عرب جورنال / توفيق سلاّم -
التصعيد الإسرائيلي على لبنان يعكس توازنًا معقدًا بين الطموحات الإقليمية لإسرائيل للسيطرة على المنطقة، وبين التحديات التي تواجهها في مقاومة مشروعها الاستعماري. وفي ظل هذا الوضع، تلعب القوى الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة دورًا في توجيه مسار الصراع، لفرض معادلات جديدة، تسعى بوصول إسرائيل للهيمنة المباشرة على المنطقة. لكن النتيجة النهائية تعتمد على قدرة الأطراف المحلية على إدارة التوترات وفق معادلة توازن الردع، في مواجهة المشاريع الاستعمارية.
عزلة إسرائيل
الوضع الحالي في المنطقة يعكس تصاعدًا كبيرًا في التوترات والصراعات، حيث تبدو إسرائيل في وضع غير مسبوق من حيث العزلة السياسية، مع تزايد الانتقادات الدولية بسبب أعمالها الإجرامية في قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى جنوب لبنان، وفشلها في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية، خاصة فيما يتعلق بتوسيع نفوذها، وفرض سياسات على الساحة اللبنانية والفلسطينية، يُظهر قدرة المقاومة، حماس وحزب الله، على تعديل توازن القوى وفرض قواعد اشتباك جديدة. حيث أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرة كبيرة على المواجهة الطويلة منذ السابع من أكتوبر الماضي، مستفيدة من الدعم الشعبي الداخلي، والتضامن العالمي وتجربة قتالية قوية. وهذا الواقع ذاته في الصمود تواجهه إسرائيل في جنوب لبنان. كل ذلك يعقّد محاولات إسرائيل تحقيق مكاسب تكتيكية واستراتيجية، سواء في لبنان أو فلسطين، أو في سياق التطبيع مع الدول العربية. كما أن الضغوط الدولية والإقليمية، إلى جانب الاحتجاجات الشعبية، تزيد من تحديات إسرائيل وحلفائها الغربيين. وتجد أمريكا نفسها في موقف حرج أمام الرأي العالمي، حيث يتزايد الرفض الشعبي والسياسي لدورها الداعم لإسرائيل، للاستمرار في الحرب وارتكاب مجازر الإبادة الجماعية بحق المدنيين بقطاع غزة، التي سوتها بالأرض، ودمرت البنية التحتية بالكامل، فرضت الحصار، والتهجير القسري، والاعتقال وإلى ما هنالك من أعمال فاشية مروعة ومفتوحة، لفرض إرادتها بالقوة، وتوسيع مستعمراتها وقضم الأراضي العربية، وخططها القريبة والبعيدة للسيطرة على المنطقة، وإقامة تحالف عسكري تحت قيادتها، لتوسيع خارطة نفوذها.
يبدو أن هناك فجوة تتسع بين السياسات الأمريكية والمواقف التي تتبناها الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا حقوق الإنسان والقانون الدولي.
وما تفعله إسرائيل وأمريكا الآن يقود إلى توترات أكبر في المنطقة، مع احتمالية انتشار الصراع واندلاع مواجهات جديدة.
مبادرات دبلوماسية
الخطر يكمن في أن استمرار هذا النهج العدواني قد يشعل صراعات إقليمية أوسع، قد يؤدي هذا إلى إعادة تشكيل التحالفات وتغيير مسار السياسة الدولية تجاه إسرائيل، ما لم يحدث تغير جذري في مواقف القوى الكبرى وتحركاتها في المنطقة، وحتى الآن تبدو المبادرات الدبلوماسية غير مثمرة، لاحتواء الوضع النازف. ويبدو أن الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل هو ما يجعلها على خط متوازٍ مع إسرائيل. فالتصعيد في جنوب لبنان يأتي في إطار تدخلات دولية متعددة الأبعاد، لا تعمل على التهدئة، وإنما تثير التوترات أو توجهها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. فالولايات المتحدة تقدم نفسها شريكًا وطرفًا رئيسًا في الحرب، بتقديم الدعم الكبير لإسرائيل عسكريًا وسياسيًا وماليًا واستخباريًا، وتعمل على تأكيد التزامها بأمن إسرائيل من أي تهديدات إقليمية حسب زعمها. زيارة بلينكن لتل أبيب في هذا التوقيت تشير إلى حرص واشنطن على تنسيق الردود، وتعزيز العلاقات مع إسرائيل في ظل التوترات القائمة. وعلى ذات السياق
تلعب فرنسا دورًا نشطًا في محاولة لدفع العملية السياسية اللبنانية، بما في ذلك السعي لحل الأزمة الرئاسية، في ظل هذا المناخ المعقد الذي يشهد تصعيدًا عسكريًا على جنوب لبنان، وكأن بها تريد استثمار هذا الوضع في ترتيب أوراق اللعبة، هذا أولاً. وثانيًا، يبدو أن جهودها تصطدم بحالة من الانقسام السياسي الحزبي، ومواقفها المتباينة، من محاولة ضبط إيقاع الأزمة.
لهذه الأسباب وغيرها، فإن التصعيد الإسرائيلي يزيد من حدة الخلافات بين القوى السياسية في لبنان، لا سيما حول دور حزب الله في مواجهة إسرائيل.
التدخلات الأممية: الأمم المتحدة من خلال قوات اليونيفيل المنتشرة في جنوب لبنان تسعى إلى تهدئة الوضع ومنع التصعيد، لكن فعاليتها محدودة في ظل التوترات الميدانية، وانعدام الثقة بين الأطراف المعنية. دور اليونيفيل بات محل جدل مع اتهامات من كلا الطرفين بعدم القدرة على منع التصعيد أو ضبط الأوضاع، مع تزايد التدخلات الدولية في الشأن اللبناني يعني أن القرار الداخلي بات مرتبطًا بشكل أكبر بالإرادة الدولية والإقليمية، سواء من خلال الضغط على حزب الله لخفض التصعيد أو من خلال دعم الجهود الدبلوماسية لانتخاب رئيس جديد.
الموقف العربي
الموقف العربي من التطورات الجارية في فلسطين ولبنان يعكس حالة من التردد والانقسام بين الأنظمة والحكومات، رغم أن الأحداث تمس مباشرة أمنها واستقرارها وتهديدًا لكياناتها. هذا الموقف، الذي يوصف بأنه مخزٍ، يعود إلى أسباب عدة، منها الانقسامات الداخلية في الصف العربي، والتبعية السياسية والاقتصادية لقوى دولية، إضافة إلى انعدام استراتيجية عربية موحدة لمواجهة هذه التحديات.
بعض الدول العربية اختارت مسار التطبيع مع إسرائيل، معتقدة أن ذلك قد يحقق لها نوعًا من الاستقرار أو المكاسب الاقتصادية، متجاهلة تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني والقصف المتكرر على غزة والضفة.
ويبقى السؤال: متى سيظهر النظام السياسي العربي في غالبيته العظمى مساندًا وداعمًا للقضية الفلسطينية؟ يبدو هذه هي الحلقة المفقودة في الاستقواء وفرد العضلات في سيل الدم النازف، والخراب والدمار.
في عام 2006م، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس، من قلب الخراب والدمار في لبنان، أن الشرق الأوسط الجديد سيخرج من هنا، فخرجت هي تجر أذيال الخيبة. المقاومة اللبنانية أنجزت تحرير أرض الجنوب اللبناني المحتل، عام 2000م. والآن عاد الصهاينة لنفس السيناريو. وهو منذ عام يمارس بقطاع غزة بقيادة نتنياهو، ومعه كل الغرب الاستعماري، حرب "إبادة جماعية"، ويكرر إعلان أنه سيفرض خرائط الشرق الأوسط الجديد. هذه الأوهام الميؤسة تحولت إلى جرائم إنسانية فضيعة أمام أنظار العالم، وأمام النظام السياسي العربي الذي ما يزال يبحث عن حل للقضية الفلسطينية في عواصم الدول المعتدية والشريكة في العدوان على فلسطين ولبنان. وخلال عام كامل لم يظهر موقفًا أقل وأدنى من موقف بعض دول الاتحاد الأوروبي، أو من مواقف بعض دول أمريكا اللاتينية، ودول في أفريقيا، هناك دول اتخذت مواقف شجاعة بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.
القضية الفلسطينية من لحظة "كامب ديفيد"، وصولاً لـ "التطبيع الإبراهيمي" تخلى عنها العرب، لصالح المستعمر الصهيوني/ الأمريكي. ولم تعد أمريكا تبدي مخاوفها وقلقها من تحول الموقف العربي جراء حرب الإبادة وتداعياتها الإقليمية والدولية عليها، حينما رأت صمتًا مسكونًا بالتواطؤ،
أدركت أن لا سقف أمام عدوانها في دعم الكيان الصهيوني وفي استمرار حرب الإبادة حتى لو تحولت إلى حرب شاملة. خاصة في ظل موقف المجتمع الدولي الصامت ومؤسسات الأمم المتحدة التي ليس بيدها أكثر من بيانات الإدانة، لما يجري بعد أن عطلت أمريكا "مجلس الأمن"، وكل المؤسسات الدولية عن تنفيذ أي قرار ضد الكيان الصهيوني. للأسف بيد النظام السياسي العربي أوراق كثيرة لوقف الحرب في غزة في غضون ساعات لو أراد ذلك. دون أن يشترك عسكرياً في الحرب، ودون أن تطلق رصاصة واحدة. التطبيع تعتبره إسرائيل مكسبًا عظيمًا لم تكن تحلم بالوصول إليه. فهل العرب قادرون على استخدام هذه الورقة لوقف الحرب؟
الأنظمة العربية تواجه اليوم أزمة في تبرير مواقفها أمام شعوبها، التي تزداد غضبًا بسبب المشاهد الدامية، والكارثة المأساوية في معاناة الفلسطينيين والانتهاكات المستمرة بحقهم. على الجانب الآخر، تبقى بعض الدول ملتزمة بدعم القضية الفلسطينية ومساندة الشعب الفلسطيني، ولكنها تفتقر إلى الوسائل والقدرات اللازمة للتأثير الفعّال على المستوى الدولي أو لوقف الاعتداءات الإسرائيلية. الدعم العربي الرسمي محدود، وغالبًا ما يقتصر على بيانات الإدانة والتضامن اللفظي، في ظل غياب تحرك عملي يرقى إلى مستوى التحديات التي تواجه المنطقة.
والواقع هو أن الساحة العربية تشهد فجوة كبيرة بين الأنظمة الرسمية والشعوب. فالشعوب العربية تعبر عن دعمها القوي للمقاومة ورفضها للجرائم الإسرائيلية، بينما تبدي الحكومات مواقف متباينة بين الحذر والصمت. وهذا التباين يضعف القدرة على تشكيل موقف عربي موحد ومؤثر، مما يسمح لإسرائيل بمواصلة سياساتها العدوانية دون مواجهة ضغوط حقيقية من العالم العربي.
وفي الأخير، فإن هذه التطورات تمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي العربي، فاستمرار التوترات والاعتداءات الإسرائيلية يزيد من احتمالية زعزعة الاستقرار في الدول المجاورة، ويفتح الباب أمام تدخلات أجنبية إضافية. وعدم اتخاذ موقف عربي موحد وجدي لمواجهة هذه التحديات يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التفكك في المنطقة، مما يعرض المصالح العربية للخطر على المدى القريب والبعيد.