عرب جورنال / توفيق سلاّم -
يشكل قرار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بإصدار مذكرتي اعتقال بحق مجرمي الحرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه المقال يوآف غالانت، نقطة تحول فارقة في مسار العدالة الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية خلال العدوان على غزة بين أكتوبر 2023 ومايو 2024، عن علم وقصد، صدرت استنادًا لقناعات راسخة لدى أعضاء فريق المحكمة. أن ثمة أسبابًا منطقية بالشواهد والقرائن والأدلة الموثقة، وآلاف المسوغات القانونيةالتي تظهر حجم المأساة لما يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة من إبادة جماعية ممنهجة،بأن نتنياهو وجالانت أشرفا على مجازر الإبادة الجماعية بحق السكان المدنيين في قطاع غزة والضفة الغربية، تستدعي إصدار مذكرات اعتقال وإحضارهما لقاعة المحكمة.وبهذا تكون محكمة العدل الدولية قد نجحت في تحويل معاناة الشعب الفلسطيني إلى قضية رأي عام دولي، وإلى قضية قانونية عالمية، ما يعزز فرص تحقيق العدالة والمساءلة.
خلفية القرار
استند قرار المحكمة الجنائية الدولية إلى تحقيقات موثقة، وأدلة دامغة حول جرائم جسيمة ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، تضمنت الإبادة الجماعية والنزوح القسري للسكان، واستهداف المدنيين بوحشية غير مسبوقة بقصف الأحياء السكنية فوق رؤوسهم. كما شملت هذه الجرائم الحصار الخانق الذي تسبب في موت المرضى والجرحى والأطفال وكبار السن جوعاً، ومنع الدواء والغذاء وإغلاق المعابر، وتدمير المستشفيات ومراكز الخدمات الصحية، والمدارس والمساجد والكنائس والجامعات ومحطات تحلية المياه إلى مصادر الطاقة، وكل مقومات البنية التحتية بشكل كامل في انتهاكات لا يمكن تبريرها.
إلى جانب ذلك، تمتلك إسرائيل سجلاً طويلاً في استهداف الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، وهو ما اعتبرته منظمات دولية جريمة حرب تهدف إلى إسكات الأصوات التي توثق جرائم الاحتلال.
وخلال العدوان المتكرر على غزة، قُتل العشرات من الصحافيين، رغم ارتدائهم سترات مكتوب عليها "صحافة". فاستُهدفت مكاتب إعلامية معروفة مثل برج الشروق وبرج الجلاء، التي ضمت وكالات عالمية. يُظهر هذا السلوك سعياً ممنهجاً لفرض رواية إسرائيلية أحادية عبر تكميم الأفواه، ومنع نقل الصورة الحقيقية. وفقاً للقانون الدولي، يُعد استهداف الصحفيين انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف، مما يفرض ضرورة تحرك دولي لمحاسبة الاحتلال.
تعدت الانتهاكات الإسرائيلية باستهداف الإعلاميين إلى العاملين في المجال الطبي والإغاثي. حتى سيارات الإسعاف لم تسلم من الاستهداف، رغم وضوح علامات الهلال الأحمر، بالإضافة إلى ذلك دمرت مراكز صحية وأطقم طبية بشكل مباشر. أدى هذا إلى انهيار النظام الصحي في غزة، حيث تسبب تدمير المشافي والمرافق الطبية في شلل الخدمات ووفاة العديد من الجرحى وحديثي الولادة بسبب نقص الرعاية. حتى العاملين في الإغاثة والدفاع المدني لم يسلموا من القصف، فاستشهد الكثير من فرق الإطفاء التي كانت تحاول السيطرة على الحرائق الناجمة عن القصف، فضلاً عن استهداف منظمة الأونروا بشكل متكرر، ومراكز ومدارس ومخيمات ايواء النازحين. هذه الانتهاكات تعكس سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى كسر صمود الشعب الفلسطيني من خلال الافراط في القتل، ومشاهد مجازر الإبادة الجماعية بحق السكان المدنيين. وفي الضفة الغربية، استمرت إسرائيل في تنفيذ إعدامات ميدانية بحق الفلسطينيين، واقتحام المنازل، وتصفية المواطنين داخل منازلهم، واعتقالات واسعة، وتشربد السكان قسرًا، وهدم وتحطيم المعالم الأثرية والحضرية، والتوسع في الاستيطان في أراضي الفلسطينين وأماكن اقامتهم، وتغيير المعالم، وتخريب الشوارع، والمياه في انتهاك واضح لكل الأعراف الدولية. وقد وثقت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش ومراسلون بلا حدود هذه الجرائم، مشيرة إلى ضرورة محاسبة إسرائيل على أفعالها التي ترقى إلى مستوى جرائم حرب جسيمة.
هذا التطور يمثل علامة فارقة في مسار القضية الفلسطينية. إنه انتصار قانوني يعزز من أدوات المقاومة السلمية ويظهر أهمية القانون الدولي في مواجهة الاحتلال. يتطلب هذا القرار دعمًا مستمرًا من المجتمع الدولي لمحاسبة إسرائيل وضمان تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، الذي يعاني منذ عقود من القمع والاحتلال.
ردود الأفعال الدولية
ردود الأفعال الدولية جاءت متباينة. في حين أظهرت الولايات المتحدة انحيازاً مطلقاً لإسرائيل، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن قرار المحكمة بأنه "مثير للغضب"، ورفض البيت الأبيض القرار جملة وتفصيلاً.
تصريحات مسؤولين أمريكيين، مثل مايك والتز الذي هدد بـ"رد قوي" من إدارة ترامب القادمة، تكشف عن استمرارية النهج الأمريكي في حماية إسرائيل من المساءلة القانونية.
على الجانب الآخر، تبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً داعماً، مع تأكيد جوزيف بوريل أن قرار المحكمة ملزم ويجب احترامه، وأعربت دول أوروبية عديدة، بما فيها فرنسا وهولندا، عن استعدادها لتنفيذ مذكرات الاعتقال. وحتى بريطانيا، التي كانت داعمة تقليدياً لإسرائيل، أبدت التزامها بقرار المحكمة. أما في إسرائيل، فقد كان وقع القرار بمثابة زلزال سياسي. نتنياهو، الذي أصبح مطلوباً دولياً، وصف القرار بأنه "معادٍ للسامية"، بينما عبّر قادة المعارضة عن مواقف مشابهة، مما كشف عن اصطفاف داخلي موحد لحماية منظومة الاحتلال. القرار الدولي حدّ من حركة نتنياهو، إذ أصبح محظوراً عليه دخول 124 دولة موقعة على ميثاق روما، مما يشكل ضربة كبيرة لصورة إسرائيل على الساحة الدولية.
صدمة الاحتلال
داخل إسرائيل، كان وقع القرار كالصاعقة، تصاعدت ردود الفعل الغاضبة، حيث وصف نتنياهو القرار بأنه "تحيز ضد السامية"، فيما اعتبره وزير الطاقة، "عاراً تاريخياً". الغريب أن المعارضة الإسرائيلية، رغم خلافاتها مع حكومة نتنياهو، اصطفت خلفه، مما أظهر وجهها الحقيقي كجزء من منظومة الاحتلال التي تسعى للإفلات من العقاب.
تأثير القرار على نتنياهو
بات نتنياهو مطلوباً دولياً، حيث يُمنع من دخول 124 دولة موقعة على ميثاق روما. لن يستطيع التحدث -مرة أخرى- من منصة الأمم المتحدة كما اعتاد، ولن يجرؤ على حضور القمم الدولية. هذا القرار يحدّ من قدرته على ممارسة السياسة الدولية ويُظهر إسرائيل كدولة خارجة عن القانون.
في الختام، تشكل الجرائم التي ترتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، من إبادة جماعية وتشريد قسري وحصار خانق، شاهداً مأساوياً على وحشية الاحتلال وتجاهله لكل المواثيق الدولية. هذه الانتهاكات المروعة التي استهدفت المدنيين، والصحفيين، والكوادر الطبية، ومنظمة الاونروا وحتى دور العبادة، والمدارس والمشافي، وكل المرافق والمؤسسات الخدمية التي تعرضت عن عمد للتدمير بالكامل، بالإضافة إلى تدمير الأحياء السكنية، ليحول الاحتلال الفاشي غزة إلى أرض محروقة، تعكس سياسة ممنهجة تهدف إلى القضاء على حق الشعب الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة على أرضه وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.
إزاء هذا الواقع، جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية ليضع حداً للإفلات من العقاب، مؤكداً أن العدالة الدولية قادرة على مواجهة جرائم الحرب الإنسانية والانتصار لحقوق الإنسان. يمثل هذا القرار منعطفًا مهمًا في مسيرة محاسبة المجرمين من قادة الاحتلال، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، الذي بات مطلوباً للمساءلة الدولية، إلى جانب المسؤولين المتطرفين في حكومته وداعميهم الديمقراطيون في أمريكا وأوروبا الاستعمارية. لن يتمكن هؤلاء من الهروب من تهمة الإجرام، ولن تتيح لهم الدول الموقعة على ميثاق روما أي مساحة للتهرب من المحاسبة.
إسرائيل، التي طالما اعتمدت على الدعم الدولي لإخفاء جرائمها، تواجه الآن عزلة غير مسبوقة وخيبة أمل في قدرتها على الالتفاف على القانون الدولي. لقد فشلت في فرض روايتها على العالم، وأصبحت جرائمها موثقة أمام أعين الجميع. هذه الخطوة تُظهر أن إرادة العدالة أقوى من أي قوة غاشمة، وأن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره لا يمكن إخماده، مهما بلغت محاولات الاحتلال فرض القوة الغاشمة. فهذا القرار يمثل انتصار للذين عانوا وصبروا في فلسطين ولبنان، وتأكيد لقضيتهم العادلة، وإدانة لمن وضعوا أيديهم، سرا أو علانية، بيد مجرمي حرب إبادة فاضحة بل وحاولوا تبريرها.