
عرب جورنال / توفيق سلام -
في وقتٍ لم يعد فيه الصراع في الشرق الأوسط مجرد نزاع حدودي أو توازنات سياسية عابرة، بل تحوّل إلى مشروع لإعادة هيكلة النظام الإقليمي برمته، يجد الفاعلون الدوليون والإقليميون أنفسهم أمام مرحلة جديدة من الفرز الاستراتيجي. فزيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، التي عاد منها خالي الوفاض رغم الرهانات الكبيرة، تتقاطع مع حراك دبلوماسي خفي يظهر في لقاء مرتقب بين مسؤولين أمريكيين وإيرانيين في عمان، وسط تصعيد ميداني خطير في غزة، وعدوان أمريكي سافر على اليمن، وتهديدات إسرائيلية بضربات محتملة ضد طهران. هذا التزامن لا يبدو عرضيًا، بل يعكس إعادة رسم خطوط التماس والتحالفات، في وقتٍ يفرض فيه الانفجار الإقليمي تساؤلات مصيرية: من سيملك زمام المبادرة؟ ومن سيكون الهدف القادم في مشروع "إسرائيل الكبرى" المدعوم أمريكيًا ؟
أجندات توسعية
ما زال الكيان الصهيوني المحتل، مدفوعًا بدعم أمريكي غير مشروط، يواصل فرض أجندته التوسعية الإحتلالية في المنطقة، متجاوزًا بذلك كل الخطوط الحمراء السياسية والجغرافية.
ومع أن العدوان على غزة يُظهر أبشع ظواهر هذه السياسات الفاشية، إلا أنه ليس إلا رأس جبل الجليد لمشروع إسرائيلي أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، بما يهدد المصالح الكبرى للقوى الإقليمية والدولية على حد سواء.
زيارة بنيامين نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن كشفت عن أزمة ثقة متبادلة بين الحليفين الاستراتيجيين. فقد خرج نتنياهو من البيت الأبيض دون وعود ملموسة أو مخرجات حقيقية، بعدما اصطدمت طموحاته الإقليمية بجدار أمريكي صامت، على الأقل ظاهريًا.
في مؤشر على فتور غير مسبوق في العلاقة، وخصوصاً في ظل تباينات بين الإدارة الأمريكية وحكومة الاحتلال حول إدارة الحرب على غزة، والتصعيد ضد اليمن، ومستقبل القطاع بعد انتهاء العمليات العسكرية، واستهداف الجنوب اللبناني، واحتلال الجنوب السوري، وتهديد إيران.
هذا التزامن بين إخفاق دبلوماسي إسرائيلي وتحرك تفاوضي أمريكي-إيراني، لا يمكن قراءته خارج سياق الانفجار المتسارع في الإقليم، من غزة إلى البحر الأحمر، مرورًا بالجبهات الشمالية والجنوبية في لبنان وسوريا والعراق.
زيارة نتنياهو للبيت الأبيض كانت في ظاهرها محاولة لاستثمار الدعم الأمريكي التقليدي للكيان المحتل، وفي باطنها محاولة لفرض شروط المحتل على ما بعد الحرب في غزة، وخصوصاً في ما يتعلق بالمستقبل السياسي للقطاع و"تفريغ" المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني. غير أن الفتور الأمريكي، وانعدام البيان المشترك، وغياب الضغوط على القاهرة والدوحة لتليين موقف المقاومة، كلّها مؤشرات على تراجع زخم الدعم غير المشروط، ولو بشكل تكتيكي، في ظل قلق واشنطن من انفجار إقليمي لا يمكن ضبطه، وخصوصًا مع دخول إيران بقوة على خط المعادلة.
لقاء عمان
لقاء عمان ربما يعكس إدراكًا أمريكيًا بأن إدارة التوتر مع إيران أصبحت أولوية أمنية. فمع تهديدات تل أبيب بتوجيه ضربة مباشرة لطهران، مع انحسار قدرات محور المقاومة في أكثر من ساحة، باتت واشنطن تدرك أن احتواء طهران قد يكون أقل كلفة من إطلاق رصاصة بداية حرب لا أحد يعرف متى تنتهي.
هذه المحادثات، إذا ما تأكدت، قد تحمل صيغة شروط أمريكية، لتجميد البرنامج النووي الإيراني، وانتاج الصواريخ الاستراتيجية، أي ضبط التصعيد مقابل كبح جماح نتنياهو. لكنها أيضاً تحمل في طياتها إشارات واضحة إلى إسرائيل بأن القرار الأمريكي لم يعد أسير الرؤية الإسرائيلية فقط، بل بات يُدار بمنطق المصالح الاستراتيجية الشاملة، التي تشمل أمن الطاقة العالمي، وطمأنة الحلفاء في الخليج، واحتواء روسيا والصين.
وفي موازاة هذه التحركات، يعمل الصهاينة على ترجمة فكرة "إسرائيل الكبرى" من مشروع أيديولوجي إلى خطوات عملية للتطهير العرقي في غزة، وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، ومحاولات تطبيع علاقات مفروضة مع أنظمة عربية، ومقترحات وقحة مثل، تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن. كما تواصل واشنطن وتل أبيب تحركاتهما الهادفة إلى تقويض الجيوش الإقليمية والمقاومة الوطنية، وفرض قواعد اشتباك جديدة، للسيطرة على المنطقة، واخضاعها لنفوذها الاستعماري الجديد. ولعل التهديد الأكثر خطورة يكمن في التحضيرات الجارية لضربة محتملة ضد إيران، وهو ما يعني فتح جبهة غير مسبوقة قد تتوسع إلى الخليج والعراق واليمن ولبنان دفعة واحدة.
اللافت أن التوتر لا يقتصر على فلسطين، فهناك تحضيرات إسرائيلية مكثفة لتوجيه ضربة محتملة لإيران، ما يُنذر بتصعيد قد يجر المنطقة إلى حرب شاملة، تتزامن مع مساعٍ إسرائيلية لتقويض أدوار تركيا في سوريا، ضمن استراتيجية قائمة على إضعاف المحاور الإقليمية البديلة.
وفي هذا السياق، يبدو أن التحول الذي تقوده إسرائيل لا يهدف فقط إلى تحييد خصومها، بل إلى تفكيك كل ما تبقى من النظام الإقليمي العربي والإسلامي، في ظل غياب مشروع إقليمي مضاد، باستثناء محاولات فردية لا ترقى إلى مستوى التنسيق الجماعي المطلوب. وبينما تواصل الولايات المتحدة تقديم الغطاء الكامل لإسرائيل، فإنها في الوقت ذاته تفرض قيودًا على حلفائها العرب وتوجه ضربات دبلوماسية لأي طرف يحاول التغريد خارج سرب مصالحها الاستراتيجية، مما يضع مستقبل التحالفات التقليدية موضع تساؤل.
تحالف إقليمي
في ظل هذا المشهد المعقّد، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحالف إقليمي حقيقي يُعيد التوازن المفقود، تحالف لا يقوم على التبعية أو المصالح الآنية، بل على رؤية استراتيجية تقوم على توازن الردع وحماية السيادة الإقليمية. تحالف يضم دولاً كبرى -في حال تخطت خلافاتها البينية-، ليشكّل جدار صد أمام المشروع الإسرائيلي ويمنع المنطقة من الانزلاق نحو فوضى شاملة تخدم أجندة القوى الخارجية فقط.
سياسة التبعية والارتهان لم تعد تجدي نفعًا، والتاريخ لا يرحم من يتأخر عن بناء قوته في الوقت المناسب. والمشروع الإسرائيلي لم يعد خفيًا، بل بات يُعلن عنه صراحة في تصريحات قادة الاحتلال.
وفي سياق هذا التمدد والاحتلال للأراضي العربية وتوسيع المستوطنات وغياب مظلة ردع حقيقية، يبرز سؤال مركزي: هل يمكن للمنطقة أن تستمر في سياسة رد الفعل؟ الجواب المنطقي يقول لا. فمن دون بناء تحالف إقليمي حقيقي، يجمع القوى الكبرى في الإقليم، فإن المنطقة ستظل رهينة لابتزاز صهيوأمريكي أوروبي، لنهب الثروات ودفع المليارات، وتوريد الأموال بالقوة إلى البنوك الأجنبية.
هذا التحالف لن يكون سهلًا، فالتباينات عميقة، لكن الخطر الإسرائيلي لم يعد انتقائيًا، بل تحول إلى تهديد شامل لكل من لا يدور في فلك المشروع الصهيوني. وحين تدرك العواصم العربية والإسلامية أن ما يجمعها في مواجهة الخطر أكبر مما يفرقها، فإن باب التاريخ قد يُفتح على مرحلة جديدة من التوازن الاستراتيجي.
الشرق الأوسط يقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي: إما الاستمرار في الارتهان للتوازنات المفروضة من الخارج، أو صياغة توازن جديد من الداخل، يفرض على القوى الكبرى إعادة حساباتها. فشل نتنياهو في واشنطن، ولقاء عمان، ليسا إلا إشارتين من إشارات كثيرة على أن المسرح السياسي يتغير. ولكن هذا التغيير لن يصب في صالح الشعوب والدول المحورية، ما لم تبادر هذه الدول إلى تحصين نفسها بتحالفات واعية، واستراتيجيات عابرة للمصالح الضيقة.
الكيان المحتل دخل مرحلة المجاهرة بمشروعه، ولم يعد يخشى إعلانه أحد، بل أصبح يجاهر بالتحدي والتفوق، والسيطرة والنفوذ على المنطقة، فماذا أنتم فاعلون ؟