مايو 7, 2025 - 22:53
التدخل الإسرائيلي في سوريا: بين ذريعة الحماية لورقة الدروز وصراع النفوذ الإقليمي


أروى حنيش

في زمن تتقاطع فيه النكبات مع الأجندات، تصبح الأقليات وقودًا لصراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل، كما هو حال الطائفة الدرزية في سوريا وفلسطين. ففي خضم مرحلة انتقالية دقيقة تعيشها سوريا، تنفذ إسرائيل سلسلة من الغارات والتدخلات العسكرية تحت لافتة "حماية الدروز"، في وقت تواصل فيه سياساتها التمييزية تجاه أبناء هذه الطائفة داخل أراضي 1948، وتدفعهم لخوض حروبها دون أن تعترف لهم بحقوق المواطنة الكاملة.

تتذرع إسرائيل بخطاب الحماية، لكنها في الحقيقة تستخدم الدروز أداة لشرعنة تدخلها العسكري في سوريا، ولمواجهة نفوذ إقليمي متصاعد لتركيا وروسيا. وبينما تتآكل الدولة السورية تحت ضغط التدخلات الخارجية والتوترات الداخلية، يبقى الدروز في قلب العاصفة، محاصرين بين خطاب "الحماية" وسلوك الإقصاء، بين قصف الحليف ووعود العدو.
هنا نحاول تفكيك سردية "الحماية الإسرائيلية"، والمفارقات السياسية والاجتماعية التي يعيشها الدروز في زمن الانهيارات الكبرى.


توترات أمنية 


مشاهد التوترات الأمنية التي شهدته مدينة جرمانا بضاحية دمشق، واشتباكات بين قوى الأمن ومسلحين محليين. الاحتلال الصهيوني يجد الذريعة التي يلعب عليها ويرسم خططها المسبقة في الصراع الطائفي لتدخله السافر، ومحاولة إيجاد شرعنة لاحتلاله  بحماية الأقلية الدرزية التي تسكن غالبية المدينة
حيث بدءت  بالتوغل العسكري واستهداف البنية العسكرية السورية، مرورًا بالقصف "التحذيري" الذي طال القصر الرئاسي في دمشق في 2 مايو الجاري  على خلفية التوتر الحاصل بين الدولة السورية وفصائل من السويداء في كل من جرمانا، وأشرفية صحنايا، والسويداء.

 وبعد ساعات من غارة جوية إسرائيلية استهدفت منطقة القصر الرئاسي في دمشق، ذكرت هيئة البث الإسرائيلية أن إسرائيل تُجهز أهدافا إضافية لضربها في سوريا، حيث استهدف الطيران الإسرائيلي بعدة غارات مواقع عسكرية سورية في كل من ريف دمشق ودرعا وحماة، وبحسب بيان الجيش الإسرائيلي، فإن الغارات استهدفت "موقعًا عسكريًا ومدافع مضادة للطائرات وبنية تحتية لصواريخ أرض-جو في سوريا".  وأضاف البيان أن "الجيش سيواصل العمل كلما دعت الحاجة من أجل حماية مواطني دولة إسرائيل".

وعلى الرغم من أن هذه المواقع بحسب قيادي في وزارة الدفاع السورية هي مواقع خالية تقريبًا من السلاح، فإن هذا التصعيد الذي تتذرع إسرائيل بحماية دروز سوريا من خلاله، يحمل تداعيات كبيرة على السلم الأهلي، وعلى المناخ السياسي الإقليمي والدولي وسط تضارب مصالح كثير من الدول وتصوراتها عن شكل المستقبل الذي ينبغي أن تحمله سوريا.


المجتمع الدرزي


تأسس المجتمع الدرزي في سوريا في القرن الحادي عشر، عندما هاجر الدرزيون من لبنان إلى سوريا خلال الفترة العثمانية. كانت هناك تفاعلات مختلفة بين الدرزيين والسلطات العثمانية، وتأثيرات مختلفة على وضعهم السياسي والاجتماعي.

بعد الاستقلال شهدت سوريا فترة من الاستقرار السياسي، ولكن مع مرور الوقت تأثر الدرزيون بالتغيرات السياسية والاقتصادية في البلاد. وخلال الحرب الأهلية السورية واجه الدرزيون تحديات كبيرة، ولكنهم تمكنوا من الحفاظ على استقلالهم وخصوصيتهم الثقافية.
و يبلغ عدد أفراد الطائفة الدرزية في الأراضي المحتلة اليوم حوالى 143 ألف نسمة، أي ما يشكل نحو 1.6% من إجمالي السكان، وتفيد معطيات متنوعة بأنهم يشكلون ما نسبته 10% من فلسطينيي الداخل (فلسطينيي 48)، ويعيش معظمهم في الشمال، خاصة في منطقة الجليل وجبال الكرمل. 
وعلى عكس غالبية العرب داخل الأراضي المحتلة، يُجبر الدروز على الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُعد هذه الخدمة إلزامية لهم تماماً كما هي لليهود. نتيجة لهذا التجنيد الإجباري، يشغل العديد من أفراد الطائفة الدرزية مناصب عسكرية رفيعة في جيش الاحتلال. وتشير العديد من التقارير إلى أن 85% من أبناء الطائفة الدرزية يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، وهي نسبة تفوق نسبة اليهود المنخرطين في جيش الاحتلال، حيث انخرط هؤلاء الجنود في وحدات متنوعة، كان أبرزها ألوية المشاة المختارة، إلى جانب وحدات الشرطة وحرس الحدود.

ومن بين أبرز الشخصيات الدرزية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، يبرز الجنرال غسان عليان، الذي قاد لواء "غولاني"، أحد أشهر ألوية المشاة النخبوية في جيش الاحتلال، وقد أُصيب بجروح خطيرة خلال حرب غزة عام 2014 بنيران المقاومة الفلسطينية، ويشغل منصب منسق شؤون الأراضي الفلسطينية في وزارة أمن الاحتلال.

ولم يكن أول درزي في هذا المنصب، فقد سبقه فيه الجنرال الدرزي كميل أبو ركن. بالإضافة إلى ذلك، يبرز العقيد أيوب كيوف، الذي قاد وحدتين من وحدات النخبة، هما "شيلداغ" و"سييرت غولاني"، ويشغل حالياً منصب قائد لواء "منشيه" المسؤول عن منطقة جنين. 
في عام 2018، قُتل ضابط درزي على يد كتائب القسام عندما كان يقود وحدة إسرائيلية خاصة تسللت إلى قطاع غزة. ورغم هذا "الولاء" للاحتلال وآلته العسكرية، لم يعترف الاحتلال بالدروز كمواطنين متساوين مع اليهود. فمنذ عام 1948 يمارس الاحتلال بشكل ممنهج سياسات تمييزية طالت جميع الجوانب: الأرض، والسكن، والتعليم، والاقتصاد، وحتى المؤسسة العسكرية نفسها.
فمصادرة الأراضي مستمرة إلى اليوم، وقرى الدروز لم تُستثنَ من سياسات الاحتلال التوسعية منذ عام 1948، بل جُرّدت من مساحات كبيرة لصالح المستوطنات اليهودية. لذلك يعاني الدروز من ضائقة سكن متفاقمة تعود إلى رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطحات البناء منذ عام 1987 بعد مصادرة ما يزيد على 85% من أراضي القرى الدرزية، ما حوّلها إلى بيئات خانقة شبيهة بمخيمات اللاجئين. وحتى "دائرة شؤون الدروز"، التي أُنشئت عام 1970، لم تنجح في وقف شُحّ الميزانيات أو تنظيم البناء، ما اضطر الدروز إلى البناء دون تراخيص في أراضيهم، فواجهوا أوامر الهدم من سلطة الاحتلال.

 وفي عام 2016، احتج زعماء الطائفة على هدم منازل في قرى مثل حرفيش، والمغار، ويركا، وعسفيا، وطالبوا بتجميد الأوامر، لكن دون جدوى.

ولا يتوقف الأمر على ذلك، بل طال حتى الجنود داخل المؤسسة العسكرية. فعلى سبيل المثال، شهدت نهاية عام 2013 حادثة إهانة مجموعة من الجنود الدروز بمنعهم من دخول موقع ديمونة النووي أثناء تدريب. وفي الوقت الذي يُمنح فيه الجنود اليهود امتيازات واضحة بعد تسريحهم، خاصة في مجالي السكن والعمل، يُحرَم الجنود الدروز المسرّحون من هذه الحقوق، رغم أدائهم نفس الخدمة للاحتلال.

بل ويتعرضون لإهانات عنصرية، تصل أحياناً إلى الإذلال الجسدي والمعنوي. وتنقل وسائل الإعلام بين الحين والآخر شهادات لجنود دروز تعرضوا لسوء معاملة من زملائهم اليهود، وصلت حد المقاطعة، والنعوت المهينة.
اللافت أن هذا التمييز لا يقتصر على الجنود أو صغار الموظفين، بل يطال الدروز حتى وهم في مناصب عليا. ففي عام 2019، صرّح رضا منصور، سفير الاحتلال لدى بنما – وهو من أبناء الطائفة الدرزية – بأنه تعرض لـ"تمييز عنصري" ومعاملة مهينة من قبل حارسة أمن عند مدخل مطار "بن غوريون" في تل أبيب.


التعليم 

فيما يخص التعليم، فوفقاً للتقارير، الدروز هم الأقل تحصيلًا بين العرب في الداخل. فقط 44.4% من أبنائهم حاصلون على البجروت (الثانوية العامة الإسرائيلية)، وغالبيتهم لا يكملون التعليم الجامعي، نتيجة عوامل اجتماعية وأخرى تتعلق بغياب سياسات التمييز البنيوي: تخصيص الميزانيات للخدمات المحلية أدنى مما هو عليه في البلدات اليهودية؛ فرص التشغيل في القطاع العام محدودة؛ والبنى التحتية في القرى الدرزية متأخرة نسبيًا.
رغم تقديم الدروز أجسادهم وأرواحهم على مذبح الاحتلال لعقود من خلال خدمتهم في الجيش، لم يشفع لهم هذا "الولاء الدموي" لنيل المساواة. فبدل أن يُكافأوا بحقوق كاملة، تلقوا سلسلة من الضربات المتتالية من مؤسسة الاحتلال السياسية، خاصة في ظل تصاعد اليمين المتطرف خلال السنوات الأخيرة.

 تشير تقارير متعددة إلى أن لحظة الانفجار الشعبي تعود إلى عام 2018، عندما بلغت مشاعر السخط الدرزي ذروتها إثر إقرار "قانون الدولة القومية".


ذريعة الاحتلال


على مدار الأشهر الماضية استخدمت إسرائيل سردية حماية الدروز كحجة لأي تدخل ممكن من قبلها، وأرسلت تحذيرات عديدة على لسان مسؤوليها، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي قال إن بلاده "ملتزمة بحماية الدروز"، وشنت عدة غارات لدعم هذه السردية، كما استخدمت شيخ الدروز في إسرائيل "موفق طريف"، لدعم تلك السردية التي يراها كثير من دروز سوريا حجة واهية لتبرير التدخل الإسرائيلي في جنوب سوريا.
وعلى الرغم من أن هناك بعض الأصوات الدرزية في سوريا ربما تدعم رواية حماية إسرائيل للدروز، لكنها ليست شيئًا يذكر أمام أصوات غالبية الدروز في سوريا ولبنان الرافضة للتدخل، مما يجعل سردية إسرائيل غير واقعية وليست ضرورة مطلبية أتت نحوها من قبل دروز سوريا. هذا التدخل غير القانوني وغير المبرر يُعقّد الوحدة الدرزية في سوريا ولبنان من جهة، ويخلق توترًا أكبر بين بقية السوريين والدروز. وهي مؤشرات خطيرة قد تكون فتيل صراع داخل الطائفة الدرزية نفسها، وداخل النسيج السوري الديني من ناحية أخرى.


اتفاق السويداء 


الحكومة السورية والفعاليات الدرزية تبذل ما أمكنها لمواجهة هذه السردية، وبحسب المعلومات فإن اتفاق السويداء الذي تم بين الحكومة السورية والفعاليات الدرزية هو محاولة من قبل الطرفين لتذليل التوتر السوري-السوري الذي تُغذيه إسرائيل بهجماتها وخطابها، حيث قبلت الحكومة بما يشبه إدارة محلية في السويداء يقودها أبناء السويداء أنفسهم، وهو أمر يخالف توجهها بعدم السماح بحصر السلاح ضمن مكون معين لإدارة مناطقهم، وكان جليًا ذلك من خلال رفض الحكومة السورية اتفاقًا شبيهًا مع "قسد"، حيث اعتبرت أنه يهدد وحدة سوريا ومركزيتها.
لكن الهجمات الإسرائيلية ستزيد من حالة الضعف الموجودة في القوة العسكرية السورية والأمن العام، خصوصًا إذا ما أعادت الدولة انتشار عناصرها بعيدًا عن المواقع العسكرية لحمايتهم من القصف الإسرائيلي، وهذا يجعل البلاد أكثر عرضة لتحركات داخلية من قبل فلول النظام السابق، و"داعش"، الذي يحاول تقوية نفوذه وعتاده، الأمر الذي سيؤخر حتمًا أي جهود حكومية أو دولية لدعم الاستقرار في سوريا.

و تحاول إسرائيل من خلال تدخلها في سوريا مواجهة النفوذ التركي المتزايد في سوريا بعد سقوط النظام السوري، وذلك من خلال تدخلها عسكريًا في سوريا، حيث قصفت مطلع الشهر الماضي مواقع عسكرية من بينها مطار "T4"، والذي كان هناك حديثا(غير مؤكد) عن محاولة تركية لتحويله إلى قاعدة عسكرية، وأيضًا عبر محاولة إقناع واشنطن بأن نفوذ تركيا المتزايد هو تهديد لأمن إسرائيل، وبحسب المعلومات فإن إسرائيل تحاول إقناع واشنطن أيضا بالسماح لروسيا بزيادة نفوذها في سوريا على حساب النفوذ التركي، الأمر الذي يبدو أن واشنطن لم توافق عليه.


النفوذ الروسي 


تعزيز النفوذ الروسي في سوريا يواجه عقبات أوروبية وبريطانية، خصوصًا وأن الدول الكبرى في القارة الأوروبية ترى في سقوط النظام فرصة لن تتكرر لإنهاء النفوذ الروسي في سوريا، وبناء عليه تحركت غالبية الدول نحو دعم الحكومة السورية في محاولة لسحب جغرافيا سوريا من حسابات موسكو، وأن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا يحاولان دعم سوريا لتحقيق الاستقرار والاستقلال عن التدخل الخارجي خصوصًا روسيا وإيران. من جهة أخرى، التدخل الإسرائيلي الذي يُعمق ضعف الدولة السورية وخطواتها لحلّ الخلافات الداخلية لن يُعجب كثير من الدول العربية وعلى رأسها دول مجلس التعاون الخليجي، ولن يحظى برضا أمريكي كبير أيضًا، لأنه يخلق فرصة لإيران للعودة إلى سوريا ولبنان من بوابة مقاومة الاحتلال. وهو أمر لا تريده تلك الدول التي تسعى لدعم الاستقرار السوري الذي سينعكس بالضرورة على الاستقرار الإقليمي والدولي.

من المتوقع أن تستمر إسرائيل على المدى القصير- وربما الطويل- باستخدام ورقة حماية الدروز ومواجهة النفوذ التركي لتبرير تدخلها في سوريا، وفي المحصلة يبدو أن إسرائيل تريد بقاء سوريا ضعيفة، هشّة عسكريًا، ولا تمتلك مقومات الاستقرار، لأن ذلك يحمي "أمنها القومي" على حد تعبير كثير من القادة الإسرائيليين. لكن هذه السياسة أيضا هي تفخيخ للشرق الأوسط، قد يقود إلى انفجار يهدد الأمن الإقليمي والدولي، ومن غير المتوقع أن تسلم إسرائيل من ارتداداته الكارثية على أمنها القومي الذي تحاول حمايته.