توفيق سلاّم
تتصاعد حدة الصراعات في سوريا بشكل غير مسبوق، لتعيد ترتيب المشهد الإقليمي في ظل التوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب في لبنان. تتحرك القوى الدولية الفاعلة، مدعومة بحلفائها الإقليميين، لتوظيف المتغيرات الإقليمية لتقليص النفوذ الإيراني وتغيير موازين القوى في سوريا، مما يجعلها ساحة صراع دولي تتنازعها المصالح المتضاربة. في هذه الأجواء المشحونة، تتقاطع الحسابات العسكرية مع الأجندات السياسية، لتشكل سوريا مشهداً معقداً يمزج بين الطموحات الإقليمية والتنافس الجيوسياسي.
وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التطورات الجارية بأنها مرحلة جديدة من الصراع تتم إدارتها بهدوء، داعيًا إلى استئناف الحوار بين السوريين.. وفي مؤتمر الدوحة يجتمع وزراء خارجية تركيا وروسيا وإيران للتفاوض في إطار عملية أستانا للتسوية السياسية في سوريا، والتوصل إلى تفاهمات جديدة. لكن ما يظهر هناك تناقض وتضارب في الموقفين التركي والإيراني، الذي ينعكس على مؤتمر الدوحة، في ظل ما حققته تركيا من مكاسب على الأرض، ويبدو أن الوقائع على الأرض هي من سترسم ملامح مستقبل سوريا، وإن كان الأمر لا أحد يستطيع الجزم بما ستصل إليه الأمور. وكان الرئيس السوري بشار الأسد، قد حذر سابقًا من وجود مخطط لتقسيم سوريا يخدم مصالح الغرب وأمريكا. فما هي مآلات الحملة العسكرية التي تقودها تركيا وأمريكا وإسرائيل على سوريا؟
تشظي سوريا
تصاعد حدة المعارك في سوريا، بعد وقف القتال على الجبهة اللبنانية، إذ يسعى الفاعلون الدوليون، بمعية حلفائهم، إلى استثمار المتغيرات الإقليمية التي أفرزتها الحرب في لبنان لإعادة ضبط موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، في المقابل تتمترس إيران وحليفها الروسي لثبيت مواقعهم في جغرافية باتت ساحة صراع دولي متعدد الأقطاب، في ظل
إفرازات الواقع الراهن الذي حول سوريا إلى جغرافية تتنازعها قوى دولية وإقليمية متنافسة تتوزع خريطة السيطرة على أراضيها، ما قيد مفاعيل العامل المحلي في تقرير مصير سوريا ومستقبلها، سواء النظام أو القوى المناهضة له. فإلى جانب روسيا، الطرف الذي يدعم حليفه السوري، وتوسيع منطقة نفوذه في الشرق الأوسط، تشكل إيران ثقلاً في معادلة النفوذ في الإقليم.
وما يجري من هجوم تدعمه بكل جلاء العواصم الثلاث: واشنطن وأنقرة وتل أبيب تمويلاً وتسليحًا وعملياتيًا، وهذا يعني
أن حكومة الأسد هي الطرف المستهدف تتحمل نصيبًا وافرًا من تهيئة الأوضاع المحلية للانفجار وفتح أبواب البلاد لكل طامع يغري من يبحث عن سلطة ونفوذ ويتحالف مع من يقبل غرورًا ويستغفل من يستغفل جهلاً بالحقائق الاستراتيجية. فتلك العصابات الممولة والموجهة من أجهزة الاستخبارات الأجنبية. فهي في الأول والأخير محض تنظيمات تخدم خطط تقسيم المنطقة العربية.
الأوطان ليست حقلاً لتجربة ما سبق تجربته وأرواح المواطنين ليست نهبًا مباحًا لمن تتملكهم شهوة الانتقام واستباحة الدماء تقوم بها جماعات تضم مقاتلين مأجورين من جنسيات مختلفة، ومن يخدمون تحت رايات مذهبية بتمويل وتدخل من دول وأطراف إقليمية متعددة.
ما يجري -الآن- في خط "حلب-إدلب- حماة- وفي ريف حمص الشمالي"، هو جزء من خطط إعادة تقسيم المنطقة لتمكين تل أبيب من الاستيلاء على كامل أرض فلسطين التاريخية، وفرض هيمنة الكيان على ما يسمى الشرق الأوسط الجديد، وهذا ما أعلنه نتنياهو على رؤوس الأشهاد وبالخرائط مع تقسيم الدول العربية وتوزيع بعض أراضيها على أطراف إقليمية أخرى.
لا يمكن النظر للتحرك صوب "حلب-إدلب- حماة- حمص" بمعزل عن مسار الحرب في غزة والحرب في لبنان، بل ولا حتى عن مسار الحرب الروسية-الأوكرانية التي تنغمس فيها دول الناتو قاطبة.
وتأسيسًا على ذلك، فإن الأمر ليس بحاجة لتدقيق معلومات حول ما جرى من وقائع مادية، وتساؤلات ملحة حول انسحابات أو انهيارات الجيش السوري، وأيضًا "تفهم" الموقف الروسي، قطعًا سنحتاج بعض الوقت لتفهم ذلك.
مباحثات الدوحة
الهجمات على المدن السورية، تفرض أوراق ضاغطة وحسابات جديدة على مباحثات الدوحة بين تركيا وإيران بوساطة روسية، بالتأكيد ستتغير عن صيغة مسار أستانا الذي كانت خلاصته خفض التصعيد في مناطق التوترات. يبدو كانت هناك فرصة سانحة للوصول للتفاهم مع تركيا التي تخشى نشأة دولة كردية مستقلة في كل من العراق وسوريا لما لذلك من تأثير مدمر على بنية الجمهورية التركية ذاتها. كانت لدمشق شروطً، حال في التوصل إلى نقاط تقاطع مشتركة. ويبدو أن الدعم الروسي، بالطيران لن يكون حاسما مع الانهيارات الحاصلة في الجيش السوري، بالإضافة إلى افتقاد سوريا العناصر التي كانت تعتمد عليها مثل الحرس الثوري وحزب الله. هذه العوامل وغيرها أضعفت سوريا داخليا، كانت فرصة سانحة اغتنمتها الجماعات المسلحة، ورأت تركيا واسرائيل بالظرف المواتي في قرار الهجوم على حلب ومحافظات أخرى" إدلب، حماة، حمص) وغيرها من المدن، وهي الآن أرواق ضغط على مائدة التفاوض في الدوحة. حيث الوضع يبدو أكثر من خطر على سوريا، وعلى المنطقة، في ظل الإصرار على إسقاط النظام، مغامرة غير مأمونة العواقب إذا ما تغلب الموقف التركي لتلك الفصائل ليصل بالصراع إلى غاية تقسيم سوريا، ففي هذه الحالة سيكون على تركيا أن تقبل بالاستيلاء على قسم من شمال سوريا نظير نشأة الكيان الكردي مع الدخول معه بصراع لعرقلته وتفتيت كيانه.
وبعيدًا عن الحسابات المعقدة التي يحتاج تدقيقها لمعلومات لم تتوفر بعد فإن ردة فعل موسكو تجاه سوريا بحاجة أيضًا لمعرفة دقيقة. وبالتأكيد ما يجري في سوريا، وثيق الصلة بمجرى الصراع حول فلسطين، لاسيما الحرب في غزة وفي لبنان خاصة من زاوية تحقيق مصلحة إسرائيلية مباشرة بحصار توريدات السلاح لحزب الله خلال فترة هدنة الشهرين التي ستنشب الحرب مجددًا قبيل انقضائها.
حرب التنظيمات الارهابية على "حلب-إدلب- حماة، وحاليًا ريف حمص" وما بعدها، هي تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وهي ليست بطبيعة الحال معارضة وطنية ضد حكومة دمشق ففي ترويج ذلك الزعم الأثيم مغالاة مغرضة تفتقد للحقيقة وتضليل بذيء السمعة على العالم.
سوريا مقطعة ومجزأة إلى خمس مناطق، بين قوى محلية وإقليمية وتتشابك فيها المصالح والارتباطات للخارج. هذه الأرضية سلخت الوحدة السورية وجزأتها إلى كنتونات سياسية وعرقية وطائفية، مزقت عوامل لحمتها وقوتها، وجعلتها بيئة خصبة للصراعات الداخلية ومناهضة النظام. هذا التفكك والتشظي الداخلي هو الذي جعل سوريا تبدو مهتزة، ومنكفئة على نفسها. ولا تريد أن تدخل في الحروب التي سئم منها شعبها على مدار 14 عامًا، حتى من مسألة الرد على الضربات الإسرائيلية على عمقها الجغرافي. ومع ذلك أظهرت نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان أن الجبهة السورية ساحة إسناد للمقاومة الإسلامية. وأدركت إسرائيل أن المعركة طويلة مع المقاومة اللبنانية، وأثمانها باهضة الكلفة، في ظل دعم مركز المحور وإمداداته النشطة بدعم المقاومة، وفشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه في جنوب لبنان. لذلك وافق على وقف إطلاق النار. ويبدو أن حساباته تبدلت بانتقاله لتفجير الصراع في الساحة السورية، وهذا يعني ضرب فصائل المقاومة في سوريا، وقطع خطوط الإمدادات عبر سوريا، وربما المخطط أوسع يتعدى ذلك إلى إسقاط النظام السوري، وإلى إنهاء الوجود الروسي، وربما الانتقال بالصراع إلى العراق وإلى مناطق أخرى، ولا تعتبر مصر بعيدة عن هذا السيناريو مهما حاولت أن تُنصِّب نفسها وسيطًا في الحرب الصهيونية على غزة، الخطر قادم إليها دون شك.
البيئة الرخوة الداخلية، وعدم بسط النظام على كامل الأراضي السورية، وتعدد التيارات والجماعات المناوئة للنظام هو ما جعل سوريا ساحة قابلة للإنفجار، واشتعال الحرائق، ووجدت الجماعات الإرهابية مرتعها الآمن في ازدياد أنشطتها وتضخمها مع رفدها بالأسلحة وعناصر إرهابية من دول عدة، ودعم تركي وأمريكي غير محدود، وبموازة ذلك الدعم الأمريكي ل "قسد"، التي تشكل القوة الثانية بعد جماعات النصرة " هيئة تحرير الشام". هذا بالإضافة إلى بقية الفصائل الكردية المدعومة أمريكيًا.
قدرة حزب الله بدت مقيدة باتفاق وقف إطلاق النار حال دون إسناد حليفه في سوريا، فضلاً عن هجمات الكيان الإسرائيلي على حزب الله في لبنان، طوال عام، واستهداف قيادته الميدانية في سوريا، وقيادات الحرس الثوري الإيراني، أفضى إلى زحزحة موازين القوى التي ظلت مستقرّة في سوريا لصالح النظام، وهو ما استثمرته جبهة تحرير الشام في هجومها على مدينة حلب، والسيطرة على منطقة إدلب وحماة. إلى ذلك، سعت إسرائيل، وعبر إدارتها الجبهة اللبنانية، في فرض نتائجها على المعادلة السورية، إذ أنه وبالإضافة إلى تصعيد القتال في سوريا يعني خفض مستويات المخاطر التي تواجهها عبر انتقال الصراع لضرب المركز. بمعنى أن استمرار انزلاق إيران في معركة عسكرية لدعم حليفها السوري قد يدخلها في مواجهة مع إسرائيل، فضلاً عن استثمار تصعيد القتال في الساحة السورية بتنفيذ هجمات طالت مواقع حزب الله على الحدود اللبنانية ، ومن ثم توسيع حالة الإرباك العسكري لخصومها وضرب خطوط الإمدادات، والمضي بتفعيل استراتيجية استهداف مناطق أخرى لنفوذ إيران في الإقليم. بمعنى إضعاف إيران في لبنان، وهو بالمقابل إضعافها في سوريا، ومن ثم يصب في صالح تركيا.
ومع أن النظام التركي لم يتبن رسمياً دعم معارك الفصائل ضد النظام السوري، فإن أي انتصارات على الأرض تعني تعزيزاً لنفوذه.
الدفاع عن سوريا
تتضمّن معادلة الدفاع عن نظام بشار الأسد بالنسبة لروسيا حماية مصالحها الاستراتيجية في سوريا، وتثبيت هيمنتها كقوة دولية في منطقة الشرق الأوسط. بمعنى الدفاع عن سوريا دفاع عن الخط الأمامي لنفوذها، ومن ثم فإن تغيير المعادلة في سورية أو إرباكها يشكّل تهديداً جوهرياً لوجودها، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية لسوريا ساحة ترسم معادلة تحالفها مع روسيا، وتكرس نظام عالمي متعدّد الأقطاب بمعية الصين المناهض لأمريكا وحلفائها الغربيين. وفي حالة إيران أيضًا، فإن سوريا الرسمية منضوية في محور الممانعة، أي القوى المناوئة لإسرائيل. ومع أن النظام السوري حيّد نفسه، منذ بدء حرب الكيان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وأعاد تطبيع علاقته مع الدول العربية، فإن التصعيد في سوريا، بعد الحرب في لبنان، يضيف فاتورة جديدة على سوريا، وعلى حليفها الإيراني، مكلفة من الخسائر في استنزافها عسكرياً إلى وتوجيه مواردها أو موارد حلفائها للدفاع عن نفوذها في سوريا. وإذا كان سعيها إلى وقف الحرب في لبنان فرضته حساباتها الإقليمية لخفض التصعيد مع إسرائيل، ومحاولة استقراء المزاج الدولي مع قرب انتقال السلطة في البيت الأبيض، فإن ضرورة التهدئة في سوريا لم تنضج بعد، وخاضعة لشروط القوى الدولية ومصالحها في إدارة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، ومن ثم تختلف الحالة السورية عن الحالة اللبنانية، من حيث تعقيداتها، كذلك موقعها في معادلة الصراع مع إسرائيل، ومع أن إيران ستخوض كالعادة معركتها للدفاع عن نظام بشّار الأسد، إلى جانب المراهنة على القوة العسكرية لحليفها الروسي لاستعادة المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة، فإن تعدّد القوى الدولية وتناقض مصالحها يجعلان إيران هي الأخرى خاضعة لتقاطعات هذه المصالح وافتراقها في إدارة الملف السوري، والتي تعني، في حال وجود ضوء أخضر دولي للقضاء على نفوذها في سوريا، وهو ما يعني دخولها في تحدٍّ حقيقي بفقد أهم ساحة نفوذ خارج مجالها الحيوي بعد لبنان.
تغيير موازين القوى
معادلة الدفاع عن نظام بشار الأسد بالنسبة لروسيا يشكل حماية لمصالحها الاستراتيجية في سوريا، وتثبيت هيمنتها كقوة دولية في منطقة الشرق الأوسط. لذلك، تغيير موازيين القوى في الساحة السورية، وإسقاط النظام السوري، هو أيضًا استهداف لمصالحها، كما يضر بتحالفها الاستراتيجي مع إيران التي تدعمها في الجبهة الأوكرانية، عسكرياً وسياسياً. ولذلك تقود روسيا معارك إسناد قوات الأسد بسلاح الجو لاستهداف الفصائل المسلحة في حلب وإدلب وحماة وريف حمص الشمالي، ومع أن تصعيد القتال في سوريا، مع استمرار حربها في أوكرانيا، يشكّل ضغطاً عسكرياً على روسيا، فإن الدفاع عن حليفها في سوريا يعزّز من استراتيجيتها لحماية حلفائها التي تراهن عليهم، لتعزيز موقعها في نظام عالمي متعدّد الأقطاب، ومن ثم جذب حلفاء جدد. ومن جهة ثانية، الاستمرار في إسناد قوات حليفها شمال غربي سوريا، إلى جانب التعويل على قنوات التفاوض مع تركيا، الطرف الداعم للفصائل المسلحة الرئيسة لخفض الصراع، ومن ثم تجنّب مخاطر انكشاف حليفها يظل الخيار المثالي لروسيا في الوقت الحالي، إلا أن فرض معادلة جديدة في سوريا ضد مصالحها قد يدفعها إلى تبني خيارات تصعيدية وتحريك أوراق أخرى، وقد تتحول الحرب في سوريا إلى صراعات داخلية، بين الفصائل ذات التوجهات المختلفة.
في الأخير، يبدو المشهد السوري كأرض معركة تُديرها قوى خارجية أكثر من كونها صراعًا داخليًا محلياً. مع تصاعد القتال وتداخل المصالح الدولية والإقليمية، يبدو أن أي حل مستدام يمر عبر تسويات معقدة بين أطراف متعددة نجاحها يعتمد على تقديم تنازلات لوقف هذا الاهتراء. النظام السوري وحلفاؤه من جهة، والفصائل المسلحة المدعومة إقليميًا ودوليًا من جهة أخرى، يقفون في مواجهة مشهد يتجاوز المصالح الوطنية إلى صراع أقطاب عالمي يحدد مصير سوريا ومستقبل نفوذ القوى الدولية في الشرق الأوسط.