عرب جورنال / أنس القباطي -
رغم التوصل إلى اتفاق لوقف حرب غزة برعاية دولية وبموجب خطة ترامب، إلا أن التسريبات المتلاحقة في وسائل الإعلام الإسرائيلية تكشف عن قلق متصاعد ومحاولات محتملة لإجهاض الاتفاق من الداخل. فبين الحديث عن “ملحق سري” يفعَّل في حال تعذر تنفيذ تبادل الأسرى، وتصاعد الجدل حول المعابر والمساعدات، تتبدى خلافات إسرائيلية داخلية عميقة تعكس هشاشة التوافق السياسي والأمني حول مستقبل غزة بعد الحرب، وتفتح الباب أمام احتمالات تجدد المواجهات العسكرية في حال فشل تنفيذ بنود الاتفاق.
ملحق سري
ومما تثيره وسائل الإعلام الإسرائيلية، ما كشفته هيئة البث الإسرائيلية (كان) من أن الاتفاق المبرم بين إسرائيل وحركة حماس يتضمن ملحقًا سريًا يُفعّل في حال تعذر تنفيذ بنود تبادل الأسرى في موعده المحدد.
سيناريو
وبحسب التقرير، فإن أحد السيناريوهات المحتملة هو عدم قدرة حماس على تسليم جميع الأسرى، أحياء أو أمواتًا، خلال الـ72 ساعة المقررة. وفي حال تحقق هذا السيناريو، يدخل البند السري حيز التنفيذ، ما يشكل في جوهره تهديدًا مباشرًا لحماس، ويلزم الحكومة الإسرائيلية بالموافقة عليه كجزء لا يتجزأ من الاتفاق. وينظر إلى هذا الملحق كضمانة إسرائيلية لمنع استغلال الحركة للثغرات الزمنية أو اللوجستية في تنفيذ الصفقة.
المساعدات
وإلى جانب ملف الأسرى، ترى “كان” أن الاتفاق يواجه تحديات عملية أخرى، أبرزها دخول شاحنات المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وسط مخاوف إسرائيلية من ظهور عناصر من كتائب القسام أثناء مرافقتها للقوافل، وهو ما يثير جدلًا أمنيًا داخل إسرائيل.
مغبر رفح
كذلك، تبرز قضية فتح معبر رفح كنقطة خلاف حساسة. وبحسب المصادر، سيتولى جهاز الأمن العام (الشاباك) مراقبة المعبر، في خطوة تهدف إلى الحفاظ على السيطرة الأمنية الإسرائيلية غير المباشرة على حركة الأشخاص والبضائع، حتى في ظل وجود رقابة دولية.
ثلاث قضايا
وفي مقال تحليلي نشره الكاتب الإسرائيلي جزيرة جيور على موقع "واللا"، حذر من أن ما وصفه بـ“الفرح الوطني” المتوقع عقب عودة الأسرى قد تعكره ثلاث قضايا جوهرية.
المتوفون
وأول القضايا التي تحدث عنها جيور، هي مصير الـ28 رهينة المتوفين: فحتى الآن يُستبعد أن تتمكن حماس من تسليم جميع جثثهم في الوقت المحدد أو حتى في المستقبل القريب نظرًا لغياب الحافز لديها، إذ إن “القيمة التفاوضية” تتركز في الأسرى الأحياء. ورغم تشكيل آلية دولية (بمشاركة قطر ومصر وتركيا) للبحث عن جثث الأسرى، فإن جيور يشكك في جدية ذلك.
فجوة
والقضية الثانية، بحسب حيور، هي الفجوة بين الخطاب السياسي والواقع الميداني، فخطة ترامب الأصلية تنص بوضوح على أن المرحلة الثانية من الاتفاق يجب أن تشمل نزع سلاح حماس بالكامل ونقل السلطة في غزة إلى هيئة مدنية غير عسكرية. لكن جيور يرى أن “لا طرف، بما في ذلك الولايات المتحدة، لديه مصلحة حقيقية في الضغط على حماس لتسليم سلاحها”، ما يهدد ببقاء الحركة كقوة عسكرية فاعلة، ويبقي الجيش الإسرائيلي في حالة احتكاك دائم على ما يسمى بـ“الخط الأصفر المعدّل”.
إعادة الاعمار كخطر
وثالث القضايا هي خطر إعادة الإعمار دون نزع السلاح، حيث يؤكد الكاتب أن “إسرائيل ليس لديها أي مصلحة في إعادة إعمار غزة”، إلا إذا تزامن ذلك مع تفكيك كامل للبنية العسكرية لحماس، بما في ذلك الأنفاق ومصانع الصواريخ. ويشير إلى أن مؤتمرًا دوليًا يعقد اليوم في باريس لجمع التمويل لإعادة الإعمار، محذرًا من أن “إعادة بناء غزة تحت سيطرة حماس المسلحة سيعيد إنتاج الظروف التي أدت إلى حرب 7 أكتوبر”.
عملية مشروطة
ويخلص جيور إلى أن “ميزة إسرائيل الوحيدة في هذه المرحلة هي السيطرة على جميع المعابر المؤدية إلى غزة، بما في ذلك رفح”، ويدعو الحكومة إلى عدم التنازل عن هذه الورقة، والتشديد على أن “أي عملية إعمار يجب أن تكون مشروطة بتنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب”.
تحذير
ويختم مقاله بتحذير صريح: “إذا انتهت الحرب مقابل عودة الأسرى فقط، دون نزع سلاح أو تغيير في الواقع الأمني، فسيُطرح السؤال: ما الذي حققته الحكومة برفضها صفقة مماثلة منذ أكثر من عام؟ عشرات الجنود قُتلوا، وحالة الأسرى تدهورت، وبعض الجثث دُفنت تحت أنقاض لن تُرفع”.
أما إذا نجحت إسرائيل في فرض تنفيذ المرحلة الثانية، فيمكنها حينها أن تدّعي أنها حققت “إنجازًا استراتيجيًا لم يكن ممكنًا في الماضي”.
هشاشة محفوفة بالألغام
وفي المحصلة، يبدو أن اتفاق وقف الحرب في غزة، رغم ما يحمله من وعود بتهدئة طويلة الأمد وفتح مسار إنساني لإعادة الإعمار، لا يزال اتفاقًا هشًّا محفوفًا بالألغام السياسية والأمنية.
فالمؤشرات القادمة من الداخل الإسرائيلي، بما في ذلك الحديث عن “ملحق سري” وآليات مشروطة لتبادل الأسرى، تكشف عن انعدام الثقة بين الأطراف، ليس فقط بين إسرائيل وحماس، بل داخل المؤسسة الإسرائيلية ذاتها، حيث تتصارع أجهزة الأمن والحكومة والجيش حول أولويات ما بعد الحرب، بين من يرى في الاتفاق “فرصة لترميم الردع”، ومن يعتبره “تنازلًا استراتيجيًا” سيعيد إنتاج تهديدات الماضي.
حذر
على الجانب الآخر، تبدو حركة حماس في موقع المراقب الحذر، تسعى إلى استثمار الاتفاق لتثبيت حضورها كفاعل سياسي لا يمكن تجاوزه، مستفيدة من الانقسام الإسرائيلي ومن هشاشة الموقف الدولي تجاه تنفيذ الشق السياسي من خطة ترامب، الذي ينص على نزع سلاح المقاومة ونقل إدارة غزة إلى سلطة مدنية. غير أن الواقع الميداني يُظهر أن أي محاولة لفرض هذا البند بالقوة أو دون توافق وطني فلسطيني ستعيد إشعال الصراع، وربما بشكل أوسع من ذي قبل.
هدنة اضطرارية
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الاتفاق الحالي أقرب إلى هدنة اضطرارية منه إلى تسوية نهائية. فالمخاوف الإسرائيلية من فشل حماس في تنفيذ التزاماتها، والجدل حول معبر رفح والمساعدات، إلى جانب الانقسام الداخلي حول “ثمن الصفقة”، كلها عناصر تجعل من الاتفاق مرحلة انتقالية غير مستقرة. كما أن غياب رؤية سياسية واضحة لما بعد الحرب يجعل من أي تهدئة قابلة للانهيار مع أول اختبار ميداني، سواء في ملف الأسرى أو في عملية إعادة الإعمار.
غزة على المحك
وعليه، فإن مستقبل غزة بعد الحرب سيتحدد ليس فقط بمدى التزام الأطراف ببنود الاتفاق، بل بقدرتها على تحويل الهدنة إلى فرصة لبناء ترتيبات أمنية وسياسية جديدة، توازن بين ضرورات الأمن ومتطلبات الاستقرار الإنساني. فبدون معالجة جذور الصراع، وتوفير ضمانات حقيقية لتجنب إعادة إنتاج المأساة، ستظل غزة تدور في الحلقة المفرغة ذاتها: حربٌ تتبعها هدنة، فمفاوضات، ثم حربٌ أخرى.