
عرب جورنال / كامل المعمري -
بعد أن ألقت البحرية الأمريكية بكل ثقلها في مياه البحر الأحمر لتواجه الحوثيين في معركة كانت أقرب إلى اختبار قدراتها منها إلى استعراض قوتها، انكشف المستور عن إشكاليات عميقة تهز أركان هذا العملاق البحري...لقد جاءت تلك المواجهة كعدسة مكبرة تكشف الصدوع في جدار التفوق الأمريكي، حيث أظهرت الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية منخفضة التكلفة عن اشكاليات استراتيجية كشفت عن هشاشة لم تكن في الحسبان
اليوم وبعد شهرين من توقف المعركة البحرية التي استمرت لأكثر من عام تقف البحرية الأمريكية أمام مرآة الواقع، تجابه تساؤلات حاسمة تتعلق بوضعها الحالي
تضم البحرية الامريكية أكثر من 340,000 فرد في الخدمة الفعلية و278 سفينة قتالية، وفقا لإحصاءات رسمية حديثة رغم هذه القوة تبين تجربة البحر الأحمر مدى استنزاف الموارد الذي تواجهه البحرية في مواجهة تهديدات مستمرة. وفقا لتقرير تاسك آند بيربوس بتاريخ 6 مارس 2025، حذر قائد بحري أمريكي من أن البحرية قد تنفد من أسلحتها في غضون أيام إذا اندلعت حرب واسعة النطاق مع قوة مثل الصين، نتيجة الاستهلاك السريع للصواريخ مثل "توماهوك" و"هاربون" في التصدي لهجمات الحوثيين على السفن التجارية. هذا الاستنزاف ليس مجرد مشكلة مؤقتة، بل يكشف عن ضعف أعمق في سلسلة توريد الذخائر.
خلال جلسة تأكيد تعيينه وزيرًا للبحرية، أقر جون فيلان بأن نقص الذخائر يشكل تهديدا مباشرا للجاهزية، مشيرا إلى أن الإنتاج الصناعي الأمريكي لم يواكب الطلب المتزايد منذ بدء الصراعات الأخيرة. يعزز هذا التقييم تقرير من "واشنطن إنستيتيوت" في نهاية 2024، الذي أشار إلى أن البحرية استهلكت ما يقارب 40% من مخزونها من الصواريخ الموجهة في غضون أشهر فقط من العمليات المكثفة في البحر الأحمر، مما يعكس هشاشة القدرة على إعادة التزود في أوقات الأزمات.
تأكل الجاهزية
مشكلة الانتشار الطويل يفاقم هذه المشكلة بسبب نقص السفن المتاحة مع وجود 11 حاملة طائرات فقط، وفقًا للقانون الأمريكي الذي ينص على الحد الأدنى لهذا العدد، غالبًا ما تكون ثلاث أو أربع منها فقط في الخدمة الفعلية، بينما تخضع الباقي للصيانة أو إعادة التزود. في البحر الأحمر، أُجبرت البحرية على إبقاء مجموعات هجومية لحاملات الطائرات لفترات طويلة، مما أدى إلى إجهاد الطواقم والمعدات ووفقًا لتقرير "تاسك آند بيربوس"، فإن هذا الانتشار الممتد أدى إلى تآكل الجاهزية القتالية بنسبة تصل إلى 20% في بعض الوحدات، حيث أصبحت السفن غير قادرة على العودة إلى القواعد للصيانة دون ترك فجوات في التغطية
نقص سفن الإمداذالإمداد
من ضمن التحديات الاستراتيجية النقص في سفن الامداد وهنا تبرز حادثة "بيغ هورن" كمثال حي على كيف يمكن لنقص سفن الإمداد أن يفاقم أزمة الجاهزية لدى البحرية الأمريكية، مما يثير تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على حضورها العسكري في مناطق الصراع الحالية والمستقبلية في 23 سبتمبر 2024، تعرضت سفينة الإمداد "يو إس إن إس بيغ هورن وهي واحدة من السفن الحيوية لتزويد الوقود والمؤن لمجموعة حاملة الطائرات "يو إس إس أبراهام لينكولن"، لحادث أدى إلى أضرار كبيرة قبالة سواحل عمان. وفقًا لتقارير شبكة "سي بي إس" و"سي إن إن"، تسببت الأضرار في غمر السفينة جزئيًا بالمياه، مما اضطرها إلى التوجه للإصلاحات في دبي بعد مرافقة زوارق سحب لها إلى الميناء. هذه السفينة كانت المزود الوحيد المتاح للوقود في المنطقة لدعم عمليات الأسطول الخامس الأمريكي، مما كشف عن نقطة ضعف خطيرة في القدرات اللوجستية.. الحادثة عطلت عمليات "أبراهام لينكولن"، التي كانت تعمل في خليج عمان لردع إيران، مما دفع البحرية للبحث عن سفن تجارية بديلة لتأمين الوقود
هذا الوضع يزداد سوءًا مع نقص سفن الإمداد اللوجستية، التي لا تتجاوز عددها 30 سفينة، وهو عدد غير كافٍ لدعم عمليات متعددة الجبهات. أشار "واشنطن إنستيتيوت" إلى أن إعادة توجيه السفن التجارية بسبب هجمات الحوثيين كشفت عن عجز البحرية في ضمان استدامة العمليات البعيدة عن القواعد الرئيسية.
نقص الطواقم
ضعف الإقبال على التجنيد يشكل تهديدا آخر. تشير تقارير من مراكز أبحاث أمريكية، مثل "معهد بروكينغز"، إلى أن البحرية فشلت في تحقيق أهداف التجنيد لثلاث سنوات متتالية حتى 2024، حيث انخفض عدد المجندين بنسبة 15% عن المطلوب. يعزى ذلك إلى المنافسة مع القطاع الخاص، الذي يقدم رواتب أعلى واستقرارا أكبر، إلى جانب تغير اهتمامات الشباب الأمريكي بعيدًا عن الخدمة العسكرية. هذا النقص يؤثر بشكل مباشر على تشغيل الأنظمة المتطورة، مثل أنظمة الدفاع الصاروخي "إيجيس"، التي تتطلب أفرادًا مدربين بمهارة عالية.
في البحر الأحمر، أدى نقص الطواقم إلى زيادة ساعات العمل للأفراد الحاليين، مما تسبب في ارتفاع معدلات الإرهاق وانخفاض الروح المعنوية، وهو ما وثقته تقارير داخلية للبحرية تم تسريبها إلى وسائل الإعلام.
الحرب غير المتكافئة، كما تجلت في البحر الأحمر، تكشف عن تحدٍ إضافي... استخدم الحوثيون طائرات مسيرة رخيصة التكلفة وصواريخ باليستية منخفضة الثمن لاستهداف السفن الأمريكية والتجارية، مما أجبر البحرية على الرد بأسلحة باهظة الثمن مثل صواريخ "SM-6" التي تكلف حوالي 4 ملايين دولار لكل وحدة. هذا التباين في التكلفة يجعل الدفاع مكلفًا بشكل غير مستدام، كما أشار تقرير "الجزيرة نت" في يوليو 2024، ان العمليات الأمريكية كانت تكلف ملايين الدولارات في اليوم الواحد... هذا النوع من الحروب يكشف عن ضعف الاستراتيجية الأمريكية التقليدية التي تعتمد على التفوق التكنولوجي، مما يثير تساؤلات حول قدرتها على مواجهة خصوم يعتمدون على تكتيكات غير تقليدية.
مشكلة الاستدامة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنقص سفن الإمداد. مع وجود أقل من 30 سفينة لوجستية لدعم أسطول يعمل عبر المحيطات، تواجه البحرية صعوبات في توفير الوقود والمؤن والذخائر للسفن في الميدان. في البحر الأحمر، اضطرت السفن إلى الاعتماد على قواعد بعيدة مثل البحرين أو جيبوتي، مما زاد من وقت الانتظار وقلل من الكفاءة القتالية. وفقًا لتحليل "واشنطن إنستيتيوت"، فإن نقص هذه السفن يعني أن أي نزاع طويل الأمد سيؤدي إلى توقف العمليات بسبب انقطاع الإمدادات، خاصة إذا كانت الجبهات متعددة، كما في حالة مواجهة محتملة مع الصين في المحيط الهادئ بينما تستمر التهديدات في الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التأخر في تطوير أنظمة جديدة يزيد من الضغط على الأسطول الحالي. على سبيل المثال، برنامج السفن القتالية الساحلية (LCS)، الذي كان يهدف إلى توفير سفن خفيفة وسريعة، واجه فشلاً كبيرًا بسبب مشكلات ميكانيكية وتكاليف صيانة مرتفعة، مما أدى إلى سحب العديد من هذه السفن من الخدمة قبل الأوان، كما وثقت "تاسك آند بيربوس" في تقرير سابق. هذا الفشل ترك البحرية بدون بديل فعال لتغطية العمليات في المياه الضحلة أو المناطق الساحلية، وهي سيناريوهات محتملة في أي نزاع مستقبلي.
في ضوء هذه التحديات، يمكن القول إن البحرية الأمريكية، رغم قوتها الهائلة، ليست في وضع مثالي لخوض معركة جديدة مماثلة لتلك التي خاضتها في البحر الأحمر لاسباب عديده منها نقص الذخائر يحد من قدرتها على الصمود في مواجهة هجمات مكثفة، بينما تعيق استراتيجية بناء السفن والانتشار الطويل قدرتها على الانتشار بفعالية عبر مسارح متعددة. ضعف التجنيد يهدد جاهزية الطواقم، والحرب غير المتكافئة تكشف عن نقاط ضعف في الرد على التهديدات منخفضة التكلفة. أخيرًا، نقص سفن الإمداد يجعل الاستدامة هدفًا بعيد المنال في عمليات طويلة الأمد. لاستعادة الجاهزية الكاملة،فإن قدرة البحرية على مواجهة التهديدات المستقبلية، سواء من قوى كبرى مثل الصين أو قوات صاعدة نظامية مثل الحوثيين، ستظل موضع شك كبير في عام 2025 وما بعده.
بالنظر إلى الوضع الحالي في مارس 2025، واستنادًا إلى المعلومات المتاحة من مصادر موثوقة مثل تقارير "تاسك آند بيربوس" و"واشنطن إنستيتيوت" وتحليلات حديثة منشورة، يمكنني تقديم إضافات جديدة تتعلق بالإشكاليات التي تواجه البحرية الأمريكية، مع التركيز على التحديات الناشئة التي قد تؤثر على جاهزيتها لخوض معارك مستقبلية، بما في ذلك تلك المشابهة لعمليات البحر الأحمر في 2024. سأتناول هذه الإضافات دون تقسيمها إلى عناوين فرعية، مع تعزيز التحليل بأدلة واقعية حديثة.
إحدى الإشكاليات الجديدة البارزة هي التأخر في دمج التقنيات الحديثة مثل الأنظمة غير المأهولة تحت الماء والسطحية. على الرغم من تسليم البحرية أول نظام "أوركا" غير المأهول كبير الحجم في ديسمبر 2024، كما أوردت "الجزيرة نت"، فإن التقدم في نشر هذه الأنظمة لا يزال بطيئًا. هذه الوحدات، التي وعدت بتعزيز القدرات الاستخباراتية والقتالية، تواجه تحديات في التكامل مع الأسطول الحالي بسبب نقص البنية التحتية الداعمة على السفن القائمة، مثل أنظمة الطاقة والتبريد اللازمة لتشغيلها. تقرير من "واشنطن إنستيتيوت" في يناير 2025 أشار إلى أن التأخير في تطوير هذه التقنيات قد يضعف قدرة البحرية على مواجهة تهديدات متطورة مثل الغواصات الصينية الحديثة أو الطائرات المسيرة الإيرانية الصنع التي تستخدمها جماعات مثل الحوثيين.
التحدي الآخر هو الضغط المتزايد على الميزانية بسبب التكاليف المتضخمة لبرامج بناء السفن الجديدة. وفقًا لتحليل مكتب الميزانية في الكونغرس (CBO) في يناير 2025، فإن خطة بناء السفن لعام 2025 تتطلب متوسط تكلفة سنوية يبلغ 40.1 مليار دولار على مدى ثلاثة عقود، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 46% عن مستويات التمويل الحالية.
هذه الزيادة تأتي في وقت تواجه فيه البحرية ضغوطًا مالية للحفاظ على السفن الحالية، خاصة بعد الإنفاق الكبير على عمليات البحر الأحمر التي استهلكت جزءًا كبيرًا من المخزونات الذخيرة. تقرير "تاسك آند بيربوس" في فبراير 2025 أشار إلى أن تكلفة إعادة بناء مخزون الصواريخ مثل "SM-6" قد تضاعفت بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام ونقص العمالة في الصناعات الدفاعية، مما يضع البحرية أمام خيار صعب بين تحديث الأسطول وإعادة التزود بالذخائر.
مشكلة جديدة أخرى تتعلق بالتهديدات السيبرانية المتزايدة على السفن الحربية. مع انتقال البحرية نحو اعتماد السفن "المحددة بالبرمجيات"، كما وصفها تقرير "وور أون ذا روكس" في فبراير 2025، أصبحت الأنظمة الرقمية على متن السفن هدفًا للهجمات الإلكترونية. في البحر الأحمر، أبلغت مصادر عسكرية عن محاولات متكررة من جماعات مدعومة إيرانيًا لاختراق أنظمة الاتصالات على المدمرات الأمريكية، مما أثار مخاوف من أن أي ضعف في الأمن السيبراني قد يعطل عمليات القتال في الوقت الحقيقي. هذا التهديد يتطلب استثمارات كبيرة في تحديث الأنظمة، لكن البحرية تعاني بالفعل من نقص الموارد البشرية المؤهلة في مجال التكنولوجيا الرقمية، حيث أشار تقرير داخلي إلى أن أقل من 10% من الأفراد لديهم تدريب متقدم في هذا المجال.
التدهور في البنية التحتية للأحواض الجافة والمرافق الصناعية يمثل إشكالية إضافية. تقرير من "نيوز أوف يو إس إن آي" في يناير 2025 أشار إلى أن العديد من الأحواض الجافة الأمريكية، التي يعود تاريخها إلى منتصف القرن العشرين، لم تعد قادرة على استيعاب السفن الحديثة مثل حاملات الطائرات من طراز "فورد". هذا التدهور أدى إلى تأخيرات في صيانة السفن العائدة من عمليات مكثفة مثل تلك في البحر الأحمر، مما يقلل من عدد السفن الجاهزة للانتشار في أي وقت. على سبيل المثال، أُجبرت المدمرة "يو إس إس رالف جونسون" على البقاء في الميناء لأشهر إضافية في أوائل 2025 بسبب عدم توفر حوض جاف مناسب، مما يعكس أزمة أوسع في القدرة الصناعية.
أخيرًا، هناك تحدٍ ناشئ يتعلق بالمنافسة مع القوى العظمى الأخرى على الموارد البحرية. مع توسع الصين لأسطولها ليصل إلى 395 سفينة بحلول نهاية 2025، كما ذكر تقرير "إيفري سي آر إس" في أغسطس 2024، أصبحت البحرية الأمريكية مضطرة لتخصيص المزيد من الموارد لمنطقة المحيط الهادئ، مما يقلل من قدرتها على التركيز على مناطق أخرى مثل البحر الأحمر. هذا التحول يترك فجوات في التغطية، خاصة مع تزايد التهديدات من روسيا في البحر الأسود وإيران في الخليج العربي، مما يضع ضغطًا إضافيًا على الأسطول المحدود بالفعل.
في الختام، تضيف هذه الإشكاليات الجديدة - التأخر في التكنولوجيا غير المأهولة، الضغوط المالية، التهديدات السيبرانية، تدهور البنية التحتية، والمنافسة الاستراتيجية - أبعادًا معقدة إلى التحديات التقليدية التي تواجهها البحرية الأمريكية.
وهكذا، تجد البحرية الأمريكية نفسها عارية أمام مرآة البحر الأحمر، حيث لا المجد القديم يشفع لها، ولا الميزانيات المتضخمة تعيد إليها بريقها المفقود. كانت المواجهة الأخيرة في الأحمر اختبارًا قاسيا، ليس فقط لمدى قدرة المدمرات على اعتراض الصواريخ المسيرة، بل لكامل المنظومة التي لطالما تباهت بقدرتها على السيطرة على المحيطات. وما كشفت عنه هذه المعركة، ليس فقط استنزاف في الذخائر، بل استنزاف في الفكرة ذاتها: أن التفوق الأمريكي في البحر لم يعد حقيقة مطلقة، بل رواية تتآكل مع كل صاروخ ينفد، ومع كل سفينة تحتاج إلى أشهر للصيانة.
بين حرب لم تكتمل، وأسلحة قد لا تكفي لحرب قادمة، تبدو البحرية الأمريكية عالقة في منتصف الطريق بين أسطورة الماضي وحقائق الحاضر. فهل تعيد ترتيب أوراقها قبل أن يأتي اختبار أعنف، أم أن البحر – كعادته – سيبتلع من لم يفهم قوانينه الجديدة؟