مايو 29, 2025 - 15:52
عربات جدعون: حين تستبدل إسرائيل الانتصار بالأرض المحروقة


أروى حنيش

في مشهدٍ بات مألوفًا في ذاكرة الجغرافيا الفلسطينية، لكنه أكثر كثافة هذه المرة من حيث الرمزية والتكتيك، تتقدم آلة الحرب الإسرائيلية داخل أطراف خان يونس تحت عنوان "عربات جدعون"، كأنها تحاكي أسطورة عبرية قديمة لتُسقطها على أنقاض مدينة تحاصرها النار من كل الجهات. الدبابات والجرافات ليست فقط وحدات عسكرية، بل هي لغة عنف متوحش تسعى إسرائيل من خلالها إلى إحداث صدمة ميدانية تُغير التوازنات، ولو على حساب الحجر والبشر.


نظرية الردع


ليست هذه الحملة نزهة عسكرية عابرة، بل امتداد لنظرية الردع التي قررت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن تُلبسها عباءة التوراة وخرافات التملك، وهي بذلك تدشن مرحلة جديدة من "الردع بالرعب"، حيث يتقاطع النسف والتجريف مع بناء جدران النار والعزل الميداني في مشهد أشبه بتهويد الذاكرة بالبارود.
التقارير القادمة من خان يونس، والتي تؤكد توغل عشرات الآليات من بوابة كيسوفيم إلى قلب بلدات القرارة والفخاري وعبسان، تحمل رسائل مركبة. من الناحية العسكرية، تسعى إسرائيل إلى كسر الإرادة القتالية للمقاومة الفلسطينية عبر تدمير البيئة الحاضنة لها، مستفيدة من كثافة الغطاء الجوي ومن نشر أبراج الرصد والرافعات المسلحة لإغلاق الأفق أمام أي حركة مدنية أو مقاومة. ومن الناحية الرمزية، تعمل تل أبيب على إحياء "عقيدة العمق"، أي استهداف النقاط التي تُعتبر عصبًا معنويًا ولوجستيًا للفلسطينيين، كما في مستشفى غزة الأوروبي ومحيطها، بهدف إخضاع الجنوب بالكامل.
لكن ما يهم في هذا المشهد ليس فقط حجم التدمير، بل غياب أي أفق سياسي يصاحب العمليات، مما يجعل من هذه العملية نموذجًا مكتمل الأركان "للحرب العبثية" أو "الدمار من أجل الدمار"، في ظل انعدام أهداف قابلة للتحقيق على المدى الطويل. هذا ما يفسر أيضًا الدفع بكامل ألوية المشاة والمدرعات، وفق ما كشفته هيئة البث الإسرائيلية، حيث تتحرك خمس فرق عسكرية دفعة واحدة، ما يعكس شعورًا داخليًا لدى قيادة الأركان بأن الحرب أمام تحدٍ وجودي، لا مجرد رد تكتيكي على ضربات المقاومة.


شهية العنف

في السياق ذاته، تتعمد إسرائيل تطويق خان يونس من جهتيها الشمالية والجنوبية، ضمن مقاربة عسكرية أشبه بجراحة استئصال لمركز الصمود في غزة. وهذا يعكس أيضًا مأزقًا استراتيجيًا عميقًا: كلما فشلت إسرائيل في تحقيق نصر واضح، ازدادت شهيتها للعنف. في غياب مشروع تسوية سياسي، لا تجد تل أبيب إلا نار المدافع والمجنزرات لتروي ظمأها للهيمنة.
هذه الشهية ليست طارئة، بل متأصلة في بنية العقيدة القتالية الإسرائيلية، التي تقوم على استعراض القوة المفرطة كوسيلة لتعويض الفشل الاستخباراتي أو الميداني، وتحويل الساحة الفلسطينية إلى مختبر دائم لاختبار الأسلحة والتكتيكات الجديدة. ويبدو أن كل إخفاق يعيد إنتاج الحاجة إلى مجازر أكبر، كأن العنف ذاته أصبح معيارًا لمصداقية الردع.
العمليات الأخيرة كشفت أيضًا عن تحول لافت في اللغة العسكرية: من "الضربات الدقيقة" إلى "تطهير المناطق"، ومن "تفكيك البنية التحتية للمقاومة" إلى "تحطيم البيئة الاجتماعية". وهذا التحول ليس لغويًا فحسب، بل يشير إلى ميل متصاعد نحو الحروب المفتوحة على المدنيين باعتبارهم امتدادًا للميدان.
وبينما تزدهر تجارة الدم في أروقة السياسة الإسرائيلية، يُعاد تعريف النصر كقدرة على تعميم الخراب، لا على تحقيق مكاسب سياسية مستدامة. وكلما طالت الحرب دون نتائج، ازدادت حاجة المؤسسة الأمنية إلى تصعيد يُعيد إنتاج الإحساس بالسيطرة، ولو كان مؤقتًا.
ومن خلف دخان القصف، يظهر الصمت الدولي كطرف فاعل بالصمت، إن جاز التعبير. فالتواطؤ بالصمت تجاه جريمة معلنة في وضح النهار، هو فعل سياسي لا يقل خطورة عن الاشتراك فيها. حتى الدعوات الدولية لخفض التصعيد تبدو اليوم أشبه ببيانات أرشيفية، تُصدر على عجل ثم تُنسى، ما يعمّق القناعة بأن ما يجري في غزة لا يُقرأ فقط في نطاقه المحلي، بل كترس داخل ماكينة إقليمية ودولية قررت ترك الفلسطينيين وحدهم في ساحة الدم.
فشهية العنف هنا لا تُقرأ فقط في عدد الغارات، بل في إصرار المؤسسة الإسرائيلية على إبقاء غزة داخل معادلة الاحتراق الدائم، بوصفها مسرحًا عقابيًا يُستخدم لتصفية الحسابات مع الداخل والخارج. بل إن هذا التوحش بات يمثل طوق نجاة سياسي لحكومة مأزومة، تجد في إشعال الجبهات متنفسًا للهروب من أزماتها البنيوية، وهو ما يجعل العنف وسيلة دائمة للسلطة، لا مجرد أداة ظرفية.
وفي ضوء ذلك، لا بد من طرح سؤال جوهري: ما الذي تسعى إليه إسرائيل من هذه العملية؟ هل هو إعادة ترتيب ميداني؟ أم استثمار في الخراب لفرض شروط تفاوض مستقبلية؟ أم أنها، كما يرى بعض المراقبين، تدير حربًا بلا هدف إلا الهروب من أزماتها الداخلية وتصدير فشلها السياسي؟
الواقع أن عملية "عربات جدعون" لا تمثل تحولًا تكتيكيًا فحسب، بل تُعبّر عن انسداد سياسي وأخلاقي في العقل الإسرائيلي، الذي بات يساوي بين الأمن والإبادة. في حين تُجسد خان يونس اليوم مفترقًا تاريخيًا جديدًا، ليس فقط في جغرافيا المعركة، بل في سؤال الوجود الفلسطيني، الذي يُصر على التجلي رغم الأنقاض.
فمن تحت الركام، هناك دائمًا ما يُولد، وما يُعيد تشكيل المعنى، ولو كان الثمن مدنًا تُمحى بالنار.

وهكذا، فإن الهروب إلى المجزرة بدل التفاوض تكشف عملية "عربات جدعون" عن تحول نوعي في العقل الإسرائيلي، من البحث عن النصر إلى الاستثمار في الدمار. فإسرائيل لا تُحارب اليوم من أجل تحقيق أهداف عسكرية واضحة، بل لإعادة إنتاج التفوق الرمزي على أنقاض مدينة تقاوم.
ما يجري ليس مواجهة بين جيش ودولة فحسب، بل بين مشروع صهيوني مأزوم وفكرة فلسطينية عصية على الاقتلاع. من هنا، تغدو خان يونس اليوم أكثر من ساحة معركة، إنها مرآة لعجز العالم، ولصمود شعب يعرف أن معنى الوجود لا يُصنع في المؤتمرات، بل يُنتزع من تحت الأنقاض.