
عرب جورنال / توفيق سلام -
في قلب المشهد الاقتصادي العالمي، اندلعت حرب الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة والصين كزلزالٍ عنيف أعاد ترتيب الحسابات الاستراتيجية في مراكز القوة الاقتصادية. قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية متصاعدة على واردات من الصين ودول أخرى، لم يكن محض إجراء مالي، بل إعلان مواجهة مفتوحة في قلب العولمة، أُريد لها أن تُخضع العالم الاقتصادي لشروط واشنطن، لكنها انتهت بكشف عمق ارتباكها.
وما بدا في البداية كخطة متماسكة "لإعادة توطين الصناعة" و"خلق فرص العمل"، سرعان ما ارتد على واشنطن نفسها، حين اضطر ترامب إلى تجميد هذه الرسوم لمدة ثلاثة أشهر على جميع الدول باستثناء الصين، قبل أن يتراجع جزئيًا عنها لاحقًا ليستثني بعض الأدوات الإلكترونية الدقيقة. هذا التذبذب السريع في القرارات فضح غياب رؤية استراتيجية واضحة، وكشف هشاشة الرهان الأمريكي على أن بقية الدول ستسارع إلى التفاوض ومن ثم الإذعان، باستثناء الصين التي بادرت بردود أفعال متوازية، فرضت عبرها تعريفات جمركية مضادة على الواردات الأمريكية، وأثبتت أنها تمتلك من أدوات القوة ما يؤهلها للصمود والمناورة.
لكن الكلفة كانت فادحة: فقد تسببت هذه الحرب في تقلبات حادة في الأسواق المالية، وخسائر بمليارات الدولارات في البورصات العالمية، وكان للسوق الأمريكية النصيب الأوفر منها. فقد تجاهلت واشنطن أن الاقتصاد العالمي بات نظامًا عضويًا مترابطًا، حيث يعتمد الإنتاج على سلاسل إمداد عابرة للحدود، وتدخل السلع المستوردة في صلب العملية الصناعية المحلية. لم يكن ممكناً إذًا أن ترفع التعرفة الجمركية دون أن تصيب قلب القطاع الصناعي الأمريكي نفسه.
اقتصاد الصين صناعي وأمريكا خدماتي
ورغم الشعارات الحمائية، أظهرت الأرقام أن الاقتصاد الأمريكي لم يعد صناعيًا بالمقام الأول، إذ يُشكّل قطاع الخدمات 80% من ناتجه المحلي، مقابل 19% للصناعة. في المقابل، ينهض الاقتصاد الصيني على قاعدة إنتاجية أوسع، حيث تسهم الصناعة بنسبة 36% من الناتج المحلي، والخدمات بـ 57%، مع 7% للزراعة. هذه التركيبة تمنح الصين ميزة تنافسية واضحة كقوة صناعية ضخمة، تجعل من الصعب على الولايات المتحدة مجاراتها في المدى القصير أو المتوسط دون خطط استراتيجية طويلة الأجل لإعادة بناء القاعدة الإنتاجية.
لكن الأهم من ذلك، أن الحرب التجارية تجاهلت مبدأ الميزة النسبية الذي تقوم عليه التجارة الدولية، وهو أن كل دولة تسهم بما تجيده وتستورد ما ينقصها من الآخرين، ليُبنى نظام تبادل يقوم على التكامل لا الإقصاء. فدولة كالصين، تمتلك ميزة نسبية في التصنيع، بينما تبرع الولايات المتحدة في تصدير الخدمات المتقدمة كالتعليم، السياحة، الاتصالات، والتقنية. هذا التشابك يجعل من الاستغناء عن الاستيراد ضربًا من الوهم، ويكشف أن فرض الرسوم الجمركية يقوّض ركائز النظام التجاري العالمي ويُعرّض الاقتصاد العالمي لخطر الركود أو "الركود التضخمي".
نجاح وتفوق الصين
ويُضاف إلى ذلك أن واشنطن لم تكن تُواجه اقتصادًا معزولًا، بل قوة دولية ترتبط بعلاقات متشعبة مع معظم اقتصادات العالم. فقد نجحت الصين في ترسيخ حضورها الاقتصادي من خلال تكتل البريكس، الذي يضم دولًا تمثل 38% من الناتج العالمي، متفوقة بذلك على مجموعة الدول الصناعية السبع بقيادة أمريكا، والتي تنتج نحو 30% فقط. وليس هذا التفوق رقميًا فحسب، بل هو مؤسسي أيضًا، حيث أسس تكتل البريكس مؤسسات مالية كبرى موازية لصندوق النقد والبنك الدولي، مثل بنك التنمية الجديد وصندوق احتياطي العملات، برأسمال قدره 100 مليار دولار لكل منها، إلى جانب شبكة مشاريع مبادرة "الحزام والطريق" التي تربط آسيا وأفريقيا وأوروبا بشرايين تجارية واقتصادية جديدة.
في المقابل، تبدو واشنطن في موقع أكثر عزلة، رغم احتفاظها بتأثير كبير في المؤسسات المالية الغربية وأسواق المال الدولية. لكن سياساتها الانغلاقية وفتحها لجبهات اقتصادية متعددة ضد حلفاء وخصوم في آنٍ واحد، تقوّض مكانتها القيادية، وتزيد من عزوف شركائها عن التبعية المالية والتجارية لها.
لذلك فإن التبعات العميقة لحرب الرسوم الجمركية لا تقف عند حدود الخسارة التجارية، بل تتسلل إلى عمق الأسواق المالية العالمية، التي تتغذى على الاستقرار والتوقعات الواضحة. فمجرد إعلان السياسات المفاجئة يربك المستثمرين ويؤثر على تدفقات رؤوس الأموال، ناهيك عن الاضطرابات في أسعار العملات، وأسعار السلع الأساسية، ما يعني أن النزاعات التجارية ليست شأنًا ثنائيًا، بل شأناً كونيًا تمس شرايين الاقتصاد العالمي برمته.
ختامًا، إن تصعيد الحروب الاقتصادية لا يُنتج إلا الهشاشة، ولا يقود إلى الهيمنة بل إلى تآكلها. والحكمة تقتضي إعادة الاعتبار لمبادئ التفاوض، والتكامل، والتوازن، والتخلي عن نزعات الهيمنة في إدارة النظام التجاري العالمي. فكل قوة اقتصادية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تُغني عن الآخر في عالم تتداخل فيه المصالح وتتشابك فيه الأسواق كما تتشابك الأنهار في مجرى واحد نحو مصير مشترك.