توفيق سلاّم
في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها النظام العالمي، تتصدر الصين المشهد كقوة اقتصادية وتكنولوجية تنافس الهيمنة الغربية التقليدية. باتت الصين رمزًا لنموذج اقتصادي غير مسبوق، يحقق إنجازات عملاقة في مجالات عدة، معززة بذلك مكانتها كلاعب رئيس في الاقتصاد العالمي. هذا الواقع الجديد وضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، التي تسعى بكل الوسائل إلى تحجيم هذا الصعود من خلال سياسات اقتصادية واستراتيجية معادية للصين.
بريكس.. منصة التغيير العالمي
يشكل تكتل بريكس قوة ديموغرافية واقتصادية ضخمة، حيث يضم 45 بالمائة من سكان العالم، ويغطي حوالى 34 بالمائة من مساحته، ويساهم بنحو 37 بالمائة من الناتج العالمي.
في قمة قازان الأخيرة، أطلق "إعلان قازان"، داعيًا إلى إعادة صياغة النظام العالمي ليصبح أكثر عدالة وتمثيلًا، بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية. يُقدم هذا التكتل، من خلال مبادرة "بريكس بلس"، نموذجًا عالميًا متنوعًا ومفتوحًا، يرتكز على المصالح المشتركة، مما يجعله منصة لإعادة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وأكد الإعلان على ضرورة إعادة صياغة النظام العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة لعقود. كما ركز الإعلان على الحاجة إلى نظام متعدد الأقطاب يعكس الحقائق الجديدة للعالم. ما يميز مجموعة بريكس هو طبيعتها غير الإيديولوجية وانفتاحها على انضمام دول جديدة، مما يجعلها قوة جاذبة لدول الجنوب العالمي الباحثة عن العدالة الاقتصادية والسياسية.
أبرز ما ورد في الإعلان هو التأكيد على أن المؤسسات العالمية الحالية، مثل مجلس الأمن، غير تمثيلية وتفتقر إلى العدالة، كما انتقد الإعلان النظام الاقتصادي العالمي الراهن الذي يخدم مصالح دول مجموعة السبع الصناعية فقط، وهي دول لا تمثل سوى 15 بالمائة من سكان العالم.
الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي
تمثل الصين نموذجًا فريدًا في التنمية، حيث نجحت في تحويل نفسها من دولة نامية إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال عقود قليلة، إنجازاتها لم تقتصر على الاقتصاد فقط، بل شملت أيضًا مجالات التكنولوجيا، الطاقة، والبنية التحتية.
فحققت الصين خلال العقود الماضية إنجازات هائلة في مجالات التقنية والاقتصاد، مما جعلها تتفوق على الولايات المتحدة ودول مجموعة السبع في عدة مؤشرات. على سبيل المثال: تصدرت العالم في إنتاج الطاقة المتجددة وصناعة السيارات الكهربائية، حيث تنتج أكثر من نصف مليون سيارة شهريًا. وبلغ استهلاكها للطاقة عام 2023 حوالى 170.8 إكساجول، مقابل 94 للولايات المتحدة، مما يعكس حجمها الاقتصادي الهائل. ونقلت أكثر من نصف مليار شخص من الفقر إلى الرفاه، في إنجاز تنموي غير مسبوق تاريخيًا.
وتتصدر الصين العالم في التجارة الخارجية، حيث أصبحت أكبر مصدر ومستهلك للسلع في العالم.
إذ تجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني نظيره الأمريكي من حيث القوة الشرائية، مما يعكس التحول في التوازن الاقتصادي العالمي. وأصبحت الصين رائدة في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث تستثمر بشكل مكثف في هذا المجال. وفقًا لتقارير حديثة، تُعد الصين الدولة الأكثر إنتاجًا للأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، متقدمة على الولايات المتحدة. وتطبق الذكاء الاصطناعي في العديد من المجالات، مثل التصنيع، الرعاية الصحية، والمدن الذكية، مما يعزز كفاءتها الاقتصادية ويزيد من قدرتها التنافسية. كما تتصدر دول العالم في نشر شبكات الجيل الخامس من خلال شركاتها الرائدة مثل "هواوي"، مما يمنحها ميزة استراتيجية في الاقتصاد الرقمي. هذا التفوق التكنولوجي أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها، ما دفعهم إلى فرض قيود على استخدام التقنيات الصينية. فالصين الآن من أكبر دول العالم في تسجيل براءات الاختراع، حيث تجاوزت الولايات المتحدة في هذا المجال منذ عام 2019.
وبالإضافة لذلك فهي تتصدر دول العالم في الاستثمار في الطاقة المتجددة، مما يعكس طموحها لتحقيق التنمية المستدامة.
إجماع بكين
شهد العالم خلال العقود الماضية هيمنة النموذج الأمريكي الذي يروج لليبرالية الاقتصادية والديمقراطية. لكن الأزمات التي واجهتها واشنطن، مثل الأزمة المالية في 2008، فتحت الباب أمام بروز "إجماع بكين"، كنموذج بديل يعتمد على قيم مثل الجدارة والكفاءة السياسية، بدلاً من الديمقراطية الغربية التي غالبًا ما تكون عرضة للشلل السياسي. يرى الصينيون أن نظامهم السياسي قادر على تحقيق أهداف التنمية بشكل أكثر كفاءة، وهو ما أثبتته الإنجازات الاقتصادية التي حققوها. ومع استمرار الصراع بين الصين وأمريكا، يواجه العالم تحديات عدة،
اقتصادية: تأثير الحروب التجارية بين البلدين على الاقتصاد العالمي.
سياسية: زيادة الاستقطاب بين القوى الكبرى وتأثيره على استقرار النظام الدولي.
بيئية: حاجة العالم إلى التعاون في مواجهة تحديات مثل تغير المناخ، وهو ماقد يصعب تحقيقه في ظل التوترات الحالية.
ملامح نظام عالمي جديد
يتحول النظام العالمي تدريجيًا من هيمنة النموذج النيوليبرالي الغربي إلى "إجماع بكين"، الذي يعكس قيمًا مختلفة ترتكز على الجدارة والكفاءة. وتروج الصين لنموذجها كنظام قادر على تحقيق رفاه اقتصادي واجتماعي، في تحدٍ صريح للديمقراطية الليبرالية الغربية التي تواجه أزمات متكررة.
بينما تسعى أمريكا للحفاظ على نظامها القائم عبر شبكة من الحلفاء، تعمل الصين على تعزيز وجودها من خلال تحالفات اقتصادية واستراتيجية واسعة. قمة بريكس الأخيرة سلطت الضوء على طموحات دول الجنوب العالمي في بناء نظام أكثر عدالة، في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحديات داخلية وخارجية تعيق قدرتها على فرض هيمنتها التقليدية. وهذا يعني أن العالم بات يشهد اليوم صراعًا غير مسبوق بين نموذجين: النموذج الغربي بقيادة الولايات المتحدة، والنموذج الآسيوي الذي تتصدره الصين وروسيا. هذا الصراع لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى السياسة والثقافة والقيم. ومع استمرار التغيرات الجيوسياسية والجيو-اقتصادية، يبدو أن مستقبل النظام العالمي سيتحدد بناءً على قدرة الأطراف المتنافسة على التكيف مع متطلبات العصر الجديد، حيث تتجه الأنظار إلى الصين كقوة صاعدة قد تعيد تشكيل العالم بأسره.
كبح الصعود الصيني
إدراكًا لحجم التحدي الذي تمثله الصين، تبنت الإدارة الأمريكية، خاصة في عهد دونالد ترمب السابقة، سياسات صارمة لتحجيم هذا الصعود. تمثلت هذه السياسات في:
1.فرض رسوم جمركية على السلع الصينية، مستهدفة تقليص فائضها التجاري الضخم مع الولايات المتحدة.
2.فرض قيود على المنتجات الصينية في أسواق الدول الحليفة، خاصة في أوروبا، ودول شرق آسيا، لتقليص تأثير الصين في تلك المناطق.
3.توظيف التوترات الإقليمية، في بحر الصين الجنوبي والمحيطين الهندي والهادئ، في إطار استراتيجية حصار شامل.
وهذا يعني أن الصراع بين الصين والولايات المتحدة ليس مجرد تنافس اقتصادي، بل هو صراع على شكل النظام العالمي المستقبلي. تسعى واشنطن للحفاظ على هيمنتها، بينما تقدم بكين نموذجًا جديدًا يعتمد على التعددية والعدالة الاقتصادية. ومع استمرار هذا التنافس، سيواجه العالم تحديات كبيرة، لكنه قد يشهد أيضًا نظامًا دوليًا أكثر توازنًا يعكس تنوع القوى العالمية ومصالحها المتشابكة.
بيد أن المتوقع من عودة ترمب، سيشكل معضلة هذا التحول، من خلال التركيز على الصين كأولوية استراتيجية للسياسة الأمريكية بهدف توجيه ضربات قاصمة للاقتصاد الصيني، وفرض قيود على المنتجات الصينية، وتعزيز التحالفات مع دول شرق آسيا لزيادة التوترات في بحر الصين الجنوبي والمحيطين الهندي والهادئ، ما يجعل الصين القيام باتخاذ محاذير، واجراءات لتجاوز العقبات، أمام أربع سنوات عجاف في مواجهة ترمب الذي يكن عداءً شديدًا للصين، ويعتبرها العدو الأول، كونها تسعى لاسقاط الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.
الخاتمة، يمثل الصراع الأمريكي الصيني اختبارًا لمستقبل النظام العالمي. في حين تسعى واشنطن للحفاظ على هيمنتها، تعمل بكين على تقديم نموذج جديد يقوم على التعددية والعدالة. ومع استمرار هذا التنافس، يبدو أن العالم يتجه نحو نظام التعدد القطبي الأكثر تنوعًا، حيث ستكون الدول مطالبة بالتكيف مع واقع جديد تحدده المصالح المشتركة والمتشابكة والنفوذ المتنامي لقوى جديدة قائمة على سياسة التوازنات.