
توفيق سلاَّم
سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وخطورة في الصراع العربي-الإسرائيلي. وهي ليست مجرد عملية استيطان أو توطين للسكان، بل مشروع استعماري ممنهج يستهدف السيطرة على الأرض، وتشويه التاريخ، وتقويض الوجود الفلسطيني. يترافق ذلك مع دعم سياسي واقتصادي غربي، مما يُرسّخ الاحتلال ويُجهض كل مساعي الحلول العادلة. وما يجري على أرض فلسطين اليوم ليس إلا استمرارًا لمسار طويل من الهيمنة الاستعمارية التي تتخفى وراء خطاب ديني وسياسي مضلل، في ظل التحولات الإقليمية والدولية، ومع تصاعد موجات التطبيع العربي مع إسرائيل بدعم أمريكي. بات المشروع الاستيطاني الإسرائيلي يكتسب زخمًا جديدًا في غياب ردع دولي حقيقي للانتهاكات الإسرائيلية وحرب الإبادة الجماعية الجماعية في قطاع غزة، الذي تحول اليوم إلى مكان غير صالح للعيش بعد الخراب والدمار.. هذه السياسة لا تُهدد فقط الحقوق الفلسطينية، بل تُعزز نظام الفصل العنصري، ما يجعل القضية الفلسطينية في مفترق طرق وجودي.
الأبعاد السياسية للاستيطان
يتخذ المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، شكلًا ممنهجًا يهدف إلى سرقة الأراضي الفلسطينية، وتكريس نظام كولونيالي كامل الهيمنة. وتستند "إسرائيل" إلى خطاب ديني زائف يُسوّق الوعد الإلهي بأرض فلسطين كحجة لشرعنة استيلائها. الحاخام ياكوف سافير مثلًا يجسد هذا الخطاب بقوله إن "الله وعد اليهود بهذه الأرض"، وهي ادعاءات دينية لا تمت للحقيقة بصلة، بل تهدف إلى تسويق أيديولوجيا استيطانية تُبرر الاحتلال والجرائم المرتبطة به. وما يحدث على الأرض يفضح الادعاء؛ فعمليات الاستيطان تشمل سلب الأراضي، تدمير البنى التحتية، تهجير الفلسطينيين قسرًا، وفرض نظام قانوني وعسكري يستثني السكان الأصليين. ووفقًا لمعطيات حديثة، فإن ما يزيد عن 60% من أراضي الضفة الغربية خاضعة للاستيطان أو مُخطط لضمها ضمن المناطق المصنفة "ج". ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو، تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية بشكل مذهل، إذ ارتفع اليوم من 200 ألف إلى ما يزيد عن 700 ألف مستوطن، مع استمرار الحكومة الإسرائيلية في تشجيع هذه الزيادة عبر حوافز اقتصادية وتسهيلات بنيوية في دعوة اليهود واستقطابهم من مواطنهم الأصلية لإعادة توطينهم في الضفة الغربية، بهدف زيادة أعداد اليهود، في معادلة ديمغرافية يتوخى منها زيادة نسبة اليهود على الفلسطينيين، وهو بالتأكيد ما يتطلب توسيع مساحة الاستيطان مع الزيادة العددية للمستوطنين، وهذا يعني التجريف والتنكيل بالسكان، وهذا ما يحدث ليل نهار مع بطشٍ مستمر يمارسه الاحتلال على سكان الضفة الغربية الذين يعانون من الاقتحامات اليومية، وتدمير المنازل، ونهب المزارع، والاعتقالات الجماعية، إلى جانب تقييد حرية الحركة والتنقل.
سياسة التجريف
سياسة التجريف وتغيير المعالم التي تتبعها إسرائيل في الضفة الغربية تستهدف بشكل أساسي مناطق استراتيجية ذات أهمية سياسية، دينية، وجغرافية. هذه السياسة تندرج ضمن مخطط أكبر للسيطرة على الأرض وفرض حقائق جديدة على الأرض تمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة. من أبرز المناطق التي شهدت عمليات تجريف وتغيير معالم:
1.القدس الشرقية وضواحيها: حي الشيخ جراح، شهد محاولات تهجير جماعي للسكان الفلسطينيين والاستيلاء على المنازل لتوسيع المستوطنات.
سلوان: منطقة استراتيجية تُستخدم لتوسيع مشاريع استيطانية مثل "مدينة داوود" وتغيير الطابع الديمغرافي للمكان. جبل المكبر وبيت حنينا: تعرضتا لتجريف منازل وبناء جدار الفصل العنصري.
2.غور الأردن: الأغوار الشمالية تتعرض لعمليات تهجير ممنهج للفلسطينيين، وتجريف للأراضي الزراعية، وإقامة مستوطنات جديدة. قرية خربة حمصة: هُدمت عدة مرات بحجة البناء دون تصريح. الجفتلك وفصايل: تشهدان تجريفًا مستمرًا للمزارع والبنية التحتية بهدف تقليص الوجود الفلسطيني.
3.جنوب الخليل: مسافر يطا: تتعرض هذه المنطقة لعمليات تهجير واسعة النطاق، حيث أُعلن عنها منطقة تدريب عسكري، ما أدى إلى هدم القرى وتجريف الأراضي. تل الرميدة والمناطق المحيطة بالحرم الإبراهيمي: تشهد محاولات متكررة لتغيير المعالم التاريخية والهيمنة الاستيطانية.
4.شمال الضفة الغربية: قرى نابلس: مثل بورين وبيتا، حيث تُجرّف الأراضي الزراعية لإقامة بؤر استيطانية مثل "إفياتار". الأغوار الشمالية (عين الحلوة والمزوقح): يتم تدمير المراعي والبنى التحتية البسيطة الخاصة بالسكان.
5.وسط الضفة الغربية:
رام الله والبيرة: تجريف الأراضي الزراعية في قريتي نعلين وبلعين لبناء الجدار العازل، الذي يقطع القرى عن أراضيها الزراعية. قرى سلفيت: مثل كفر الديك وبديا، حيث يتم الاستيلاء على الأراضي لصالح مستوطنة "أريئيل" والمستوطنات المحيطة.
6.بيت لحم وجنوبها: منطقة بيت جالا، حيث يجري تجريف أراضٍ واسعة لبناء طرق التفافية استيطانية. قرى جنوب بيت لحم (وادي فوكين والجبعة): تشهد تجريف أراضٍ لصالح المستوطنات والبؤر الاستيطانية.
أهداف عمليات التجريف
إقامة مستوطنات جديدة: كما حدث في مناطق "إفياتار" و"عميحاي".
شق الطرق الالتفافية: مثل طريق 60 وطريق 443، التي تعزل الفلسطينيين عن أراضيهم. بناء جدار الفصل العنصري: الذي يعزل مناطق الضفة الغربية ويحولها إلى كانتونات. تدمير الزراعة الفلسطينية، بهدف السيطرة على الأراضي وإفقار السكان.
وصف أوري أفنيري، وهو كاتب إسرائيلي مناهض للاحتلال، أن ما يحدث على الأرض يمثل "حربًا مصيرية"، إذ يُحاصر الفلسطينيون في جيوب صغيرة تُحوّل قراهم ومدنهم إلى مناطق معزولة تحت سيطرة الاحتلال. وفي خطوة تصعيدية، توعد وزير المال الإسرائيلي اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش بضم إسرائيل للضفة الغربية المحتلة في نوفمبر 2024 قائلاً إنه يرى "فرصة" في عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة. وأكد سموتريتش أن "إقامة دولة فلسطينية من شأنه أن يعرض وجود دولة إسرائيل للخطر". وأضاف: "الطريقة الوحيدة للقضاء على هذا التهديد تطبيق السيادة الإسرائيلية على مستوطنات يهودا والسامرة".
السلطة الفلسطينية
السلطة الوطنية الفلسطينية، هي هيئة الحكم الذاتي المؤقتة التي تم تأسيسها في عام 1994 عقب اتفاق غزة - أريحا لحكم قطاع غزة والمناطق A و B في الضفة الغربية، كنتيجة لاتفاق أوسلو لعام 1993. بعد انتخابات عام 2006 وما تلاها من نزاع في غزة بين حركتي فتح وحماس، انحصرت سلطتها فقط في المناطق "أ" و "ب" من الضفة الغربية. وتقوم السلطة الفلسطينية بوظائف خدماتية أمنية وصحية وتعليمية. أما من يسيطر فعليًا على الضفة الغربية هي إسرائيل، ولا تعير الاتفاقات الدولية أية أهمية، وتعتبر إتفاق أوسلو خطأ تاريخي.
الأبعاد السياسية والقانونية للاستيطان
تُظهر تقارير الأمم المتحدة أرقامًا صادمة حول معاناة الفلسطينيين بسبب الاستيطان: التهجير القسري: هُدم أكثر من 1000 منزل فلسطيني خلال السنوات الأخيرة، ما أدى إلى تهجير آلاف الفلسطينيين قسرًا، والاعتداءات على المزارعين، حيث تتزايد الهجمات اليومية من قِبل المستوطنين على المزارعين والتنكيل بهم من أراضيهم الزراعية وقراهم، ما جعل هؤلاء يبحثون عن مواطن جديدة للعيش في مخيمات، أو الهجرة إلى الأردن.
السياسات الإسرائيلية لا تقتصر على السيطرة على الأرض فقط، بل تهدف أيضًا إلى تدمير الهوية الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى لاجئين دائمين عبر إجراءات ممنهجة تشمل هدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وبناء الجدران العازلة.
ازدواجية المواقف الدولية
رغم التنديد الدولي المتكرر، فإن الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية تتخذ مواقف مزدوجة. في الوقت الذي تُصدر فيه الأمم المتحدة مئات القرارات التي تدين الاستيطان، تُقدم هذه القوى دعمًا سياسيًا واقتصاديًا لإسرائيل، ما يُشجعها على المضي قدمًا في مشروعها الاستيطاني.
خلال إدارة ترامب، اتخذت الولايات المتحدة خطوات غير مسبوقة، مثل نقل سفارتها إلى القدس والاعتراف بالمستوطنات، مما أدى إلى تصعيد المشروع الاستيطاني. وتعتبر الولايات المتحدة مشروع الاستيطان في الضفة الغربية يأتي في سياق القانون الدولي. الدول الأوروبية، بدورها، تكتفي بالإدانات اللفظية دون اتخاذ إجراءات عملية مثل فرض عقوبات أو سحب الاستثمارات.
سرقة الأرض وطمس الهوية
مشروع الاستيطان الإسرائيلي لا يستهدف فقط السيطرة على الأراضي، بل القضاء على الهوية الفلسطينية. هذا المشروع يهدد إمكانية إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا، ما يجعل حل الدولتين أمرًا شبه مستحيل، ذلك أن الاستيطان الإسرائيلي يهدد الحقوق الفلسطينية ويدمر جوهر حل الدولتين، الذي أقرّته الأمم المتحدة وأغلب دول العالم كإطار لتحقيق السلام العادل في المنطقة. واستمرار الاستيطان يجعل إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا أمرًا مستحيلًا، ما يضع الفلسطينيين أمام تحدٍ وجودي. هذا الواقع يتطلب:
1.تحركًا عربيًا ودوليًا جادًا يتجاوز البيانات إلى خطوات عملية، مثل فرض عقوبات على الاحتلال وتعزيز الدعم الاقتصادي والسياسي للشعب الفلسطيني.
2.مقاومة فلسطينية متماسكة تعتمد على استراتيجية وطنية شاملة لتعزيز الصمود ومواجهة الاحتلال.
3.محاسبة دولية لإسرائيل عبر المحافل القضائية العالمية لوقف انتهاكاتها المستمرة.
ختامًا، ما يجري في فلسطين ليس مجرد صراع حدودي، بل معركة وجودية ضد مشروع استيطاني استعماري يسعى لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وطمس تاريخهم. في ظل الدعم الأمريكي والغربي، تتحول القرارات الدولية إلى مجرد حبر على ورق. يتطلب هذا الواقع وقفة عربية ودولية جادة تُعيد ترتيب الأولويات وتتبنى خطابًا سياسيًا وإعلاميًا قويًا في مواجهة الرواية الصهيونية. القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية شعب، بل هي اختبار حقيقي للعدالة والشرعية الدولية.
استمرار الاستيطان يُهدد الاستقرار الإقليمي والدولي، ويُظهر الحاجة الملحة لتحقيق سلام عادل ومستدام عبر إنهاء الاحتلال وضمان حقوق الشعب الفلسطيني.