يناير 29, 2025 - 18:58
ترامب وإعادة إنتاج النكبة برعاية أمريكية


أروى حنيش


في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، طُرحت مجددًا فكرة التهجير القسري للفلسطينيين، وهذه المرة عبر تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي دعا إلى ترحيل سكان غزة إلى مصر والأردن. هذا الطرح ليس جديدًا، بل هو امتداد لاستراتيجية صهيونية مدعومة أمريكيًا، تهدف إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها وتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى". إلا أن هذه التصريحات قوبلت برفض قاطع من مصر والأردن، حيث اعتبرتها الدولتان محاولة لتصدير الأزمة الفلسطينية إليهما، فضلاً عن كونها جريمة إنسانية تتعارض مع القوانين الدولية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. الفلسطينيون، كما هو دأبهم دائمًا، يرفضون مخططات الاقتلاع، ويعودون رغم الجراح، لتبدأ مرحلة جديدة من المعاناة التي تكشف الوجه الحقيقي للمأساة الإنسانية في غزة.


 مشروع التهجير 


دعوة ترامب لتهجير سكان غزة، ليست مجرد تصريح سياسي، بل تعكس استراتيجية ممنهجة تعمل واشنطن على تنفيذها منذ عقود، بدءًا من دعم الاحتلال عسكريًا وسياسيًا، وصولًا إلى تبني الحلول التي تضمن تفريغ الأرض من سكانها الأصليين. هذه الاستراتيجية تجلت في دعم إسرائيل خلال نكبة 1948، مرورًا بنكسات 1967 واتفاقيات أوسلو التي وضعت الفلسطينيين في مأزق سياسي، وصولًا إلى الحروب المتكررة على غزة التي تهدف إلى جعل الحياة في القطاع مستحيلة، وبالتالي دفع سكانه للبحث عن مخرج قسري.. هذه المؤامرات، رغم حجمها، تصطدم بإرادة الفلسطينيين الذين يرفضون التهجير. فعندما سمح الاحتلال بعودة بعض النازحين إلى شمال القطاع، عادوا ليجدوا أنفسهم أمام مشهد كارثي: لا مدن، لا أحياء سكنية، لا مدارس، لا جامعات، لا مستشفيات، لا بنى تحتية، فقط الحطام والركام. وكأنهم عادوا إلى سراب! فإسرائيل لم تدمر فقط الحجر، بل حاولت تدمير معنى الحياة نفسها، لتجعل من العودة رحلة في عمق المأساة، حيث اختلطت الفرحة بالحزن، والدموع بالألم، في مشهد يختصر عقودًا من القهر والمعاناة.


 الموقف المصري-  الأردني


تدرك مصر والأردن أن قبول هذه الفكرة يعني تفجير أزمة إقليمية قد تمتد لعقود، خاصة وأنها ستضع الدولتين في مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين والعالم العربي. ولهذا جاء الرفض المصري واضحًا، حيث أكدت القاهرة أنها لن تكون طرفًا في أي مخطط لتهجير الفلسطينيين، كما أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني شدد على رفض بلاده لأي محاولات تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للأراضي الفلسطينية. هذا الموقف ينبع من إدراك البلدين أن تهجير الفلسطينيين سيخلق أزمة لاجئين جديدة تهدد استقرار المنطقة، فضلاً عن أنه يخدم المخططات الإسرائيلية في تصفية القضية الفلسطينية.
لكن الموقف السياسي وحده لا يكفي، إذ تدرك إسرائيل جيدًا أن إطالة أمد الحرب والتدمير الشامل للبنية التحتية سيجعل الحياة مستحيلة في غزة، مما يدفع السكان نحو الهجرة القسرية حتى دون قرار سياسي مباشر. إنه تهجير بالقوة الناعمة، حيث يصبح البقاء في غزة أكثر قسوة من التهجير نفسه، في ظل غياب كل مقومات الحياة.


 ترامب والنهج الفاشي الأمريكي


لا يمكن النظر إلى تصريحات ترامب بمعزل عن التاريخ الأمريكي الطويل في دعم إسرائيل، حيث تعد واشنطن شريكًا رئيسًا في كل المخططات الرامية إلى إنهاء الوجود الفلسطيني. لقد سبق لترامب أن أطلق "صفقة القرن"، التي سعت إلى شرعنة الاحتلال، وها هو اليوم يعيد إنتاج نكبة جديدة عبر اقتراح ترحيل سكان غزة. هذه السياسات ليست فردية، بل هي امتداد لعقيدة أمريكية ترى في دعم إسرائيل مصلحة استراتيجية عليا، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الشعوب الأخرى.
ترامب، الذي سعى للعودة إلى البيت الأبيض، يحاول استرضاء اللوبي الصهيوني بمشاريع فاشية كاقتراح ترحيل الفلسطينيين، متجاهلًا أن القضية الفلسطينية ليست مجرد معضلة جغرافية، بل قضية شعب متجذر في أرضه، أثبت مرارًا أن محاولات اجتثاثه لا تؤدي إلا إلى مزيد من المقاومة.


 بعد العودة

رغم حجم التدمير الذي لحق بقطاع غزة، إلا أن الفلسطينيين يرفضون مغادرة أرضهم، وهو ما تجلى في مشهد عودة النازحين إلى مناطقهم المدمرة، حاملين معهم إرادة الصمود والبقاء. عادوا ليجدوا منازلهم قد سويت بالأرض، مدارس أطفالهم تحولت إلى أكوام من الخراب، مستشفياتهم لم تعد صالحة للاستخدام، وشوارعهم صارت مجرد خطوط وهمية وسط الدمار. لا ماء، لا كهرباء، لا غذاء، لا مأوى، فقط مدينة أشباح تنهشها آثار القصف والتجريف. ورغم هذه الظروف، يصر الفلسطينيون على العودة والبقاء، لأنهم يدركون أن مغادرتهم تعني انتصار المشروع الصهيوني. فبالنسبة لهم، حتى العيش تحت الركام، أفضل من العيش في منفى جديد، يعيد إليهم مشاهد نكبة أجدادهم عام 1948. لقد عادوا، لكنهم عادوا إلى فراغ قاتل، حيث لا دولة تعينهم، ولا نظام عالمي ينصفهم، بل مجرد وعود جوفاء من المجتمع الدولي، وقرارات أممية لم تُنفذ منذ عقود.. العودة إلى الشمال الفلسطيني، حتى في ظل الدمار، تعكس فشل المشروع الصهيوني القائم على التهجير، وتؤكد أن الفلسطينيين لن يسمحوا بتكرار سيناريو 1948، بل إنهم اليوم أكثر إصرارًا على البقاء والعودة إلى أراضيهم المحتلة في الضفة والقدس، وحتى الداخل الفلسطيني. المقاومة ليست فقط في ميادين القتال، بل أيضًا في التشبث بالحياة رغم كل محاولات محوها.

ختامًا، محاولات ترامب وأمثاله لإحياء مشاريع التهجير القسري لن تمر مرور الكرام، لأن الفلسطينيين، الذين خبروا النكبات والتشريد، يدركون أن بقاءهم في أرضهم هو السلاح الأهم في مواجهة هذه المخططات. وفي ظل الصمود الشعبي والرفض العربي والدولي لفكرة التهجير، يبدو أن المشروع الأمريكي-الإسرائيلي سيُهزم مرة أخرى على صخرة الإرادة الفلسطينية، التي أثبتت مرارًا أن الأرض لمن يدافع عنها، وليس لمن يحاول هندسة مستقبلها بالقوة. فغزة باقية، وفلسطين لن تكون إلا لأهلها، مهما حاولت القوى الكبرى إعادة رسم الخرائط بما يخدم أجنداتها الاستعمارية.
أما غزة، فستنهض من تحت الركام، كما نهضت مرارًا، وستعيد بناء نفسها حتى لو كان العالم كله ضدها. فالحياة في فلسطين ليست مجرد وجود، بل فعل مقاومة مستمر، لن توقفه حرب، ولن تضعفه مؤامرة.