يناير 11, 2025 - 20:02
شرق المتوسط: هل يعيد التفاوض التركي-السوري تشكيل خارطة النفوذ ؟


عرب جورنال / توفيق سلاّم -

في ظل التطورات المتسارعة في منطقة شرق المتوسط، تبرز الديناميات السياسية والاقتصادية كعامل أساسي لإعادة رسم المشهد الإقليمي. تصريح وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو بشأن استعداد بلاده للتفاوض مع سوريا لترسيم الحدود البحرية يُعد خطوة غير مسبوقة تسلط الضوء على الطموحات التركية لتعزيز نفوذها الإقليمي واستثمار اللحظة التاريخية. في منطقة تتشابك فيها المصالح والتحالفات، تُعيد هذه المبادرة فتح الملفات الشائكة المتعلقة بالنفوذ على الموارد الطبيعية في شرق المتوسط.

ترسيم الحدود البحرية 

تصريح وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو حول استعداد تركيا للتفاوض مع سوريا بشأن ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، يسلط الضوء على الديناميات السياسية والاقتصادية المتغيرة في المنطقة. في هذا السياق، تبرز عدة اعتبارات تشير إلى أن تركيا تسعى لاستثمار اللحظة التاريخية الراهنة لتحقيق مكاسب استراتيجية على المدى الطويل، خاصة فيما يتعلق بالنفوذ والموارد.
تركيا ترى أن الاتفاق مع سوريا بشأن الحدود البحرية قد يُمكنها من توسيع نفوذها في منطقة شرق المتوسط، وهي منطقة استراتيجية غنية بالموارد الطبيعية. في ظل تصاعد التنافس بين الدول المطلة على المتوسط، تسعى تركيا إلى خلق موطئ قدم أقوى عبر التفاوض مع دمشق، بهدف مواجهة التحالفات الإقليمية الأخرى مثل منتدى غاز شرق المتوسط الذي يضم مصر، إسرائيل، واليونان، واستُبعدت منه تركيا. سوريا المنهكة جراء الحرب الداخلية، تُعد طرفًا ضعيفًا نسبيًا في أي مفاوضات قادمة لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط. أنقرة قد ترى في الوضع السوري الراهن فرصة للضغط على دمشق للوصول إلى إتفاق يمنحها امتيازات واسعة في مناطق التنقيب عن النفط والغاز.

 تكتيك متعدد الأبعاد


رغم توتر العلاقات التركية-السورية خلال  العقد الماضي، يُمكن لمقترح الترسيم أن يكون وسيلة لتحريك ملف تطبيع العلاقات بشكل يخدم المصالح التركية. بمعنى أي اتفاق محتمل مع دمشق قد يُغير موازين القوى لصالح أنقرة، خاصة إذا منحها قدرة أكبر على مواجهة النفوذ الإسرائيلي واليوناني في المنطقة.
تركيا تعتمد بشكل كبير على استيراد الطاقة. وفي ظل اكتشافات الغاز الأخيرة في شرق المتوسط، فإن تأمين حصتها من هذه الموارد كضرورة استراتيجية ملحة. لذلك فهي تسعى لاستثمار هذه اللحظة التاريخية في اضطرابات الأوضاع الداخلية في سوريا، وحالة التفكك والضعف، في محصل تدخلها وبأدواتها التي تعد ركائز تابعة لها، يسهل معها ترسيم الحدود البحرية، وإن كان ذلك حتى على حساب الثروة السيادة السورية. 

تعزيز نفوذ تركيا

عدم وجود حكومة سورية مستقرة أو معترف بها دوليًا بشكل كامل، سيُطرح تساؤل حول شرعية أي إتفاقية يتم توقيعها في الوقت الراهن. ويبدو أن تركيا تترصد فرصة تشكيل حكومة انتقالية في مارس القادم لاطلاق العنان لملف ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط. وتكشف
التحركات التركية طموحات أنقرة لتوسيع نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي، مدفوعة برغبة ملحة في تأمين مصادر الطاقة التي تعتبرها ضرورية لدعم اقتصادها المتعثر، وتعزيز مكانتها الإقليمية. وفي المجمل فإن تركيا تعتمد على استراتيجية متشابكة تسعى من خلالها لاستغلال الثغرات السياسية في المنطقة، وهو ما يتجلى في محاولاتها لإبرام اتفاقيات بحرية مع دول مثل سوريا. هذه الخطوة تهدف إلى خلق واقع جديد يعزز من مطالبها في المناطق المتنازع عليها، متجاوزة بذلك الإطار القانوني الدولي ومواقف الأطراف الإقليمية الأخرى التي تعتبر توسع النفوذ التركي في شرق المتوسط يهدد أمنها ومواردها في هذه المنطقة التي قد تكون بؤرة لصراع جديد، مالم تستوعب تركيا حجم مخاطر أطماعها، على دول الإقليم. 


استغلال فراغات الصراع  


الصفقة المحتملة مع سوريا، إذا تمت، يمكن أن تمثل خطوة كبيرة لتركيا نحو تأكيد سيطرتها على مساحات بحرية واسعة تحتوي على احتياطيات غازية ونفطية ضخمة. تسعى أنقرة من خلال هذه الخطوة لتوسيع مناطق نفوذها، في تحدٍ مباشر لليونان وقبرص، ومصر. وتعتبر إسرائيل أن أي اتفاقيات تركية - سورية  تتعلق بترسيم الحدود البحرية غير قانونية وتتنافى مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. هذه التحركات قد تُمكّن تركيا من فرض سياسة الأمر الواقع، خاصة إذا تمكنت من إبرام اتفاقيات ثنائية مع دول أخرى تتجاهل التعقيدات السياسية الحالية في المنطقة.
من منظور سياسي، يمكن اعتبار هذه التحركات جزءًا من رؤية تركيا الأوسع لإعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية. فتركيا تستغل الفراغات الناتجة عن الصراعات الإقليمية، لا سيما في سوريا، لإيجاد شراكات تخدم مصالحها الاستراتيجية.
بمعنى أي إتفاق مع دمشق قد يعكس أيضًا بعدًا براغماتيًا في السياسة التركية، إذ يمكن أن تستغل أنقرة الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب الذي تواجهه الحكومة السورية للضغط عليها وقبول صفقة بحرية تخدم مصالح تركيا. 
على الجانب الآخر، هذه المساعي التركية قد تؤدي إلى تصعيد التوترات مع الأطراف الإقليمية والدولية. فاليونان وقبرص، بدعم من الاتحاد الأوروبي، ترفضان بشدة أي محاولات تركية لتغيير الوضع القائم في شرق المتوسط. كما أن مثل هذه التحركات قد تُدخل روسيا وإيران، حليفتي سوريا، في حسابات جديدة، مما يضيف مزيدًا من التعقيد على المشهد السوري.
وفي التحليل الأعمق، يبدو أن تركيا تستغل الحاجة الماسة للطاقة كذريعة لتحقيق أهداف سياسية طويلة المدى، تهدف إلى تعزيز مكانتها الإقليمية وتقويض الخصوم التقليديين. ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية محفوفة بالمخاطر، حيث يمكن أن تؤدي إلى عزل تركيا دبلوماسيًا، أو حتى إثارة صراعات جديدة في المنطقة، لا يستبعد نشوب حرب إقليمية جديدة، مما يجعل التوازن بين المكاسب الاقتصادية والسياسية المحتملة والتكاليف المترتبة على هذه الطموحات موضع تساؤل..!
إسرائيل قد ترى في هذا الاتفاق تهديدًا لمشروعاتها في المنطقة. وتركيا لديها تاريخ في الاعتراض على الاتفاقيات البحرية الأخرى، مثل تلك التي أبرمتها مصر واليونان وقبرص. لذلك فإن أي اتفاق مع سوريا قد يُواجه تحديات قانونية ودبلوماسية من قبل أطراف أخرى في المنطقة.

الظرف الراهن قد يبدو مثاليًا بالنسبة لأنقرة. النظام السوري في موقف ضعيف، والمجتمع الدولي مُنشغل بأزمات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود هيئة تحرير الشام كطرف فاعل في السلطة  يزيد من تعقيد الوضع، حيث أن هذه الهيئة ليست طرفًا شرعيًا في أي مفاوضات دولية. تركيا قد ترى في هذه اللحظة، مع تشكيل حكومة مؤقتة فرصة  للضغط على الأطراف السورية لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية طويلة الأمد.

في الأخير، فإن تحرك تركيا نحو التفاوض مع سوريا لترسيم الحدود البحرية يعكس إدراكها لأهمية الاستفادة من الظرف الراهن لتحقيق مكاسب استراتيجية قد تعيد تشكيل خريطة النفوذ في شرق المتوسط. ورغم أهمية هذه الخطوة من الناحية السياسية والاقتصادية، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، في ظل معارضة الأطراف الأخرى وسعيها لحماية مصالحها. وما إذا كانت هذه المبادرة ستنجح في خلق معادلة جديدة أم ستزيد من تعقيد الأوضاع، يبقى رهن التطورات المقبلة ومدى قدرة الأطراف المعنية على تحقيق التوازن بين المصالح المتباينة.
يبدو أن تركيا تسعى لاستثمار اللحظة التاريخية لصياغة واقع جديد في شرق المتوسط. لكن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على قدرة أنقرة على المناورة بين الضغوط الإقليمية والدولية، وإيجاد صيغة توافقية مع دمشق قد تُثير معارضة دول أخرى. في الوقت نفسه، يُمكن أن تُعقد التحركات التركية المشهد أكثر، في ظل المنافسة الشرسة على موارد الطاقة في المنطقة، ما يجعل استقرار شرق المتوسط أمرًا بعيد المنال.