مايو 5, 2025 - 17:26
سوريا في مهب التفكيك:  بين التقاسم وخرائط التفتيت 

توفيق سلام

منذ اللحظة الأولى لانفجار الأزمة السورية، بدا أن البلاد تتجه نحو مسار لا تحكمه رغبة التغيير السياسي بقدر ما تحكمه خرائط التفتيت والتشظي العميق الذي صِيغ على مهل في دهاليز القوى الدولية والإقليمية، وبتنسيق مع الاحتلال الصهيوني. فالبلاد لم تُترك لمصيرها، بل تم دفعها عمدًا إلى مشروع تآكلي تقوده جماعات متطرفة كـ"هيئة تحرير الشام"، بأدوار متقنة في تنفيذ هندسة التفكيك الطائفي والمجتمعي، وصولًا إلى واقع تبدو فيه سوريا وكأنها مرشحة للتلاشي إلى دويلات: سنية، علوية، كردية، وتركية وظيفية في الشمال.


أدوات التفكيك 


هيئة تحرير الشام، التي كانت يومًا تعرف بجبهة النصرة، انبثقت من رحم القاعدة بمرجعية جهادية سنية مغلقة، لكنها حازت –برغم سجلها الدموي– على اعتراف ضمني من قوى إقليمية ودولية،  وسمح لها أن تُهيمن على سوريا، ومن ثم ما بدا في ظاهره صراعًا داخليًا بين الطوائف، كان في جوهره نحتًا دقيقًا لخريطة سوريا المفككة، بأدوات مذهبية وحسابات إقليمية. فكلما أطلقت الهيئة حملاتها على مناطق فيها تنوع طائفي كالعلويين أو الدروز أو المسيح والعرب، وغيرهم كانت إسرائيل تجد الذريعة المثالية لتوسيع تغلغلها في الجنوب، تحت شعار "حماية الدروز"، وكأنها نصّبت نفسها وصيًا على الأقليات في جوارها، تمهيدًا لواقع استيطاني جديد يشرعن الاحتلال ويشطر سوريا إلى كانتونات سياسية وجغرافية.

في هذا السياق، تبدو السلفية الجهادية التي تمثلها الهيئة، لا كتيار ديني ثوري، بل كأداة فاعلة في مشروع التفكيك الطائفي الذي يخدم – بشكل مباشر أو غير مباشر – المشروع الصهيوني. فالعنف الطائفي الذي تشعله الهيئة في كل اتجاه، يعيد إنتاج خطاب العداوة بين مكونات الشعب السوري، ويُفجر إمكانية التعايش الوطني، ويدفع باتجاه صراعات أهلية تُمهد فعليًا لتقسيم دائم. فالمشروع الجهادي الجولاني، ليس إلا مرآة لمشروع الاحتلال الإسرائيلي، يتقاطعان في الهدف ذاته، بتقطيع سوريا إلى كيانات طائفية متناحرة.
ولعل أبرز مظاهر هذا المشروع المشترك يتجلى اليوم في الجنوب السوري، حيث تطلق هيئة تحرير الشام حملاتها الأمنية ضد مناطق الطائفة الدرزية، في محاولة لفرض الهيمنة بالقوة، ونزع السلاح من الأهالي، وإخضاعهم لسلطة الجماعة. شيوخ ووجهاء الطائفة الدرزية لم يلتزموا الصمت، بل طالبوا بتدخل دولي عاجل لحمايتهم من خطر التصفيات الطائفية، مؤكدين أن هذا السلاح الذي تمتلكه مجتمعاتهم ليس سلاح الدولة، بل اقتنوه بجهد ذاتي وعلى حساب لقمة عيشهم، وأن أي حديث عن تسليمه لا يمكن أن يكون لصالح جماعة جهادية متطرفة، بل تحت سلطة دولة وطنية موحدة لكل السوريين.
تصريحات شيوخ عقل الطائفة الدرزية تعكس حالة الخوف العميق من تكرار مشاهد العنف الطائفي التي مارستها الهيئة سابقًا في الساحل السوري، ضد العلويين والدروز، وهو ما يعزز يقين أبناء الطائفة أن مشروع الجولاني لا يختلف جوهريًا عن مشروع الاحتلال، تفتيت سوريا، وتقسيمها طائفيًا، وإشعال الحروب بين مكوناتها المجتمعية. فالجماعة لا تطرح رؤية جامعة، ولا تؤمن بالعيش المشترك، بل تمارس الإقصاء والهيمنة وتستند إلى خطاب ديني متطرف يستبيح المختلفين معها.


الطرف المستفيد 


في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، يبرز الاحتلال الصهيوني كطرف مستفيد ومنخرط بعمق، إذ يستثمر هذا العنف الطائفي للتوسع في الجنوب بذريعة حماية الدروز، مدعيًا أن أبناء الطائفة داخل الأراضي المحتلة يطالبونه بالتدخل لحماية أقاربهم في سوريا. هذا الادعاء لا يخلو من التوظيف السياسي، ويخدم سردية الاحتلال الذي يريد الظهور كحامٍ للأقليات، بينما يسعى عمليًا إلى تفكيك المجتمع السوري وتحويله إلى فسيفساء من المكونات المتناحرة، بما يضمن انعدام الخطر الاستراتيجي على حدوده.


مشروع التقسيم


المشروع التقسيمي لا يفتقر إلى الداعمين؛ فتركيا وقطر تلعبان دورًا محوريًا في احتضان الهيئة، وتسهيل تمددها، بينما تحافظ السعودية وبقية الأنظمة العربية على موقف غامض يدعم الاتجاه ذاته بوسائل غير مباشرة. أما الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا فتُدير الصراع بطريقة تضمن استمراره، فيما يمثل المحتل الطرف الأكثر استفادة، بفضل هذا التفكك الممنهج. واللافت أن ما يحدث في سوريا يشبه السيناريوهات التي جُرّبت في أفغانستان وليبيا، حيث وظّفت الولايات المتحدة الجماعات المتطرفة كأدوات لتفتيت الدول وإشعال صراعات داخلية لا تنتهي.

المفارقة أن المشروع الجهادي الذي يقوده محمد الجولاني– زعيم الهيئة– لا يحمل مشروع دولة بقدر ما هو آلية تقويض لأي مشروع جامع. فرؤيته السلطوية لا تتسع لبقية المكونات، و"الحكومة المؤقتة" التي أنشأها لا تعترف بغيره ممثلًا شرعيًا، ولا تملك مشروعًا سياسيًا جامعًا، بل تعيد إنتاج منطق الإقصاء باسم الدين والتمكين. وكلما اقتربت المكونات السورية أو طرحت مبادرات لحوار أو تفاهمات أو تقاطع، تدخلت هذه الهيئة عبر أدواتها الأمنية والعسكرية لتفجيره من الداخل. فهي لم تعد مجرد جماعة متطرفة، بل تحوّلت إلى أداة استراتيجية في لعبة التفتيت الكبرى.

الولايات المتحدة، في هذا المشهد، تبدو وكأنها تدير الأزمة لا لحلها، تُلوّح تارة بالحضور العسكري في الشرق لحماية الأكراد، وتغض الطرف تارة أخرى عن تمدد الجولاني في الشمال، بينما تبارك ضمنيًا تحركات المحتل الصهيوني في الجنوب. هذا الغموض الأمريكي لم يعد حيادًا، بل صار جزءًا من استراتيجية إطالة الأزمة، وترسيخ الوقائع على الأرض، تمهيدًا لتقسيم سوريا أمرًا واقعًا.

 فلا حلول شاملة، ولا تسوية جامعة، بل إدارة أزمة تفضي إلى تقاسم النفوذ، على حساب الجغرافيا والديمغرافيا السورية.
أما علاقة إسرائيل بالأكراد، فهي علاقة تمتد إلى عقود من التنسيق الصامت، لكنها اليوم تخرج إلى العلن بشكل أكثر وضوحًا. تل أبيب ترى في الكيان الكردي بشمال شرق سوريا حاجزًا وظيفيًا ضد دمشق وطهران، ونافذة استخبارية على العمق السوري والعراقي. الأكراد، بدورهم، يسعون إلى تثبيت كيانهم السياسي عبر أي تحالف ممكن، حتى وإن كان مع دولة تحتل جزءًا من وطنهم. ومن خلال هذا التناغم، تُضرب وحدة التراب السوري، وتُغذى النزعات الانفصالية، بحجة حقوق الأقليات.

المحتل الصهيوني لم يخفِ موقفه من سوريا، بل أعلنه مرارًا: لا دولة قوية على حدوده، ولا جيش متماسك، ولا وحدة وطنية. ومنذ سقوط بنية الجيش السوري النظامي في السنوات الأولى، كانت تل أبيب أحد الرابحين الكبار، وهي اليوم تعمل بهدوء على إعادة تشكيل الجنوب تحت عينيها، بعمليات عسكرية متقطعة، وبوكلاء محليين، وبمساعدة دولية وإقليمية لتفكيك الدولة المركزية. لم تعد تخشى دمشق، بل تتعامل معها كمناطق مفتوحة لا تملك قرار الحرب ولا السلم.

في هذا السياق المليء بالتشظي، يقود الجولاني مشروعه الخاص، تحت ستار الشرع والسلطة، لكنه لا يملك رؤية وطنية، ولا أدوات دولة. يرسل الحملات تلو الحملات ضد المناطق الخارجة عن نفوذه، ويقمع أي صوت معارض، في إعادة إنتاج لمركزية الاستبداد الذي خرجت الثورة لتسقطه. وكلما زادت هذه الحملات، ازداد التشظي، وتراجعت فرص توحيد الصف، وغرقت البلاد في متاهة الانقسامات.
تحليق الطيران التركي فوق سماء سوريا، مع إرسال إشارات أو تنسيق مع الطيران الإسرائيلي، يشير إلى احتمال وجود تفاهمات غير معلنة، أو على الأقل تجنب تصادم بين الطرفين، رغم تعارض أجنداتهما في بعض الملفات.
فالاحتمالات الممكنة وجود تنسيق استخباري مؤقت أو محدود، من المحتمل أن يكون هناك تبادل معلومات أو تجنب صدام في الأجواء ضمن ترتيبات غير رسمية، خاصة مع وجود مصالح تركية في سوريا لبناء قواعد عسكرية، ومن هنا يبدو يأتي الاستباق الإسرائيلي في قصف مواقع في حماه وفي الجنوب والوسط.

يبدو هناك محاولة لتقاسم النفوذ الجوي، في ظل غياب السيادة الجوية السورية الحقيقية، تحاول كل من تركيا وإسرائيل ترسيم مناطق "مسموح بها" لحركتهما الجوية دون اعتراض من الطرف الآخر.

حاليًا يبدو الصدام بين تركيا والمحتل مستبعدًا، رغم أن تركيا تدعم "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني، إلا أن هذه الهيئة لا تشكل تهديدًا مباشرًا للكيان المحتل، بل تركز على النظام السوري. كذلك، إسرائيل لا تبدي حساسية تجاه تحركات الجولاني ما دامت لا تشمل الجنوب أو جبهة الجولان.
لكن في حال تغيّرت هذه المعادلات؛ وقرر المحتل توسيع عملياته شمالًا ضد مصالح تركيا، أو
إذا تصاعد نفوذ الجولاني في الجنوب السوري بشكل يهدد مصالح المحتل
فقد تبرز توترات تركية-إسرائيلية غير مباشرة، عبر وسطاء أو مليشيات محلية.

هكذا تتحول سوريا إلى فسيفساء متقاتلة، تتنازعها مشاريع خارجية وأطماع داخلية، بين جهادية الجولاني، وانفصالية الأكراد، ووصاية إسرائيل، وغموض واشنطن، وعجز الدولة المركزية. والمحصلة: لا وطن يجمع السوريين، ولا مشروع يعيد بناء دولتهم، بل خريطة تُعاد صياغتها من ركام المدن، وعلى حساب دماء شعب دفع أثمانًا لا حصر لها، فقط ليكتشف أن ثورته اختُطفت، وأن بلاده على وشك أن تُمحى من الخارطة كما عرفوها.