
عرب جورنال / توفيق سلاَّم -
كلما أوشك الضجيج على الخفوت، عادت العواصم الأوروبية لتنفخ في رماد الحرب، كمن يخشى انطفاء النار قبل أن يُلقى في وقودها ما يكفي لتثبيت موطئ قدم في الخرائط القادمة. تطالعنا الأخبار كل يوم بلغة لا تخلو من التناقض، كأن أوروبا تُدير حربًا في الظلال وتُفاوض على السلام في العتمة. من برلين إلى باريس، ومن وارسو إلى لندن، لا تكاد التصريحات تهدأ حتى تُستأنف بحدة أعلى، وصيغة أكثر جرأة، تُناور بين دعم أوكرانيا عسكريًا بقوة، والتلويح بخيارات استراتيجية كبرى، من إرسال القوات إلى بناء مصانع صواريخ في قلب الحرب.
غير أن ما يخترق هذا الضجيج هو السؤال الأهم: ما الذي تريده أوروبا حقًا؟ أهي فعلاً مدفوعة برغبة أخلاقية في دعم الحرية الأوكرانية، أم أن ثمة صفقة كبرى تجري في العمق، أبعد من الخطاب العلني، تتعلق بتقسيم النفوذ والثروات، لا سيما مع دخول واشنطن على خط المعادن النادرة، تاركة الحلفاء الأوروبيين خلفها، يلوحون بالعقوبات من دون مقعد فعلي على طاولة التفاهمات؟
نزيف من دون حساب
فرنسا تُهدد بإرسال قوات، وألمانيا تُقدم صواريخ بعيدة المدى، وبريطانيا تُعلن جاهزيتها لمواجهة موسكو، لكن أحدًا لا يفسر كيف لحكومات مأزومة اقتصاديًا، تواجه شعوبها بأزمات طاقة وعجوزات متفاقمة، أن تستمر في هذا النزيف من دون حساب دقيق للتبعات. هل تراهن أوروبا على استنزاف روسيا لصالح الغرب ككل؟ أم أنها تلعب بأوراق أكبر منها، وتوشك أن تدفع ثمنًا سياسيًا واجتماعيًا داخليًا لا قدرة لها على احتماله؟
من هذه الزاوية، تبدو القراءة التحليلية لمواقف أوروبا الراهنة ضرورة لا يمكن تجاهلها. فالخطاب التصعيدي ليس مجرد تفاعل طارئ مع أحداث الحرب، بل جزء من مشروع استراتيجي تتعدد فيه الأجندات، بين من يريد موطئ قدم في الكعكة الأوكرانية، ومن يخشى تهميشه في النظام العالمي الجديد، ومن يسعى لتصدير أزماته الداخلية خارج الحدود.
هل أوروبا فعلاً شريك سلام؟ أم مجرد لاعب مأزوم، يلوح بالنار لئلا تُطفأ قبله؟
في قلب هذا الصراع، لم تعد أوكرانيا سوى رقعة صلبة في لعبة شطرنج تتصارع فيها القوى الكبرى على موقع النفوذ وشروط المستقبل. أوروبا التي تقف على تخوم النيران، ليست متجانسة في مواقفها، بل تتنازعها تيارات داخلية متضاربة، بعضها يريد التصعيد العسكري لضمان موقع تفاوضي أفضل، وبعضها الآخر يخشى من حرب شاملة تهز أركان القارة المتعبة أصلًا من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
التصعيد الأوروبي
حين تعلن ألمانيا نيتها تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب العمق الروسي، وحين تتحدث فرنسا علنًا عن احتمال إرسال قوات إلى الجبهة، فإن هذه التصريحات لا تعكس وحدة موقف بقدر ما تكشف عن مأزق استراتيجي تحاول العواصم الأوروبية الإفلات منه عبر اللعب على حافة الهاوية. واللافت أن هذا التصعيد لا يترافق مع أي إطار سياسي واضح أو استراتيجية خروج من الحرب، ما يعزز الشكوك بأن أوروبا تُناور أكثر مما تُخطط، وتستعرض أكثر مما تُحسم.
أما صفقة بناء مصانع الصواريخ في أوكرانيا، فهي تتجاوز الدعم العسكري المباشر، وتدخل في سياق الاستثمارات الاستراتيجية في الأرض المحروقة. إنها محاولة لشراء دور في مستقبل ما بعد الحرب، دور لم يُدعَ الأوروبيون إليه بعد، رغم أنهم دفعوا الكلفة الكبرى ماليًا واقتصاديًا.
الصفقة الأخيرة بين أوكرانيا والولايات المتحدة لتوريد المعادن النادرة – حجر الزاوية في الصناعات التكنولوجية والعسكرية الحديثة كشفت ما كان مستورًا، أن أمريكا تُجيد إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأن أوروبا، رغم دعمها السخي لأوكرانيا، لم تحصل على مقابل استراتيجي حقيقي. صمتها عن هذه الصفقة، بل وتماهيها معها، يعكس مقدار التبعية التي ترزح تحتها.
وفي ضوء ذلك، يبدو أن أوروبا باتت تتحرك بدافع القلق من أن تُستبعد تمامًا من ترتيبات ما بعد الحرب، وهو ما يفسّر اندفاعها المتأخر لتصعيد المواقف. لكنها في الواقع تُجيد التحرك في الظلال أكثر من الميادين، فالمصانع التي تُبنى، والعقوبات التي تُفرض، لا تغير كثيرًا في موازين القوى على الأرض، بل تعمق الفجوة بين الخطاب والفعل.
بريطانيا: عودة الإمبراطورية
إعلان بريطانيا عن استعدادها لمواجهة روسيا عسكريًا يندرج ضمن مسعى أكبر لإعادة تدوير مكانتها في النظام العالمي بعد "البريكست". في لحظة يشعر فيها الحلف الأطلسي بضعفه السياسي رغم تفوقه العسكري، تحاول لندن أن تلعب دور الرأس الحربي الأيديولوجي، متجاوزة الجغرافيا والمنطق. لكنها، مثل فرنسا، تدفع أثمانًا اجتماعية باهظة في الداخل، تجعل من خطابها الخارجي مجرد قناع لتغطية هشاشة الداخل.
ثمّة مفارقة عميقة هنا، كلما اقترب الحديث عن ملامح تسوية محتملة، صعدت أوروبا من لهجتها. كأن نهاية الحرب تهدد بفضح الحسابات غير المعلنة: استثمارات بلا مقابل، تبعية استراتيجية مهينة، عجز داخلي يزداد تفاقمًا. لذلك قد لا تكون بعض العواصم الأوروبية ضد السلام بوصفه هدفًا، لكنها تخشى من سلام لا يمنحها مقعدًا ولا يحفظ لها ماء الوجه. ولهذا السبب، تراهن على استنزاف روسيا، ظنًا منها أن الوقت كفيل بإعادة ترتيب الأوراق. غير أن هذا الرهان، في ظل اقتصاد مرهق ومجتمعات متململة، قد يتحول إلى مقامرة وجودية.
في المشهد الراهن، يبدو الحديث عن تسوية روسية-أوكرانية أقرب إلى بناء على رمال متحركة، ليس لغياب الإرادة السياسية فحسب، بل لتعقيد المعادلة الجيوسياسية التي لم تعد تقتصر على موسكو وكييف، بل باتت تتشابك فيها خيوط واشنطن وبروكسل وبكين. صحيح أن الطرفين، روسيا وأوكرانيا، أبديا في محطات متعددة استعدادًا مشروطًا للتفاوض، لكن الشروط نفسها تعكس عمق الهوة التي تفصل الرؤيتين. موسكو لا تزال متمسكة بما تسميه "الضمانات الأمنية"، التي تعني فعليًا نزع السلاح الاستراتيجي لأوكرانيا، والاعتراف بمناطق النفوذ الجديدة على الأرض، ومنع انضمام كييف لحلف الناتو. بينما تواصل القيادة الأوكرانية، بتشجيع من الغرب، المطالبة بانسحاب روسي كامل من الأراضي المحتلة، وضمانات أمنية دولية طويلة الأجل، وتعويضات مادية، ما يجعل الطاولة التي قد يُعقد عليها أي تفاوض محتمل، أشبه بحقل ألغام سياسي.
روسيا، من جهتها، قد تبدو مستعدة لتقديم تنازلات شكلية وليس جوهرية. فهي قد تقبل بإطار تفاوضي يوقف العمليات العسكرية مؤقتًا، لكنها لا تبدو مستعدة حتى الآن للتراجع عن مكاسبها الميدانية، بل تراهن على الوقت واستهلاك إرادة الغرب في الدعم طويل الأمد لكييف. التنازلات التي قد تقدمها موسكو، إن وُجدت، ستكون على الأرجح في الصياغات الدبلوماسية، وليس في المضمون الاستراتيجي؛ فقد تقبل بـ"وضع خاص" لمناطق الشرق الأوكراني، أو بمشاركة مراقبين دوليين، لكنها لن تعود إلى حدود ما قبل 2014 إلا إذا وُضعت تحت ضغط داخلي أو خارجي غير مسبوق.
أما الموقف الأمريكي، فلا يزال يتأرجح بين دعم متواصل لأوكرانيا وضبط إيقاع الحرب بما لا يجرّ واشنطن إلى مواجهة مباشرة مع موسكو. الولايات المتحدة تُدير الأزمة كمن يدير صراعًا بالوكالة، لكنه حريص في الوقت نفسه على إبقاء خطوط التوتر ضمن الحد الذي يُضعف روسيا دون أن يزعزع النظام الدولي أو يخلق فراغًا قد تستغله قوى منافسة كالصين. حديث لافروف عن "جذور الصراع" يجد صداه في بعض الدوائر الفكرية الأمريكية، لكنه لا يجد مكانًا فعليًا في مراكز القرار، التي لا تزال تقرأ الأزمة من زاوية استراتيجية تهدف إلى إضعاف روسيا وليس استيعابها.
في هذا السياق، تأتي التهديدات الأوروبية ضمن لعبة تقاسم أدوار غربية واضحة: أوروبا تُصعّد خطابها لتظهر بمظهر القوة، لكنها في الواقع لا تتحرك إلا ضمن هوامش مرسومة من واشنطن. التصريحات الفرنسية أو البولندية أو الألمانية عن إرسال قوات أو بناء مصانع عسكرية في أوكرانيا، تُستخدم أكثر للضغط على روسيا في ميدان الحرب النفسية والتفاوض، وليس بالضرورة كمؤشرات على قرار جدي بخوض حرب مباشرة. إنها لعبة شد الحبل التي يتقنها الغرب منذ الحرب الباردة، لكن خطورتها تكمن في أنها تجري هذه المرة على تخوم انهيارات اقتصادية واجتماعية متصاعدة في الداخل الأوروبي، وفي ظل نظام دولي لم يعد يحتمل المناورات طويلة الأمد.
المعادلة إذًا لا تشير إلى قرب سلام فعلي، بل إلى استمرار حرب باردة جديدة بأدوات ساخنة، تُستنزف فيها الأطراف دون أن ينتصر أحد، وتُترك فيها أوكرانيا معلقة بين حدود التاريخ والجغرافيا، رهينة لتوازنات كبرى لا تملك فيها سوى أن تكون الميدان لا الفاعل. والسلام، إن جاء، فسيكون سلامًا مفروضًا لا قائمًا على تفاهم عميق، إلا إذا تغيرت موازين القوى أو استنفدت الأطراف قدرتها على الاحتمال.