
عرب جورنال / كامل المعمري -
في أروقة العواصم الأوروبية، يتردد صدى أسئلةٍ لم يجرؤ أحد على طرحها من قبل هل لا تزال واشنطن ترى في أوروبا حليفا، أم أن التحالف العابر للأطلسي بات مجرد إرث ثقيل لم يعد ينسجم مع أولويات البيت الأبيض؟ من الرياض إلى موسكو، ومن كييف إلى باريس، ترتسم ملامح نظام عالمي يُعاد تشكيله ولامكان لأوروبا فيه... محادثاتٌ سرية، صفقاتٌ تُبرم خلف الأبواب المغلقة، ووعودٌ تتبخر مع تبدل المصالح. وبينما تُلقي واشنطن نردها على طاولةٍ جديدة، تُدرك أوروبا أنها لم تُدعَ إلى اللعبة هذه المرة.
لقد كان التحالف الأطلسي لسنواتٍ طويلة حجر الزاوية في السياسة الغربية، لكن الرياح القادمة من واشنطن تحمل معها رائحة التغيير.. تغييرٌ قد يضع أوروبا أمام لحظةٍ لم تستعد لها بعد
وهي أن تواجه العالم وحدها، أو أن تظل ظلا باهتا لقرارٍ أمريكي لا مكان لها في صياغته. فهل نشهد نهاية عصر التبعية الأوروبية؟ أم أن القارة العجوز ستجد نفسها عالقةً بين واشنطن التي تتخلى عنها، وموسكو التي لا تثق بها؟
محادثات الرياض، تلك التي دارت بين واشنطن وموسكو بعيدًا عن عيون الشركاء الأروبين كانت بمثابة صفعة دوّت في أروقة بروكسل وباريس. أوروبا، التي طالما ظنّت نفسها نجمة الرواية، وجدت نفسها كومبارسا نُسي دوره، تطل من شقوق الستار على مسرح لم تدعَ إليه،
وبينما تقف القارة العجوز أمام مرآة الجيوسياسيا، تجد صورتها مشوهة، تتساءل بصوت يرتجف أين مكاني في هذا العالم ؟ إنه فصلٌ جديدٌ من الدراما الدولية، يمتزج فيه الطموح الأمريكي بالبراغماتية الروسية، ويُترك فيه الأوروبيون كشاهدٍ أخرس على مأساتهم
واشنطن تُشعل النرد
ترامب، بقلبه التاجر وعقله الذي يحسب الأرباح قبل المبادئ، يبدو كمن قرر قلب الطاولة دون أن يُخبر اللاعبين. المصالحة مع روسيا، ربما على جماجم أوكرانيا، إعلان عن موت النظام القديم وميلاد آخر لا نعرف ملامحه بعد... يهمسون عن "كيسنجر معكوس"، خطة لانتزاع موسكو من أحضان بكين بثمنٍ قد يكون رفع العقوبات أو الاعتراف بأرض مغتصبة. فكرةٌ تلمع كالماس في الظلام، لكنها كمن يرقص على حبلٍ فوق هاوية. إن نجحت، فقد تُصبح روسيا جسرًا لا جدارًا، لكن إن تعثرت، فإن واشنطن ستكون قد أحرقت جسورها مع أوروبا، وأشعلت نارًا لا تُطفأ.
لكن دعونا نتوقف قليلاً. هل يمكن لروسيا، تلك القوة التي عاشت في عزلةٍ منذ ضمّها القرم، أن تثق بيدٍ أمريكية تمتد إليها بعد سنواتٍ من العداء؟ وهل ستُقبل الصين، التي ترى نفسها كقطبٍ صاعد، أن تُترك وحيدة في مواجهة هذا التقارب؟
ترامب يحلم بمصافحة بوتين ليضرب بها وجه الصين، لكن الحلم قد ينتهي بصفعه هو نفسه". الفكرة التي يروج لها ترامب ليست جديدة، بل هي محاكاة معكوسة لما فعله كيسنجر في السبعينيات، حين فتح الباب أمام الصين ليضعف بها الاتحاد السوفييتي... لكن الزمن تغير، واللاعبون لم يعودوا يقرأون من نفس النص.
روسيا والصين اليوم شريكتان في مشروع يتجاوز المصالح التكتيكية إلى نوع من التوافق الاستراتيجي العنيد... تجارتهما تنمو، وتعاونهما العسكري يتسع، وكلاهما يرى في الولايات المتحدة خصمًا يستحق الحذر. بوتين، الذي قد يراه ترامب "رجل صفقة" على طريقته، ليس ذلك الشريك الذي يمكن أن يُعتمد عليه في لعبة طويلة الأمد. الرجل يجيد المناورة، لكنه لا ينسى أن لديه حساباته الخاصة، وأولها أن الصين بالنسبة له ليست عدوًا بل رافعة. أي تحالف أمريكي-روسي سيصطدم بهذه الحقيقة: موسكو لن تضحي بعلاقتها مع بكين من أجل عيون واشنطن، لا سيما أنها تجد في الصين سندًا ضد العقوبات الغربية التي تكبّلها منذ سنوات.
أوروبا الغضب الصامت والحيرة الوجودية
في عواصم أوروبا، من برلين إلى باريس، يتردد صدى صرخةٍ مكبوتة: "كيف تُركنا خارج الحساب؟". استبعاد أوكرانيا من حلم الناتو، وتصريحات وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث التي أغلقت الباب أمام أي دورٍ عسكري مباشر في الأزمة الأوكرانية، وضعت القارة العجوز في مأزقٍ لا تُحسد عليه. لقد كانت أوروبا، لعقودٍ طويلة، تعيش تحت مظلة واشنطن كطفلٍ يتكئ على كتف والده، لكن اليوم، وبينما تُسحب تلك المظلة ببطءٍ مخادع، تجد نفسها عارية أمام عاصفةٍ لا تُبقي ولا تذر.
خطة الدفاع الأوروبية، تلك المبادرة الطموحة التي تُقدر بـ840 مليار دولار، تبدو كحلمٍ جميلٍ على الورق، لكنه حلمٌ يصطدم بجدار الواقع.. شعوبٌ متعبة، تئن تحت وطأة التضخم وأزمات الطاقة، لن تُقبل بسهولة أن تُضحي برفاهيتها من أجل ترسانةٍ عسكرية لا ترى فيها سوى عبءٍ إضافي.
إيمانويل ماكرون، بطموحه الذي لا يعرف الحدود، يحاول أن يرسم صورةً لأوروبا كقوة ردعٍ مستقلة، ملوحًا بتوسيع الترسانة النووية الفرنسية كمظلةٍ تحمي القارة. لكن دعونا نكن صرحاء
هل يمكن لفرنسا وحدها أن تتحمل هذا العبء؟ وهل ستُقبل دولٌ كألمانيا وبولندا أن تعيش تحت ظلٍ نووي فرنسي دون أن تطالب بصوتٍ في القرار؟ إنها معضلةٌ أعمق من مجرد أرقامٍ وصواريخ، إنها أزمة هوية.
أوروبا نسيجٌ معقدٌ من الثقافات والمصالح، وأي محاولة لتوحيدها عسكريًا قد تُفجر تلك التناقضات بدلاً من أن تُشدها...والغضب الأوروبي اليوم ليس موجها فقط إلى واشنطن، بل إلى ذاتها أيضا، لأنها لم تستطع بعد أن تجد صوتا موحدًا في مواجهة هذا التحول.
أوكرانيا الضحية التي تبحث عن مخرج
في قلب هذا الإعصار، تقف أوكرانيا كشاهدٍ على مأساتها. ثلاث سنوات من الحرب الطاحنة، آلاف الأرواح التي أُزهقت، وها هي اليوم تُترك كورقةٍ سقطت من شجرة الاهتمام الغربي. كييف، التي كانت يومًا رمزًا للمقاومة، تجد نفسها الآن في موقفٍ حرج، تُواجه مصيرًا غامضًا بعد أن أغلقت واشنطن الباب أمام طموحاتها في الناتو. لكن أوكرانيا ليست بلا حيلة. هناك تركيا، تلك اللاعبة الماكرة التي تتربص بالفرص كالنمر في الظلام.
رجب طيب أردوغان، ببراغماتيته التي لا تُضاهى، قد يجد في الأزمة الأوكرانية فرصةً لتعزيز دوره كوسيطٍ إقليمي، لكن طموحاته قد تصطدم بحدود نفوذه. أوروبا، من جانبها، قد تضطر للتعامل مع أنقرة كشريكٍ لا غنى عنه، لكن ذلك سيأتي بثمنٍ سياسي وعسكري قد لا تكون مستعدة لدفعه.
لكن دعونا نتأمل هل يمكن لتركيا أن تكون بديلاً حقيقيًا للدعم الأمريكي؟ وهل ستثق كييف بيدٍ تمتد إليها من أنقرة بعد أن خذلتها عواصم الغرب؟ إنها لعبةٌ معقدة، وأوكرانيا، بكل أسف، ليست سوى حجر شطرنج في يد لاعبين أكبر منها.
مايحدث اليوم نقطة تحولٍ قد تُعيد تشكيل النظام العالمي لعقودٍ قادمة. واشنطن، بقرارها إعادة هيكلة تحالفاتها، تراهن على رؤيةٍ جديدة، لكنها قد تفقد في هذه العملية حلفاءها التقليديين. أوروبا، إن أرادت أن تبقى لاعبًا لا مجرد متفرج، يجب أن تتجاوز مرحلة الشكوى وتبني هوية جيوسياسية خاصة بها، لكن ذلك يتطلب شجاعةً لم تُظهرها بعد. الخيارات أمامها واضحة ومؤلمة إما أن تُصبح قوةً مستقلة، ولو بثمنٍ باهظ، أو أن تظل رهينةً لأهواء واشنطن التي تبدو كسفينةٍ تائهة تبحث عن مرفأٍ جديد.
في هذا السياق، تبرز التساؤلات حول مستقبل الردع النووي الأوروبي. هل ستصبح الترسانة الفرنسية مظلةً للقارة بأكملها؟ وهل ستُقبل الدول غير النووية، كألمانيا، على هذا الخيار دون أن تطالب بحصةٍ في القرار؟ إنها لحظةٌ تاريخية، لأن أوروبا تواجه اختبارًا حقيقيًا لقدرتها على الوقوف بمفردها. لكن الواقع يقول إن الطريق إلى الاستقلال العسكري محفوفٌ بالمخاطر، من التمويل الضخم الذي قد يُثير غضب الشعوب، إلى التنافس الداخلي الذي قد يُمزق النسيج الأوروبي قبل أن يُشكل.
محادثات الرياض كانت بمثابة إشارةٌ إلى أن التحالف الأطلسي، كما نعرفه، يقترب من نهايته. واشنطن، بقرارها إعادة التواصل مع موسكو، قد تكون فتحت بابا جديدًا للعلاقات الدولية، لكنها في الوقت ذاته أغلقت نافذة الثقة مع أوروبا. الغضب الأوروبي ليس موجهًا فقط إلى الولايات المتحدة، بل إلى ذاتها أيضا، لأنها فشلت في توقع هذا التحول أو الاستعداد له.
في المقابل، تبدو روسيا كاللاعب الذي خرج من المباراة منتصرًا دون أن يبذل جهدًا كبيرًا، بينما تجد أوروبا نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه: إما أن تُعيد اختراع نفسها كقوةٍ مستقلة، أو أن تظل عالقةً في ظلٍ أمريكي يتلاشى.
لكن السؤال الأعمق يبقى هل ستنجح هذه المقاربة الأمريكية في تحقيق أهدافها؟ هل ستتمكن واشنطن من إعادة تشكيل التحالفات وفق أولوياتها الجديدة دون أن تُفقد مصداقيتها؟ وهل ستستطيع أوروبا، بكل تناقضاتها، أن تجد صوتًا موحدًا في مواجهة هذا التحدي؟ إنها أسئلةٌ لا إجابة واضحة لها بعد، لكن التاريخ يعلمنا أن اللحظات الحاسمة كهذه نادرًا ما تمر دون أن تترك ندوبًا عميقة.
واشنطن ترمي نردها على طاولةٍ غامضة، لكنها قد تُضيع في الطريق أكثر مما تكسب... أوروبا، إن أرادت أن تبقى، يجب أن تُلقي عباءة التبعية وتلبس ثوب القرار، لكن يدها ما زالت ترتجف...الخاسر الأكبر قد لا يكون طرفًا بعينه، بل النظام العالمي نفسه، الذي قد يتحول إلى ساحةٍ مفتوحة لصراعاتٍ جديدة. والتاريخ، كما نعلم، لا يرحم المترددين، ولا ينتظر من يقف على الحياد. إنه زمن الاختيارات الصعبة، والعالم يترقب، بأنفاسٍ محبوسة، من سيظل واقفًا حين تهدأ العاصفة.