
تذكرنا الكاتبة من سوريا " سلمى الحفار الكزبري " بإن الفضل في تعريفنا بتاريخ الرصافة" يعود إلى كتاب قيم نشرته المديرية العامة للآثار والمتاحف بدمشق عام ١٩٨٤م، أعده مديرها الأستاذ : بشير زهدي عنوانه: "الرصافة لؤلؤة بادية الشام تقع الرصافة على بعد ثلاثين كيلومترًا من مدينة الرقة، في شمال سورية على الفرات، وقد كان لها تاريخ عريق عبر العصور، فسميت بعهد الآشوريين في القرن التاسع قبل الميلاد : " RASAPPA"، ثم تنازع عليها اليونان والفرس وأضحت لها قلاع منيعة تحميها من غزوات الساسانيين قبل أن تصبح من المدن التابعة لمملكة "تدمر"، التي امتدت من غرب ليبيا إلى الخليج شرقاً، وبما أنها تبعد فقط خمسة وسبعين كيلومترا عن قصر الحير الشرقي احتلها العرب الغساسنة لأهمية موقعها، وسوّروها معتبرين أنفسهم ورثة للأنباط ثم تحالفوا مع البيزنطيين لحمايتها من غزوات الساسانيين. وقد جاء في كتاب الأستاذ بشير زهدي ما يلي:" وإذا كان يُنسب إلى "الحارث الثاني" الفضل بترميم الأسوار، وتشييد كاتدرائية كبيرة في الرصافة في العصر البيزنطي، فإنه يُنسب إلى ابنه المنذر بن "الحارث الثاني" الفضل بتشييد خزانات المياه فيها، وببناء قصر كبير له، ودار للضيافة خارج سورها الشمالي، تثير ضخامتها شعور الاحترام لهيبته لدى رجال القبائل.. والجدير بالذكر أن جهودًا مخلصة تبذل في سبيل ترميم هذا القصر الغساني، ليكون مبناه متحفا إقليميا جديدا يسهم في حفظ هذه المنطقة المهمة، والتعريف بفنونها وتاريخها وآثارها المختلفة.
رصافة هشام
في عهد الأمويين، أضحت الرصافة منتجعا صيفيا انتقل إليه الأمير هشام بن عبد الملك من قصر الحير" وأسهم في عمرانها وازدهارها بتشييد قصرين اكتشف أحدهما في إثر التنقيب عن آثارها ، فعرفت آنداك باسم : "رصافة هشام"، وبعدما انتصر العباسيون على الأمويين نجا الأمير عبد الرحمن بن معاوية من الموت، لأنه اختبأ عند جماعة من الأعراب على ضفة نهر الفرات بشمال سورية، ثم انتقل سرا للأندلس وهو في التاسعة عشرة من العمر، حيث أسس دولة جديدة للأمويين فيها بعد نهاية حكم الأمويين في سورية، تابعت الرصافة ازدهارها حتى بداية القرن العاشر الميلادي واشتهرت بتعايش المسيحيين والمسلمين بدليل اكتشاف أنقاض كنائس فيها . ومسجد له محرابان باتجاه الجنوب وشارع مستطيل محاط بأعمدة، وقد هُدمت إبان غزوات التتار كليا.. ولكي نعلم كيف تم هذا الاكتشاف، نعود إلى كتاب الأستاذ بشير زهدي"، ونطلع منه على اهتمام فريق من علماء الآثار الألمان أمثال: "شنايدر"، و"سبانير" و "موسيل" الذين شرعوا عام ١٩٥٢م، بتنقيب عن تلك الآثار استمر سبع سنوات، فعثروا على جزء من القصرين الأمويين، وبرج قائم على قاعدة مربعة الشكل بزاوية مبنى مصنوع من الآجر، ثم اكتشفوا برجين آخرين مستديرين أصغر حجمًا مما دفع بفريق آخر من علماء الآثار للعودة إلى الرصافة عام ١٩٦٨ ، ومتابعة أعمال التنقيب بمساعدة المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية، فتم اكتشاف أجمل أبواب المدينة تحت الركام حيث ظهرت في جهتها الشمالية رسوم وزخارف ملونة.. كان الباب يؤدي إلى شارع مستقيم يؤدي إلى وسط المدينة.. لقد جرت تلك الحفريات تحت الرمال على عمق خمسة أمتار، وتم العثور على مباخر وأكواب فضية ومذهبة منقوشة باللغة السريانية ولوحات رخامية وقطع نقود محفور عليها اسم الرصافة يوجد بعضها اليوم في متحف دمشق، ونقل بعضها الآخر إلى متاحف الغرب.
رصافة الأندلس
لقد ذكرني الحديث عن رصافة بادية الشام برصافة الأندلس التي بناها بضاحية قرطبة الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل، وجعلها مقرا صيفيا له لارتفاعها عن قرطبة، وإطلالتها على نهر الوادي الكبير الذي يجتازها في القرن الثامن الميلادي، تخليدا لذكرى جده هشام بن عبد الملك باني رصافة سورية، ولم يبق لها أثر في القرن العشرين، فبنت الحكومة الإسبانية في موضعها فندقا سياحيًا كبيراً، أطلقت عليه اسم الرصافة" والرصافتان إذن السورية والأندلسية لعبتا دوراً مهما في التاريخ، علما بأن رصافة الشام انبعثت أنقاضها من جديد، وأضحت تحدثنا عن ماضيها المجيد بلغة آثارها المكتشفة، كما أن العمل على تحقيق متحف إقليمي ضمن مبنى "المنذر الغساني" الذي تم اكتشافه فيها سوف يُسهم في تعريف المواطنين، والسياح الراغبين في الاستماع إلى أطلالها تروي لهم قصة مجدها .
• مجلة العربي – العدد / 564.