
عرب جورنال / توفيق سلاَّم -
يشهد العالم تحولات متسارعة تعيد تشكيل موازين القوى، في ظل تراجع الهيمنة الغربية التقليدية وصعود قوى جديدة تسعى إلى إعادة ترتيب النظام العالمي. في قلب هذه التغيرات، يظل الشرق الأوسط ساحة للصراع الجيوسياسي، حيث تتقاطع المصالح الإقليمية والدولية في مشهد معقد يختزل جوهر الصراع على النفوذ والموارد.
تصريحات ترامب ليست عابرة
في أعقاب إعادة انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة، أدلى دونالد ترامب بتصريحات مثيرة للجدل حول قطاع غزة، إذ دعا إلى تهجير سكانه إلى دول مجاورة مثل مصر والأردن. توقيت التصريح جاء بالتزامن مع الإتفاق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. واعتبر غزة "مكانًا مدمرًا" بعد الحرب الإسرائيلية، وزعم أنه يريد "إعادة بناء" القطاع بطريقة مختلفة، لكنه أشار أيضًا إلى إمكانية "نقل" سكانه إلى مواقع أخرى لضمان سلامتهم، وفقًا لتعبيره. وهذا مخطط أمريكي- صهيوني لاستئناف الحرب من جديد، بعد استعادة الأسرى.
ردود الأفعال
الفلسطينيون، وعلى رأسهم الفصائل المقاومة، رفضوا بشكل قاطع تصريحات ترامب، واعتبروا أنها تأتي ضمن المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تفريغ غزة من سكانها. حركة حماس شددت على أن الفلسطينيين لن يقبلوا بأي مخططات تهدف إلى تهجيرهم، حتى لو تمت تغليفها تحت عناوين إعادة الإعمار أو تحسين الظروف المعيشية. كما أكدت الجهاد الإسلامي أن هذه التصريحات "تتماهى مع أسوأ أجندات اليمين الصهيوني". أما على الصعيد العربي، فجاء الرد المصري والأردني حازمًا، حيث أكدت القاهرة تمسكها بحل الدولتين، ورفض أي تهجير قسري للفلسطينيين، في حين شددت الأردن على أن استقبال المزيد من اللاجئين الفلسطينيين ليس خيارًا مطروحًا.
الموقف الإسرائيلي والدولي
داخل إسرائيل، لاقت تصريحات ترامب ترحيبًا من قبل شخصيات يمينية متطرفة، حيث دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى تحويل الفكرة إلى "خطة عمل"، معتبرًا أنها فرصة ذهبية يجب استغلالها. كما رحب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بهذه التصريحات، معتبرًا أنها تتوافق مع طموحات اليمين الإسرائيلي في "إفراغ" غزة. وعلى الصعيد الدولي، نددت الأمم المتحدة بهذه التصريحات، حيث اعتبرت المقررة الخاصة بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، أن أي محاولة لتهجير الفلسطينيين تعد "تطهيرًا عرقيًا غير قانوني وغير أخلاقي".
تصريحات ترامب ليست مجرد موقف عابر، بل تعكس استمرار الانحياز الأمريكي للمخططات الصهيونية في المنطقة. فبينما يحاول الكيان الإسرائيلي فرض واقع جديد على غزة بما يسمى اليوم التالي، وإعادة تموضع الجيش، تأتي هذه التصريحات لتوفر غطاءً سياسيًا لهذه السياسات. كما أن توقيت التصريحات—بعد فوز ترامب بالرئاسة مجددًا—يشير إلى احتمال تبني الإدارة الأمريكية القادمة لسياسات أكثر تطرفًا تجاه القضية الفلسطينية، ما يزيد من تعقيد الأوضاع في المنطقة. وفي ظل هذا الوضع، من المرجح أن يشهد الملف الفلسطيني-الإسرائيلي مزيدًا من التصعيد، سواء على المستوى الدبلوماسي أو الميداني. ويرى محللون سياسيون تصريحات ترامب امتدادًا لرؤية استعمارية تهدف إلى إعادة إنتاج نكبة فلسطينية جديدة، عبر التهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها. هذه الرؤية تعكس التقاطع الأمريكي-الإسرائيلي حول استراتيجية السيطرة على المنطقة، حيث تسعى واشنطن إلى فرض معادلات جديدة تضمن استمرار نفوذها، بينما يستخدم المحتل سياسات الإبادة والتطهير العرقي كأدوات لتحقيق أهدافه التوسعية. هذه الاستراتيجيات، تستند إلى منطق القوة، لكنها تصطدم بتغيرات بنيوية في النظام العالمي، حيث لم يعد النفوذ الأمريكي بلا منازع، في ظل صعود الصين وروسيا، وتوجه العديد من الدول نحو سياسات أكثر استقلالية، تبحث عن علاقات تعاون متكافئة وشراكات اقتصادية جديدة تُنهي عقودًا من التبعية المطلقة للغرب. ولم يكن تصريح ترامب حول تهجير سكان غزة سوى انعكاس لنهج استراتيجي أوسع، حيث تدرك الولايات المتحدة أن استمرار نفوذها في الشرق الأوسط يعتمد على ترسيخ الفوضى وإبقاء المنطقة تحت وطأة الصراعات الدائمة. فمع صعود قوى منافسة مثل الصين وروسيا، أصبحت الهيمنة الأمريكية في حالة تآكل تدريجي أو على الأقل عدم رضا، مما يدفع واشنطن إلى إعادة تكييف سياساتها لتعزيز حضورها عبر دعم الأنظمة الحليفة وتقويض أي محاولات لتفكك النفوذ الغربي وتقليص هيمنة الدولار، في التبادلات التجارية بين مجموعة "بريكس" على طريق التفكير بعملة موحدة بين دول المجموعة، وهو ما يزيد من قلق الإدارة الأمريكية.
في المقابل، تسعى الصين إلى ترسيخ وجودها عبر مبادرة "الحزام والطريق"، التي تربطها بشبكة اقتصادية وتجارية عالمية تخلق بديلًا عمليًا للنظام المالي الذي تقوده واشنطن. أما روسيا، فرغم العقوبات الغربية ومحاولات عزلها، تواصل تعزيز نفوذها من خلال التحالفات مع دول الشرق الأوسط وإفريقيا، مدفوعة بسياستها القائمة على التعددية القطبية وكسر الاحتكار الغربي للقرار الدولي.
هذا المشهد يفرض معادلات جديدة، على دول عديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية نحو تنويع تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية، عبر الانفتاح على الصين وروسيا، في خطوة تعكس رغبة بتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، التي لم تعد شريكًا يمكن الوثوق به كما كان في العقود الماضية. أما أوروبا، التي لطالما كانت جزءًا من الهيمنة الغربية، فتواجه أزمات متصاعدة، من ارتفاع التضخم والركود الاقتصادي إلى تصاعد النزعات القومية المتطرفة، ما يجعل قدرتها على لعب دور فاعل في النظام الدولي محل تساؤل. هذه التحديات تدفع بعض الدول الأوروبية إلى البحث عن مسارات جديدة تعزز استقلالها الاستراتيجي، كما يظهر في التقارب الفرنسي-الصيني أو محاولات ألمانيا تعزيز علاقاتها مع القوى الصاعدة خارج الإطار الأمريكي التقليدي.
غزة: النكبة الجديدة
في خضم هذه التغيرات الدولية، تبقى غزة مثالًا صارخًا على الوجه الأكثر وحشية للنظام العالمي. فالدمار الهائل الذي خلفته الحرب، والمشاهد المروعة لعودة النازحين إلى مدن وبلدات تحولت إلى أطلال، يعكس حجم الجريمة المنظمة التي ارتكبت بحق السكان الفلسطينيين. فلم تعد غزة كما كانت، أصبحت بيئة محروقة غير صالحة للعيش، لا مياه، لا كهرباء، لا خدمات صحية، ولا مدارس، ولا بنية تحتية كل شيء مدمر.. مشاهد الخراب هي الصورة المأسوية، وتحت الأحياء السكنية المحطمة آلاف الجثث.. هذا الواقع ليس مجرد نتيجة لحرب مؤقتة، بل هو جزء من استراتيجية صهيونية مدعومة أمريكيًا، تهدف إلى إبادة السكان، والتنكيل بهم خارج أرضهم، وإلى جعل الحياة في غزة مستحيلة، لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة القسرية، في إعادة إنتاج ممنهجة لنكبة 1948. فالحصار والتجويع والتدمير المنهجي للبنية التحتية ليست مجرد تداعيات جانبية للحرب، بل أدوات تستخدم لإكمال مشروع التهجير الذي بدأ منذ عقود.. وبالرغم من هذا المشهد المأساوي، لا يزال الفلسطينيون يرفضون التهجير، لأنهم يدركون أن مغادرتهم تعني انتصار المشروع الصهيوني. يصرون على البقاء، حتى لو كان ذلك في خيام وسط الركام، لأن التهجير ليس خيارًا، بل استسلام لمخططات الاقتلاع الذي يسعى المحتل إلى فرضه كأمر واقع.
غياب التوازن الدولي
استمرار الولايات المتحدة في فرض رؤيتها على المنطقة يعكس غياب التوازن الدولي، حيث لا تزال واشنطن قادرة على فرض سياسات عقابية ضد أي دولة تحاول الخروج من تحت عباءتها. لكن مع تزايد التقارب بين دول الشرق الأوسط وروسيا والصين، يصبح من الممكن خلق نظام عالمي جديد، أكثر عدالة وتعددية، ينهي عقودًا من الاستفراد الغربي بالقرار الدولي.
في هذا السياق، تبرز أهمية العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين الدول الإقليمية والقوى الصاعدة، حيث يمكن لهذه الشراكات أن توفر بدائل حقيقية تقلل من الاعتماد على الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتفتح المجال أمام سياسات أكثر استقلالية، تنهي الهيمنة المطلقة وتعيد صياغة العلاقات الدولية على أسس المصالح المتبادلة.
في الأخير، تصريحات ترامب حول تهجير سكان غزة لم تكن سوى امتداد لرؤية استعمارية لم تتغير منذ عقود، لكنها في الوقت ذاته تأتي في لحظة تاريخية تشهد تحولًا في موازين القوى العالمية، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة المطلقة التي تتحكم في مصير الدول دون مساءلة. هذا التحول لن يحدث تلقائيًا، بل يحتاج إلى استراتيجيات واضحة من دول المنطقة، تعزز استقلالها الاقتصادي والسياسي، وتنخرط في تحالفات دولية تكسر احتكار القرار العالمي. فالعالم اليوم في مخاض تاريخي، بين نظام استعماري كولونيالي قديم يترنح ويتهاوى، ونظام جديد لم يولد بعد بصورة كلية، لكنه يتشكل، ويدفع بالقوى الإقليمية والدولية في هذه اللحظة التاريخية لمواجهة سياسة الهيمنة والغطرسة وتحديد شكل المستقبل لعقود قادمة. أما غزة، فستبقى جرحًا نازفًا في ضمير العالم، وشاهدًا على وحشية الاحتلال وانحياز القوى الكبرى، لكنها أيضًا ستظل رمزًا لصمود شعب يرفض أن يُمحى من الخريطة الجغرافية وحق وجوده في الحياة، وكل محاولات الاقتلاع والتهجير والتنكيل وحرب الإبادة الجماعية والحصار والتجويع، مازال يقاوم المحتل ومشاريعه الاستيطانية التوسعية.