أن تثبت أنها لم تعد ميليشيا هامشية بل سلطة بديلة.
ومع إعلان السيطرة على المدينة وسقوط مقر "الفرقة السادسة مشاة"، دخل السودان مرحلة ما بعد الدولة الواحدة، حيث صار لكل طرف جيشه وحدوده وخطوط إمداده، بل ورؤيته الخاصة لمستقبل البلاد.
أما انسحاب الجيش من المدينة، فقد حمل أكثر من دلالة سياسية، فقرار البرهان بمغادرة الفاشر لم يكن فقط خطوة تكتيكية لتجنيب المدنيين مزيدًا من الدمار، بل إقرار ضمني بانحسار سلطة الدولة المركزية عن غرب البلاد. هذا الانسحاب، في العمق، يعكس اختلال ميزان القوى على الأرض، وتراجع نفوذ المؤسسة العسكرية التي لم تعد قادرة على إدارة حرب شاملة في بلد تتفتت فيه الولاءات ويتراجع فيه الحضور المدني لصالح العسكرة والميليشياوية.
إعادة تدوير الحروب
ومع هذا المشهد، تبدو التداعيات الإقليمية خطيرة. فدارفور ليست مجرد إقليم حدودي، إنها عقدة تواصل بين الساحل الإفريقي الغربي ومنطقة النيل والبحر الأحمر. وأي فراغ فيها يفتح الباب أمام تمدد جماعات مسلحة عابرة للحدود، أو لتدخلات مباشرة من دول الجوار التي تتخوف من انتقال الصراع إلى أراضيها. وتشير تقارير استخبارية وإعلامية إلى انخراط مقاتلين من تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان في صفوف قوات الدعم السريع، ما يجعل الحرب السودانية بوابة محتملة لإعادة تدوير الحروب بالوكالة في إفريقيا، خاصة في ظل تراجع الحضور الفرنسي وصعود النفوذ الروسي عبر شركة "فاغنر" وشبكاتها في القارة.
السكوت الدولي المريب أمام الجرائم المرتكبة في الفاشر يطرح هو الآخر تساؤلات حول معايير العدالة الانتقائية في النظام الدولي. فالعالم الذي يتحرك سريعًا أمام أزمات أوروبا يتلكأ أمام مئات آلاف القتلى والنازحين في السودان، مكتفيًا بنداءات شكلية للحوار والتهدئة. هذه الازدواجية تعكس إدراكًا غربيًا بأن استمرار الحرب يخدم مصالح استراتيجية، من بينها إضعاف الدولة السودانية لتظل سوقًا مفتوحة للنفوذ العسكري والاستخباري في قلب القارة.
ما يحدث في الفاشر اليوم ليس نهاية معركة فحسب، بل بداية تشكل واقع جيوسياسي جديد في السودان، حيث تتآكل الدولة المركزية ويُعاد تعريف مفهوم السيادة. وإذا لم تُستوعب الكارثة السودانية في إطار وطني جامع، فقد تنزلق البلاد إلى مصير يشبه ليبيا أو الصومال، أو تتحول إلى فضاء مفتوح للصراع بين القوى الكبرى، من موسكو إلى واشنطن، ومن أنقرة إلى أبوظبي.
في الفاشر، يتقاطع المحلي بالإقليمي، والقبلي بالجيواستراتيجي، لتُكتب فصول جديدة من مأساة السودان الممتدة بين أطماع الخارج وانكسارات الداخل.