
عرب جورنال / توفيق سلاّم -
يشهد العالم تحولًا جذريًا في طبيعة الصراع المسلح، بعد أن تجاوزت الحروب التقليدية عتبة الثورة الرقمية، لتدخل مرحلة يُعاد فيها تعريف القوة، ليس فقط بالقدرة على التدمير، بل بالقدرة على التعلم، التكيف، والتحكم بالخوارزميات. في هذا السياق، شكلت الضربة الأخيرة التي تعرضت لها القواعد الروسية عبر مسيّرات ذكية نقطة تحول خطيرة، أعادت رسم حدود التهديد الاستراتيجي في أوروبا الشرقية، وطرحت أسئلة مصيرية عن مستقبل الحرب، والفاعلين الجدد فيها..!
تقول موسكو أن الهجوم بطائرات مسيّرة استهدف قواعد استراتيجية في إيركوتسك، مورمانسك وريازان، انطلقت من شاحنات قرب المواقع، باستخدام حيلة "البيوت الخشبية المتنقلة" لإخفاء المسيّرات وإطلاقها عن بُعد.
في إيركوتسك، حُددت الشاحنة، وأُلقي القبض على السائق الذي صُدم عندما بدأت المسيّرات بالتحليق من الصندوق الخلفي. وفي ريازان، تم اعتراض الطائرات قبل أن تصل لأهدافها.
الطائرات استهدفت قواعد تحمل قاذفات نووية بعيدة المدى، على بعد 4500 كم من حدود أوكرانيا.
موسكو تؤكد أن العملية نُفذت تحت إشراف زيلينسكي، وبقيادة رئيس الاستخبارات الأوكرانية فاسيلي ماليك، ضمن عملية سرية أُطلق عليها "شبكة العنكبوت". بمعنى أن التهديد طال "الردع النووي الروسي"، وتُعد هذه المحاولة أخطر تصعيد منذ بدء الحرب، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة أكثر حدة.
روسيا أمام لحظة حاسمة
لا تبدو الضربة الأخيرة في العمق الروسي مجرد عمل عسكري تكتيكي، بل تُمثل تحولًا نوعيًا في طبيعة الصراع ذاته. من على ظهر شاحنات غير مأهولة، تنطلق المسيّرات وكأنها كائنات حية تحمل وعيًا خاصًا، تعرف أهدافها وتسلك طريقها دون حاجة إلى قائد مباشر. لكن المفارقة الأكثر خطورة بأن القرار الهجومي ذاته بات يُتخذ دون تدخل بشري مباشر، ضمن منظومة من الذكاء الاصطناعي تحلل، تحدد، وتطلق.
تشير المعطيات إلى أن المسيرات التي اخترقت العمق الروسي انطلقت من داخل الأراضي الروسية من منصات غير تقليدية عبر شاحنات متنقلة، وهي عبارة عن قواعد محمولة، وتدار جزئيًا من خلال نظم توجيه ذاتي مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما يجعلها تتصرف باستقلالية نسبيًا في تحديد المسار وتقييم الأهداف.
ورغم أن أوكرانيا تمثل الواجهة الميدانية لهذه الضربات التي استغرق التحضير لها عام ونصف كما تقول أوكرانيا، ببنية تكنولوجية، ودعم لوجستي واستخباري يقف خلفها، يُظهر تورط غير مباشر لقوى أوروبية رئيسة مثل بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، وبولندا. ومع ذلك يكشف هذا الاختراق أن هناك رخوة أمنية واستخبارية واضحة، لدى الطرف الروسي، لمثل هكذا عملية، بواسطة شاحنات تنتشر في عدة مناطق وعلى مقربة من القواعد العسكرية، تسير في الطرقات وبين المدن، ومن مكان إلى آخر دون السؤال: ماذا تحمل وإلى أين تتجه؟ تبدو المعضلة أمام الاستخبارات الأوكرانية هو كيف تتجاوز الخط الحدودي، بطرق ذكية في التهريب أو التمويه. وإذا ما عبرت إلى داخل الأراضي الروسية، يصبح الأمر سهلاً، إذ لا توجد نقاط أمنية- على الأقل في ظل واقع الحرب- وهذا هو الفراغ الذي تستغله كييف؛ ويستغله الغرب كذلك. بمعنى أن النقاط الأمنية حدودية فقط.
إنهاك روسيا
المسيّرات الذكية، تعتمد على قدرات تحليل ذاتي وسلوكي عالي، تتكيف مع البيئة المحيطة، تغير مسارها بناءً على معطيات حية. تُحدد الأولويات القتالية وفق خوارزميات معدة مسبقًا. بمعنى لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في يد القادة العسكريين، بل أصبح جزءًا من آلية اتخاذ القرار، ما يُعزز الطابع اللامركزي للحرب. وما حدث يتجاوز حدود التكتيك الحربي التقليدي، ليكشف عن توجه غربي جديد، يُراهن على إنهاك روسيا عبر أدوات ذكية منخفضة الكلفة، دون الانزلاق إلى مواجهة تقليدية مباشرة. بريطانيا تُعلن جهوزيتها في مواجهة مفتوحة، وفرنسا تُلوح بإرسال قوات إذا دعت الحاجة، وبولندا وألمانيا منخرطتان في الدعم التكنولوجي.
هذه المؤشرات تختزل بعدًا استراتيجيًا، بأن الغرب بصدد استخدام أسلحة فتاكة هجينة. ويعتقد أن عشرات المسيّرات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، مخبأة في الأراضي الروسية مازالت تضع روسيا تحت التهديد، وهذا يتطلب جهدًا استخباريًا وأمنيًا عاليًا للوصول لها.
نقاط الضعف
الوظيفة التي تقوم بها أوكرانيا في الحرب الدائرة، باعتبارها منصة هجومية متقدمة لتنفيذ استراتيجية لاستنزاف روسيا، وذلك عبر الدعم العسكري والسياسي والاستخباري الغربي. بمعنى أن الحرب الروسية- الأوكرانية تتجاوز الصراع بين الدولتين إلى صراع إقليمي، لتأخذ طابعًا جيواستراتيجيًا تُحركه مراكز القرار في الغرب. فكييف لا تمارس دورها بقرار سيادي مستقل، بل تحولت إلى وكيل عسكري وأمني في خدمة مشروع غربي هدفه إنهاك روسيا وتفكيك قدراتها الحيوية.
فالدعم العسكري والاستخباري واللوجستي المقدم من الناتو والولايات المتحدة وألمانيا—خاصة الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى—يجعل من أوكرانيا قاعدة عمليات متقدمة للهجوم على العمق الروسي.
استمرارية الضربات النوعية ضد المصانع والقواعد لا تنفصل عن غرفة عمليات غربية مشتركة، تعيد هندسة الحرب لتجعل من أوكرانيا رأس الحربة في صراع يتجاوز حدودها السيادية ليطال جوهر التوازنات الدولية. وما يجري لم يعد مجرد صراع عسكري تقليدي، بل عملية تفكيك ممنهجة لبنية الدولة الروسية، باستنزاف مراكز ثقلها الاقتصادي والعسكري والأمني.
ولا تكفي الإجراءات الأمنية الشكلية، ولا يمكن أن يكون توقيع بوتين على مراسيم تنظيم حركة النقل والشحن وتفتيش الهوية والبضائع بديلاً عن منظومة أمنية داخلية متكاملة. فروسيا، رغم ما تعلنه من تشديدات، ما زالت تفتقر إلى بنية أمنية استخبارية متماسكة على أراضيها، ما جعلها ساحة مفتوحة لاختراقات دقيقة تنجح في إدخال المسيرات أو تجهيز منصات إطلاقها من الداخل، في استهداف متكرر طال العمق الروسي بصورة متصاعدة.
أوكرانيا، في هذا السياق، لا تتحرك كدولة ذات قرار مستقل، بل تؤدي وظيفة استراتيجية غربية واضحة، تمثل ذراعًا عملياتيًا للناتو على حدود روسيا، وتتصرف كوكيل متقدم في حرب طويلة الأمد تهدف لتجريد موسكو من عناصر قوتها. لقد تجاوزت الضربات الأوكرانية حدود الدفاع عن الجغرافيا المحلية، لتصبح هجومية ذات طابع استراتيجي، تستهدف مواقع الصناعة الثقيلة، والبنى التحتية للطاقة، وحتى المصانع الحيوية التي تعد جزءًا من الترسانة الروسية.
وبينما تستمر المسيّرات الأوكرانية المدعومة استخباريًا وتقنيًا من الغرب في قضم العمق الروسي، يبدو أن كييف باتت تمتلك بنك أهداف شاملة، يسعى لإجبار روسيا على التحول إلى وضعية دفاع دائم، ما يفرغ قدرتها على اتخاذ قرارات حاسمة لتدمير القدرات الأوكرانية في المهد. وهذا التحول الاستراتيجي يجعل روسيا أمام احتمال خطير: الغرق في مساحات نزاع متزايدة، وربما التورط في جبهات جديدة، سواء في بحر البلطيق أو القوقاز أو حتى في آسيا الوسطى، دون قدرة فعلية على التحكم بمسار الحرب.
المفارقة الكبرى أن روسيا تمتلك واحدة من أضخم الترسانات النووية في العالم، لكنها عاجزة عن استخدام هذه الورقة، إما بسبب القيود السياسية الدولية أو التردد الاستراتيجي الداخلي، بينما تبدو أسلحتها التقليدية بطيئة التأثير، وغير قادرة على قلب موازين الحرب، نتيجة لتكتيكات ميدانية تكرر نماذج الحرب العالمية الثانية، دون تحديث يتناسب مع حروب الجيل الخامس.
من المؤسف أن الرد الروسي لا يزال باهتًا، وغالبًا ما يكون رد فعل محدودًا بطائرات مسيّرة أو صواريخ كروز، دون الاعتماد الكثيف والفعال على سلاح الجو في عمليات مركزة تطال البنية العسكرية الأوكرانية. لقد تأخرت روسيا في تبني عقيدة هجومية شاملة، رغم أن ما تواجهه يهدد كيانها ومكانتها العالمية. فالاستمرار في هذا النمط الدفاعي المتردد، والتعامل مع الضربات المهينة بخطابات سياسية أو مراسيم داخلية، لا يؤدي سوى إلى صورة مهزوزة لدولة كبرى تبدو عاجزة عن حماية ذاتها، ما يُعد أمرًا مخزيًا لموسكو، ويهدد برمزيتها الدولية.
وباتت روسيا تستشعر خطر تهديد كيانها. بأن الحرب لم تعد فقط على الحدود، بل داخلها. وأن الرخاوة الأمنية والاستخبارية باتت ثغرة كارثية، تستثمرها شبكات الجواسيس والعملاء الذين ينقلون التقنية، ويهرّبون المسيّرات، ويحددون الأهداف. ما يتطلب إعادة هيكلة الجهاز الأمني الروسي، وتكثيف الحملات الأمنية والاستخبارية الداخلية، لاجتثاث هذه الشبكات، وتحويل الداخل الروسي من نقطة ضعف إلى جبهة مقاومة حقيقية.
روسيا لا تزال تعتمد على نموذج "الردع بالنار"، إلا أن حجم التهديدات يدفعها إلى إعادة هيكلة بنيتها العسكرية، باتجاه التفاعل الشبكي.. لكن التحدي الأكبر يتمثل في تأخر تطوير منظومة ذكاء اصطناعي عسكري شامل. وسرعة التحول من قيادة عمودية إلى عقلية مرنة شبكية. ومع ذلك، تمتلك موسكو أدوات مقاومة وخبرة سيبرانية واسعة، وقدرات تشويش إلكتروني، بالإضافة إلى إرث استخباري قابل للتكيف، وسد الفراغ الأمني الداخلي.
الضربات الذكية أخرجت موسكو من موقف الهجوم إلى الدفاع الداخلي. وفي هذا السياق، يمكن تمييز أربع مستويات في رد الفعل الروسي:
-الخطاب الرسمي، تصعيد تحذيري مباشر.
-تغييرات ميدانية، وتعزيز منظومات الرصد.
-تحذير جيوسياسي بتحميل أوروبا المسؤولية.
-التعبئة الداخلية، وتوظيف الهجوم، لتشريع رد قاس، وتفعيل قوانين طوارئ، وزيادة التعبئة، وصحوة أمنية.
الرد الروسي
شنت روسيا هجومًا واسع النطاق الجمعة 6 يونيو على أوكرانيا يوصف بأنه الأعنف منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية. استهدفت الهجمات البنية العسكرية للجيش الأوكراني. جاء هذا الرد بالتزامن مع هجمات استباقية للجيش الأوكراني في هجمات متبادلة بالطائرات المسيّرة والصواريخ، استهدفت منشآت عسكرية وصناعية في عمق البلدين، وسط دعوات أوكرانية لتحرك دولي "حاسم" لوقف الهجمات الروسية.
وقال الجيش الروسي إنه شن هجومًا "ضخما" باستخدام أسلحة جوية وبحرية وبرية عالية الدقة بعيدة المدى، بالإضافة إلى مسيّرات هجومية على أوكرانيا "ردًا" على الهجمات الأخيرة التي نفذتها كييف على أراضيها، التي استهدفت مواقع عسكرية.. قالت موسكو أن الحرب الحالية حرب على الوجود.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسي أنها أسقطت 174 طائرة مسيّرة أوكرانية فوق مناطق عدة، من بينها كورسك وبيلغوراد وشبه جزيرة القرم، كما دمرت 3 صواريخ موجهة من طراز "نيبتون-إم دي" فوق البحر الأسود.
ورغم هذه التصريحات، أفادت تقارير محلية بأن بعض الهجمات الأوكرانية أصابت أهدافا حساسة، من بينها مصفاة نفطية في مدينة إنجلز بمنطقة ساراتوف، التي تضم قاعدة جوية روسية رئيسة.
وفي منطقة بريانسك، أظهرت مقاطع مصورة كرة لهب كبيرة في مطار عسكري وسط أصوات العديد من الانفجارات، بينما خرجت قاطرة احتياطية عن مسارها في بيلغوراد بعد انفجار عبوة ناسفة على سكة الحديد الروسية، دون تسجيل إصابات. وأعلنت هيئة الأركان الأوكرانية أن قواتها نفذت "ضربة استباقية" استهدفت مطارات روسية في ساراتوف وريازان، بالإضافة إلى منشآت لتخزين الوقود. وأكدت كييف أن الضربات جاءت قبيل هجوم روسي واسع النطاق
هذا الحدث يضع العالم أمام نمط جديد من الحروب، لم تعد فيه القوة مقاسًا تقليديًا بالمعدات والرجال، بل بالبيانات والخوارزميات. لقد تغير العقل العسكري نفسه، فبات الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتوجيه السلاح، بل يصوغ استراتيجية الاشتباك، يُقيّم الجدوى السياسية للضربة، يفرز الأهداف، ويرجح بينها استنادًا إلى توقعات وتحليلات لحظية تتجاوز قدرة البشر على الاستيعاب أو الرد.
روسيا أمام معضلة
روسيا، رغم صلابتها العسكرية التقليدية، تجد نفسها أمام معضلة لا تتعلق بتفوق ميداني مباشر، بل بقدرة خصومها–وتحديدًا أوكرانيا المدعومة أوروبيًا–على نقل المعركة إلى منطق جديد، قوامه المرونة السيبرانية، وفاعلية الذكاء الاصطناعي، وكفاءة الهجمات الذاتية التشغيل. ولعل انخراط قوى مثل بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، وبولندا، لا يؤشر فقط على دعم تقني وعسكري لأوكرانيا، بل على دخول هذه الدول في مرحلة أكثر جدية في التورط الجيوسياسي. إعلان بريطانيا استعدادها للحرب مع روسيا لا يبدو مجرد تصعيد إعلامي أو حرب نفسية، بل جزءًا من مشهد أكبر، يتداخل فيه التنافس التقني مع الصراع على إعادة رسم موازين الردع الأوروبية. وليس من المستبعد أن تكون "عاصفة المسيّرات" التي استهدفت الداخل الروسي رسالة مركبة، هدفها اختبار لقدرة الدفاعات الروسية على التكيّف مع الحرب الشبكية، وإنذار بأن التفوق النووي أو الصاروخي لم يعد كافيًا لضمان الردع. روسيا، التي طالما اعتبرت "الردع بالنار" عقيدتها العسكرية المركزية، هي مطالبة اليوم بإعادة تشكيل بنيتها العقلية والتقنية، لتدخل في سباق "التفاعل الشبكي"، بما يتطلبه من مرونة لوجستية، وتنسيق استخباري-ميداني يعتمد على الذكاء المتبادل لا على الهيمنة فقط.
لكن السؤال الأعمق، وربما الأخطر، لا يكمن في مَن يمتلك السلاح الأذكى، بل في طبيعة الحرب ذاتها حين تفقد وجهها البشري. فالذكاء الاصطناعي لا يُنذر فقط بإعادة تعريف التكتيك، بل بإعادة تشكيل الضمير. فحين تتخذ الخوارزمية قرار القتل، وتُطلق المسيّرة صواريخها على هدف رُجّحت جدواه استنادًا إلى معطيات رقمية، تغيب الارتعاشة الأخيرة التي كانت ترافق أصبع الجندي، ويغيب التردد الإنساني الذي كان، ولو ضمنيًا، يلجم الفعل العسكري.
إذًا نحن أمام معضلة أخلاقية لا تخص أوكرانيا وروسيا فحسب، بل تمس جوهر الفعل الحربي المعاصر. من يتحمل مسؤولية القرار حين ترتكب آلة ذكية خطأ قاتلًا؟ هل يتحمله المشغل البشري، أم الشركة المصنعة، أم المبرمج؟ أم أن القتل يصبح بلا قاتل، وتتحول المأساة إلى "خلل في النظام" يُعالج بتحديث البرنامج؟
القلق لا ينبع من أن الذكاء الاصطناعي يقتل بدم بارد، بل من أنه لا يعرف ما هو الدم..! ولا ما هو البرود..!، هو يقتل لأنه صُمم لذلك، ولأن التقييم الرقمي اقتضى الضربة. بهذا المعنى، تدخل الحرب مرحلة ما بعد الضمير، وتُعاد صياغة السياسة كعملية آلية أكثر منها تعبيرًا عن إرادة أو صراع مصالح. وبهذا، تتفكك المعادلة الأخلاقية التي بُني عليها القانون الدولي، ولم يعد الفاعل مُحددًا، ولا النية متعقلة، ولا الجريمة واضحة الحدود.
دخول أوروبا في المغامرة
يبدو أن أوروبا قد قررت، صراحة أو ضمنًا، الدخول في هذه المغامرة الذكية، فإن السؤال الأصعب هو: هل العالم مستعد لحرب تُدار جزئيًا من خارج الوعي الإنساني؟ حرب تبدأها خوارزمية توقع، وتُنفذها منظومة هجومية آلية، ويُنهيها تقرير تقييم الأضرار من يوقف مثل هذا السيناريو إذا خرج عن السيطرة؟
روسيا قد تنجح، على المدى القصير، في امتصاص مثل هذه الضربات، وتطوير قدراتها العسكرية بالانتقال إلى الذكاء الاصطناعي، وربما انتقال الأسلحة الاستراتيجية إلى ذلك، وقد ترد بسياسات استنزاف ذكية مضادة، أو عبر تحسين تقنيات التشويش والاختراق، لكن المعركة الكبرى لم تعد تُحسم على الأرض فقط، بل في مدى القدرة على السيطرة على منطق الحرب نفسه.
إذًا نحن أمام لحظة مفصلية، لم تعد القوة وحدها تحكم، بل الذكاء، لا بمعناه الفردي، بل بمعناه الاصطناعي المحض. ومن لا يُجيد اللعب بهذه القواعد سيتحول عاجلًا أم آجلًا، إلى مجرد مشهد جانبي في مسرح الحرب الحديثة.
الأخطر أن هذا المسرح -كما يبدو-، لا جمهور له. لأنه لا مشاعر في الحرب التي تُدار بالصمت، ولا بطولة في حرب بلا بشر، ولا ندم في قتل بلا يد. وحده التاريخ، ربما، سيحاكمنا لاحقًا على أننا تركنا الآلة تمسك الزناد دون أن نعيد التفكير أولًا في معنى أن تكون إنسانًا في عصر الحروب الذكية التي تهدد الوجود الإنساني، وتفرض منطقها على الآخر.