
عرب جورنال/ هلال جزيلان -
في ليلةٍ من ليالي رمضان، حين تتناسخ الأقدار على شكل نكاتٍ مُرة، اجتمعت حوريات "السياسة الدولية" حول مرآةٍ مُشوَّهة، تَعرِضُ لهم مشهدًا مُكررًا: صواريخ تتهادى كفوانيسَ مُمزقة، وأطفالٌ يلعبون لعبة "البقاء" بين الركام، بينما يصرخ "العرب" من خلف الستائر: "هذه المرة سنتحرك حقًا!"... لكنهم سرعان ما يغرقون في نقاشٍ حول لون علمِ المنديل الذي سيرفعونه في قمتهم القادمة.
أما "الغرب" فيجلس كساحرٍ عجوز، يُلوِّح بعصاه السحرية (المُعطَّلة) ويُردد: "نحن قلقون للغاية!"، بينما يوقع على صفقةِ أسلحةٍ جديدةٍ مع اللاعب الرئيسي في المسرحية، المشهد يختتم بضحكةٍ هستيريةٍ من مخرجِ الكارثة، الذي قرر أن يُعيدَ الكَرَّةَ بنفسِ السيناريو، لأنه يعلم أن الجمهورَ العربي سيصفقُ كالعادة، لأنه الف التخدير ككل مرة.
نساءٌ وأطفالٌ وشيوخٌ ورجالٌ آمنون، فُتحت عليهم نيرانُ جحيم في ساعةِ ليلٍ من شهر رمضان، كان كل شيءٍ يسير على وتيرته الباردة في الخيام وهياكل بيوتٍ لم تدخلها كِسرةُ خبزٍ منذ أسبوعَين، هدوءٌ ثقيلٌ يطبق على حياة المحاصرين من عامٍ ونصف، وقبلها أعوامُ المأساة في غزة تتفاوت عبر السنين ضمن دائرةٍ مغلقةٍ من الألم.
كانوا صابرين، لكن الاحتلال لم يكتفِ؛ غدرَ باطمئنانهم وركونهم إلى تهدئةٍ نسفها دون إشاراتٍ لانتهائها أو إنذارٍ، فذهب نتنياهو قبل ذلك إلى غرفة قيادته الحربية، حيث اجتمعوا وخططوا وقرروا، مصادر ذكرت أن تحديد ساعة المقتلة اتخذ يوم الاثنين، وأخرى قالت بل السبت، الأمر سيان، فقد بُتَّت النية، ثم تفاخر بها وسماها "الخديعة"، وأطلقت الطائراتُ تُفتك وتُحرق المدنيين الفلسطينيين.
لا أحلام سعيدة
بينهم مَن كان يجهز قليلًا مما يملك لسحورٍ يسبق صيامًا، ومَن نام. ولعل أكثرهم الأطفالُ الصغارُ يسهرون قليلًا ثم يغرقون في أحلامٍ سعيدةٍ ليومٍ آخر قد يصومونه إلى الظهر، كما أخبرتهم أمهاتهم قبل أن تقتحمهم وحوشٌ ليليةٌ فتذهب بهم وبِهن.
تكرار المشاهد
بعد الثانيةِ من فجر الثلاثاء، شنت طائراتُ الاحتلال غاراتٍ عنيفةً على خان يونس ودير البلح ومدينة غزة والنصيرات، ثم اتسعت إلى كل مكان، وتكررت المشاهد: رجالٌ ونساءٌ يتساقطون، شهيدٌ أو جريحٌ يُنقلون على دوابٍ، فيسقطون منها. المستشفيات العاجزة تُكابد، ويبدأ العد: 52 شهيدًا، 100، 180، 200... عند الظهر تجاوز الرقم 400 ويزيد مع استمرار القصف.
لا نصر مطلق!
هذه غزة تواجه وحدها عدوانًا مستعادًا لا تعرف غايةً ولا نهاية، فقد جُرِّب كل ذلك من قبل ولم يؤدِ إلا إلى أن التفاوض السياسي وحده طريق الحل، غير أن الاحتلال، بعد مماطلةٍ وارتدادٍ عن بنود الاتفاق المبرم حول تبادل الأسرى تمهيدًا لانسحاب قواته ووقف الحرب، يعود إليها رافعًا شعاراته الأولى: "إنهاء المقاومة" وما يسميه "إنجاز النصر المطلق".
أمة تشاهد وتألف
وتعود الأحداثُ مثل شريطٍ لا ينتهي: العرب بين مُندِّدٍ بقوةٍ أو مُعتدلٍ، بياناتُ قلقٍ هنا وتحذيراتٌ دوليةٌ هناك، ذعرُ أهالي المحتجزين الإسرائيليين الذين قالوا: "نتنياهو حكم على أبنائنا بالإعدام"، أما الفلسطينيون، الذين ما أرادوا إلا أرضهم وكرامتهم، فيجددون استنصارَ أمةٍ تتسحَّر لتصوم ثم تشاهد وتألف... ومن يألف يعتاد، هناك في غزة، نفرٌ من قومهم لا يجدون طعامًا، سحورُهم وفطورُهم موائدُ دماءٍ تقدمها إسرائيل في شهرِ الصوم.
وهكذا، تنتهي الحلقةُ الألفُ من مسلسل "غزة والذئاب"، ليبدأ جزء ثاني، بضحايا جُدد، وشخصياتٍ ترفعُ شعاراتٍ كالتي في حفلاتِ الزفاف: "الموت للاحتلال!"… لكنها تنسى أن تخلعها قبل دخولِ قاعةِ المفاوضات! العرب يُنفقون ما تبقى من كرامتهم في شراءِ "بياناتِ استنكار" مُذهبة، والغربُ يوزعُ بطاقاتِ "قلق إنساني" مع كل وجبةِ سلاحٍ يُباع.
العالم يرد ببرود
أما الفلسطينيون، فما زالوا يصرخون: "عيشٌ حريةٌ كرامة إنسانية!" بينما العالمُ يردُّ ببرود: "الكرامة أغلى من إمكانياتنا!"، المشهد الأخير: طفلٌ يلتقطُ قطعةَ خبزٍ من تحت الرماد، ويرسم عليها ابتسامةً، معلنًا فوزه بلعبةِ الحياة!!؟.