عرب جورنال / توفيق سلاّم -
الحرب الصهيونية على جنوب لبنان هو جزء من صراع معقد ذو أبعاد سياسية، وعسكرية، وجغرافية، يمتد لعقود عديدة، ويتأثر بالعديد من العوامل المحلية والإقليمية والدولية. ويسعى حزب الله إلى مقاومة الوجود الإسرائيلي في المنطقة ويعتبر إسرائيل كيانًا غير شرعي يجب إزالته، فهو
يشكل تهديدًا وجوديًا للشعب الفلسطيني، وللأمن القومي العربي. تقوم سياسته على التوسع الاستيطاني في بناء المستعمرات للوافدين من خارج فلسطين منذ العام 1948، وهو بالإضافة إلى ذلك محتلاً غازيًا ومغتصبًا للأراضي العربية منذ حرب 1967، ويسعى لبسط نفوذه بالقوة العسكرية والتهديد. وتسعى الولايات المتحدة لدمجه في المنطقة وفي النسيج المجتمعي، وهذا ما هيأت له الإدارة الامريكية بتطبيع العلاقات مع بعض الأنظمة العربية، بما يسمى صفقة القرن، برعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي سجل فيها نتنياهو اختراقًا جيو سياسيًا جديدًا في الشرق الأوسط، إضافة إلى إتفاقيات التطبيع مع مصر والأردن. فالصراع بين حزب الله وإسرائيل، ليس مجرد صراع حدودي، بل هو جزء من التوترات الإقليمية بين المحور الإيراني والمحور الغربي والعربي الذي تدعمه الولايات المتحدة. وبالتالي، فإن هذا الصراع يتشابك مع قضايا أوسع في المنطقة والإقليم. وفي المجمل، فإن جوهر الصراع، هو نتاج مزيج من المشروع الاستعماري، والتوسع الاستيطاني والمصالح الجيوسياسية الغربية، لبقاء كل عوامل الهيمنة والنهب والسلب ضمن سياسة القطب الواحد التي تعزز الانقسامات، وتفكيك الأنظمة، وإعادة النظر في إتفاقية سايكس بيكو، لرسم خارطة شرق أوسطية جديدة. هذه المشاريع الاستعمارية القديمة- الجديدة هدفها احتواء المنطقة، التي تنفذ أجنداتها اليوم العربدة الإسرائيلية، وهي مرشحة للتوتر والتصعيد، طالما بقيت تلك العوامل قائمة.
الحرب على جنوب لبنان
الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان تُعد واحدة من أبرز النزاعات التي تركت بصماتها العميقة في التاريخ السياسي والعسكري للشرق الأوسط. اندلعت هذه الحروب في أكثر من مرحلة، لكن أكثرها دموية كانت في عام 1982، وعام 2006. تحليل هذه الحرب يتطلب النظر في عوامل متعددة تشمل الأبعاد التاريخية، والسياسية، والإقليمية، والدولية، إضافة إلى توازنات القوى والتغيرات التي حدثت منذ ذلك الحين، يمكن التطرق لها باختصار على النحو التالي:
الأبعاد التاريخية
الحرب بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية، ترتبط بشكل مباشر بالحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، والوجود الفلسطيني المسلح في لبنان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وحرب العام 1982، التي جاءت نتيجة لتزايد العمليات العسكرية للفصائل الفلسطينية ضد الاحتلال انطلاقًا من الأراضي اللبنانية. اجتاحت إسرائيل جنوب لبنان وصولاً إلى بيروت في محاولة لتدمير البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية وطردها من لبنان. أدى هذا التدخل إلى تأسيس مقاومة لبنانية ضد الاحتلال الصهيوني، وشكل حزب الله أحد مكوناتها الرئيسة بعد أن تأسس عام 1985.
بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، تحت ضغط المقاومة، وهو العام الذي انسحبت فيه بشكل غير مشروط، بعد مقاومة شرسة من حزب الله، ما اعتبر انتصارًا للمقاومة اللبنانية. وتحول حزب الله إلى قوة عسكرية وسياسية بارزة في لبنان، وهو ما خلق حالة من التوتر الدائم بينه وبين الكيان الصهيوني.
حرب 2006
في يوليو 2006، شنت إسرائيل حربًا كبيرة على لبنان بعد عملية أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين. الحرب استمرت 33 يومًا على جنوب لبنان، وتسببت في دمار هائل للبنية التحتية اللبنانية وسقوط العديد من الضحايا المدنيين. إسرائيل سعت لتدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية لحزب الله وإضعافه عسكريًا وسياسيًا، إلا أن النتائج جاءت بعكس التوقعات، فقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها. بينما تمكن الحزب من الحفاظ على قدراته العسكرية واستمراره في المشهد السياسي اللبناني والإقليمي بشكل أقوى، ومن ثم زاد الصراع أكثر تعقيدًا، وتنظر إليه إسرائيل بأنه يشكل بؤرة تهديد على خاصرتها الشمالية، لاسيما وهي تنظر إلى جنوب لبنان مناطق يمكن احتلالها مع توسع استيطانها على الشمال الفلسطيني المحتل على المدى القريب والبعيد، وإنشاء منطقة عازلة. وهو ما ظهر بشكل واضح الآن، بشن الاحتلال غارات جوية مكثفة في استهداف السكان المدنيين، بقصف المدن والقرى والبلدات ما تسبب بنزوح عشرات الآلاف إلى سوريا وغيرها من مناطق الجوار، ومحاولة جيش الإحتلال ضرب البنية التحتية للمقاومة، والتوغل البري في عمق الجنوب اللبناني، وإعادة المستوطنين إلى الشمال. كل هذه المحاولات تواجه بمقاومة شرسة، يتكبد فيها جيش الاحتلال خسائر كبيرة، في الأرواح والآليات العسكرية.
حرب استنزاف
جنوب لبنان يُعتبر منطقة استراتيجية حساسة في سياق الصراعات الإقليمية، خاصة بين إسرائيل وحزب الله. وحرب الاستنزاف تعتمد على عدة عوامل، منها التضاريس الجغرافية، والقدرات العسكرية، والظروف السياسية المحلية والدولية. وهناك بعض النقاط الرئيسة في قراءة الوضع الحالي التي لابد من التطرق إليها وهي:
1.التضاريس الجغرافية: منطقة جنوب لبنان، بطبيعتها الجبلية والصخرية، توفر لحزب الله ميزة دفاعية كبيرة، وهذا يعني بأن الأرض تقاتل مع أهلها. ومن هنا تبدو صعوبة جيش الاحتلال القيام بعمليات برية دون تكبد خسائر كبيرة، وتجعل من السهل على المقاومة استخدام تكتيكات حرب العصابات وحرب الاستنزاف.
2.حزب الله يمتلك ترسانة صاروخية متطورة، تشمل صواريخ قصيرة وبعيدة المدى، فضلاً عن قدرات دفاعية متقدمة. التنظيم يعتمد، على كتائب مستقلة في المواجهة، وتنفذ ما هو معد مسبقًا في الخطط الميدانية، وما يستجد من أي تغييرات، وبالإضافة إلى ذلك، فهي تعتمد على شبكة واسعة من الأنفاق والتحصينات تحت الأرض، ما يجعلها قادرة على الاستمرار في القتال حتى مع الضربات الجوية الإسرائيلية.
3.من جهة إسرائيل، فإن جيشها يمتلك قدرات عسكرية هائلة وتكنولوجيا متقدمة، بما في ذلك التفوق الجوي والاستخباري. لكن التفوق التكنولوجي لا يعني التفوق في الميدان، فالميدان هو للمقاومة اللبنانية، وهي تخضع التفوق التكنولوجي بعمليات نوعية، وهذا في الحقيقة ينفي سردية إسرائيل بأنها باغتيال القادة السياسيين تستطيع تحقيق انتصارات ميدانية. استراتيجية الحرب الحالية هي الاستنزاف لقدرات جيش الاحتلال في معركة طويلة الأمد، ويبدو هذا ما يفقد إسرائيل توازنها، مع كلفة الحرب التي تستنزف مواردها، وتضاعف من حجم الأزمات المركبة في الداخل الإسرائيلي الذي يعيش واقع اقتصادي فيه تكاليف المعيشة مرتفعة، وحالة من الرعب والهلع، وعدم الاستقرار .. نحن نتحدث عن حرب استنزاف، وعجز جيش الاحتلال فارق التسليح على إحداث ثغرة اختراق في صفوف المقاومة. ويبدو أن عامل الخوف مسيطر على الحالة المعنوية والنفسية للجنود، خصوصا وأن المقاومة على جاهزية كاملة، لحرب استنزاف طويلة.. وهذا ما يجعل جيش الاحتلال يتردد في الدخول في مواجهة برية طويلة، حيث أن الخسائر البشرية والمادية قد تكون عالية.
4.الوضع السياسي في لبنان معقد، وحزب الله ليس فقط مقاومة مسلحة، بل هو أيضًا لاعب سياسي قوي في الداخل اللبناني وعلى الصعيد الإقليمي. لذا، أي حرب استنزاف قد تؤثر بشكل مباشر على التوازن السياسي في لبنان، أما على الصعيد العسكري والميداني، فهناك الإمدادات من سوريا، ولايبدو أن إسرائيل تستطيع قطع خطوط الإمدادات، فهناك شبكة واسعة من الطرق في مصادر الإمدادات لدعم المقاومة، وهذا يخلق تلاحم جبهي وعمق استراتيجي، ربما تتحاشى سوريا الدخول فيه في الوقت الراهن، لكن التدرج في التوتر قد تجبر الأطراف كلها الدخول في الحرب، عندما ترى ذلك تهديدًا لسيادة دولها وأمنها القومي.
5.الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في لبنان، قد تجعل من الصعب على السكان تحمل المزيد من التصعيد العسكري. وبالتالي، قد تواجه الأطراف ضغطاً محلياً ودولياً لتجنب حرب طويلة الأمد. لذلك لن يستطيع نتنياهو التحكم في إيقاع الحرب، لا سيما وأن الجنوب اللبناني يتميز بعمق جغرافي كبير، وليس مثل غزة، لتصبح منطقة
الجنوب مؤهلة لحرب استنزاف بسبب طبيعة التضاريس الجغرافية، وحزب الله يتميز بمراس حربي واحتراف عالي في القتال، وهو يجيد استخدام أساليب تكتيكية عديدة بالإضافة إلى القوة الصاروخية والطيران المسير في تهديد العمق الإسرائيلي ومراكزه الحيوية. وبدون تهويل لقدرات الجيش الإسرائيلي، فهو جيش تقليدي يعتمد على الوسائل النارية والحرب النظامية، وبدرجة رئيسة يعتمد على سلاح الجو في التمهيد الناري ومسح المناطق لدخوله، وهو يحاول بشتى الوسائل للوصول إلى مناطق التلال والقمم الجبلية، وهذا ما فشل فيه رغم التغطية النارية. ومن الواضح أن جيش الاحتلال منهك، وقدراته ضعيفة، ومعنوياته منكسرة في دائرة الخوف والهلع، بعد أن تضعضعت قدراته أمام فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، وهو على الأرجح يخاف من حروب الاستنزاف التي قد تستمر وقتًا طويلاً، فكل حروبه التي اعتاد عليها قصيرة. إذًا المعركة صعبة ومعقدة أمام جيش الاحتلال، ومع ذلك، أي قرار بالتصعيد سيعتمد على عوامل سياسية وعسكرية معقدة، ربما هذه المعركة ينتظرها حزب الله، في التلاحم والاشتباك عن قرب، وشل فاعلية الطيران والمدفعية، وعلى الوجه المقابل، تبدو رغبة إسرائيل تجنب حرب استنزاف طويلة الأمد، خصوصًا مع ظروف بيئة معقدة في تضاريسها، تجيد المقاومة التحرك عليها بمرونة، والتعامل مع قوات الإحتلال لتدمير قواته وآلياته.
عوامل إقليمية
الدور الإيراني والدعم السوري لحزب الله، على الرغم الأوضاع السياسية في سوريا، إلا أن دمشق كانت دائمًا حليفًا استراتيجيًا، فالعلاقات بين الطرفين تمتد إلى الدعم العسكري واللوجستي، كل ذلك يعزز من قوة الحزب، في توازن القوى الإقليمية، ولم يعد مجرد فصيل لبناني، بل أصبح لاعبًا إقليميًا قويًا. وتعتبر إيران الداعم الأساسي للمقاومة اللبنانية، في هذا الظرف الاستثنائي أمر في غاية الأهمية سواء بالتمويل أو التسليح أو غيرهما، للوقوف في وجه إسرائيل، ودعم ومساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية المشروعة في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
الوضع الداخلي للبنان
يشهد لبنان أوضاعًا اقتصادية مهترئة، فهناك أزمة اقتصادية وسياسية، وتفكك سياسي داخلي، في الانقسامات السياسية والطائفية، تجعل من الصعب على الدولة اللبنانية أن تكون لاعبًا قويًا في إدارة هذه الأزمات. هذا الوضع قد يقود إلى احتمالات أكبر لتفجر نزاع جديد، خاصة إذا استمرت الضغوط الإسرائيلية أو حدث تصعيد غير محسوب من أي طرف. فهذه الأوضاع وغيرها تجعل البلد في حالة ضعف شديد، وخاصة في ظل الفراغ الرئاسي وحكومة مؤقتة. هذا الضعف قد يشجع إسرائيل على محاولة استغلال الفراغ لفرض معادلات جديدة لفكفكة الحزب وإضعافه وتحويله إلى حزب سياسي منزوع السلاح. وبدأت القوى الدولية تطرح هذا الجانب، لاحتواء النظام اللبناني، واستغلال انشغال حزب الله بمواجهة إسرائيل، لإقامة انتخابات رئاسية. ويبدو أن هذه المشاريع لفرض واقع جديد في مثل هذه المناخات لايبدو مقبولاً.
فالوضع الحالي يتسم بتوتر دائم. وهذا ما يدفع به الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية التي تعزز من تعقيد الصورة، وهي لاعب أساسي في الحرب على غزة ولبنان، وتجسد صورة الشريك في الجرائم الإنسانية، بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني بدعم إسرائيل على مختلف الأوجه، وبالتواجد الأمريكي- العسكري الذي زاد من انتشاره في شرق البحر المتوسط بعد اغتيال إسماعيل هنية في طهران. وتصريحات البيت الأبيض علنًا، بالدفاع عن أمن إسرائيل، ومواجهة أي تهديد من جانب محور المقاومة. فالتصعيد المستمر من الجانب الإسرائيلي في جنوب لبنان، يعزز مخاوف من إمكانية اندلاع حرب شاملة، وهو ما تطرق إليه نتنياهو بقوله" قمنا بتدمير صواريخ حزب الله، وسوف نغير موازين القوة في الشمال". وهذا يعني إعادة احتلال جنوب لبنان، وربما العاصمة بيروت، وهو ما يطمح إليه نتنياهو، وأكثر من ذلك إلى تغيير خارطة الشرق الأوسط التي تحدث بها أمام الأمم المتحدة. تعتبر إسرائيل هذه الحرب فرصة مواتية، لضرب إيران. وهي تركز بدرجة رئيسة على ضرب البرنامج النووي، ومصانع إنتاج القوة الصاروخية.. وصرح نتنياهو بضرب إيران، ردًا على الهجوم الإيراني بالصواريخ التي وصلت تل أبيب وعدد من المدن الأخرى، فقال"إيران شنت هجومًا علينا بالصواريخ الباليستية، ومن واجبنا الرد وسنفعل". هذا الرد سيأتي بعده رد إيراني، ورد على الرد، ودخول أطراف عديدة في الحرب لتشتعل المنطقة بحروب دامية، لن تكون فيها إسرائيل في مأمن، ولا المصالح الأمريكية والأوروبية.
وأخيرًا، فإن الأوضاع في جنوب لبنان تمثل بؤرة توتر مزمنة قد تؤدي إلى حروب جديدة ما لم يتم إيجاد حلول سياسية مستدامة تعالج جذور النزاع، وهو أمر يبدو بعيد المنال في ظل الظروف الحالية. إسرائيل ماضية في حربها على غزة وجنوب لبنان، وهي تنتظر اللحظة للانقضاض على إيران، ويبدو التنسيق الأمريكي-الاسرائيلي أصبح مدروسًا، بعد زيارة قائد القوات المركزية الأمريكية لتل أبيب. ويبدو التركيز الأكبر في أي هجوم، تدمير المفاعل النووي، ومصانع إنتاج الصواريخ والطاقة، والبنية التحتية بدرجة رئيسة، وسيكون الرد الإيراني بالمثل وأعنف كما يقول وزير خارجية إيران عباس عراقجي. الحرب على لبنان ستكون مفتوحة، ودون رادع لضوابطها في ظل ضعف المؤسسات الدولية وعدم فاعليتها وانقسام المجتمع الدولي. ويبدو أن الرد الإسرائيلي على إيران، سيشعل المنطقة بحروب دامية لا حدود لها.