
عرب جورنال / كامل المعمري -
استوقفني هذا النص الشعري الجميل للشاعر الكبير معاذ الجنيد في رثاء الشهيد حسن نصر الله طويلا، حيث لا يمكن للقارئ إلا أن يتأمل عظمة الكلمات وتداخل المعاني بين الحزن والبطولة، بين الفقد والخلود.
فالنص يحمل بين طياته شحنة عاطفية مكثفة، تجسد عمق المشاعر الشعبية تجاه الشخصية المترثى .
رغم توقفي لسنوات عن قراءة النصوص الأدبية والسرد، والدراسات النقدية الا أن هذا النص جذبني بقوة إلى عالمه الفني والرمزي حتى وجدت نفسي مأخوذا بعالمه الفني والرمزي، كان لابد لي من التوقف عنده وإجراء تحليل ادبي يكشف عن جماليات هذا النص ومضامينه الفكرية والعاطفية التي تحمل أكثر من مجرد رثاء تقليدي، بل ترقى إلى مستوى الملحمة الأدبية التي تخلد الشهداء وتعيد رسم البطولة بصور شعرية خالدة.
بادئ ذي بدأ تستدعي هذه القصيدة فيضا من المشاعر والتأملات، وهي تندرج ضمن سياق الرثاء الملحمي، حيث يرثي الشاعر شخصية عظيمة لها مكانتها في الوجدان الجماعي للأمة، مستعينا بقيم دينية وتاريخية لتثبيت فكرة أن الموت لم يكن نهاية للشخصية بل بداية لخلودها الأبدي.
اولا عنوان القصيدة (ثالث الحسنيين) يعد اختيارا موفقا وذكيا من الشاعر معاذ الجنيد، حيث يحمل في طياته دلالات عميقة ويثير العديد من التأويلات. فالتسمية نفسها تعود إلى رمزية الحسين بن علي، الذي يعد رمزا للشهادة والتضحية في التراث الإسلامي، إذ يرتبط بالحسنيين (الحسن والحسين)، أبناء علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء.
عندما يصف الشهيد حسن نصر الله بـ (ثالث الحسنيين) يضعه الشاعر في مرتبة سامية ترتبط بأيقونات تاريخية كبرى مثل الحسن والحسين، مما يعزز مكانة نصر الله كرمز للمقاومة والشهادة في الزمن المعاصر.
هذا الربط بين الماضي والحاضر في العنوان يخلق جسرا معنويا بين الأجيال المختلفة من القادة الذين بذلوا حياتهم في سبيل القضايا العادلة، مضيفًا للقصيدة بعدًا ملحميًا.
العنوان أيضا يجذب الانتباه ويثير الفضول لدى القارئ، حيث يدفعه للتفكير في العلاقة بين نصر الله والحسينين، ما يفتح الباب لتأمل أعمق في النص والرسالة التي يود الشاعر إيصالها.
بهذا المعنى يعبر عن جوهر القصيدة ويعزز من قيمتها الأدبية والرمزية.
حاشا لمِثلِكَ أن يموتَ بِداءِ
فوق الفِراشِ كمِيتَةِ الجُبناءِ
ما جئتَ إلا كي تعيشَ مُخلَّداً
في الأنبياءِ وحضرةِ الشهداءِ
عُمراً (حُسينيَّ) الملاحِم عِشتَهُ
لا ينقضي إلا ببذلِ دماءِ
الشاعر يبدأ نصه بتقديم تمهيد فوري للقارئ أن الميتة هنا ليست كسائر الميتات، فهو يرفض موت البطل على فراشه "كميته الجبناء"مما يعكس منذ البداية موقفا حاسما تجاه الموت ويؤسس لرؤية فلسفية تتعامل مع الموت كفعل بطولي يتماهى مع التضحية، والخلود من خلال الشهادة.
القصيدة تتنقل بين حاضر البطل وماضيه، فيتعامل الشاعر مع الشخصية المترثى كأنها جزء لا يتجزأ من سلسلة بطولية تتصل بالأنبياء والشهداء، مما يضفي على النص بعدا روحانيا متساميا من خلال هذه الحركية الزمنية، لا يكتفي الشاعر بتقديم الرثاء كتأمل في الموت، بل يجعله فعلا مستمرا في الزمان والمكان، ويضفي عليه شرعية قدسية تجعله جزءا من أسطورة الأمة وبطولاتها.
يا من تدارَكتِ العُروبةُ نفسها
بخُطاهُ عند تسارُعِ العُملاءِ
يا فجرَ (آيَّار) البهيِّ وشمسَ (تـ
مُّوز) العظيمِ ونبعَ كلِّ ضياءِ
يا كسوةَ (البيتِ الحرامِ) وقِبلةَ
(الأقصى الشريفِ) وغَوْرَ (غارِ حِراءِ)
يا سورةَ (النصرِ) التي بمجيئكَ
ابتدأت وغايةَ سورةِ (الإسراءِ)
لغة الشاعر تمزج بين الفخامة والحميمية، حيث يعتمد على صور بلاغية مكثفة تقترب من الأسلوب الملحمي، فتأتي الجمل محملة بالدلالات الكبرى مثل، يا سورة النصرِ التي بمجيئكَ ابتدأت هذه الصورة تكشف عن عمق الاعتقاد لدى الشاعر بأن هذا الشخص لم يكن مجرد فرد عادي، بل هو جزء من نسيج تاريخي وديني حي تتكرر الإشارات القرآنية والدينية بشكل لافت، مما يضفي على النص طابعا إيمانيا واحتفاليا بالشخصية.
يبرز الشاعر شخصية الفقيد الشهيد حسن نصر الله كرجل عاش حياة مليئة بالجهاد، متشبثا بمبادئه (عمراً حسيني الملاحم عشته) فالشاعر هنا لا يوظف اسم الحسين فقط كرمز، بل يجعله لب الروح البطولية للفقيد، وهكذا تتماهى شخصية الشهيد مع القيم الحسينية، وهي قيم الكرامة، الفداء، والرفض القاطع للاستسلام.
القصيدة غنية بالصور الشعرية التي تسعى لترسيخ حضور الشهيد في أذهان الأجيال المقبلة، فالدم الزكي الذي يقدمه الشاعر في البيت (دمك الزكي وضوء فرض صلاتنا) يحمل رمزية عالية، ويؤكد على أن هذا الفداء هو طقس جماعي يشاركه الجميع في صلاة واحدة، مما يجعل من هذا الدم رمزا موحدا للأمة بأسرها.
سافرتَ من عصرِ النبيِّ لعصرنا
بمُهِمَّةٍ أتممتها بوفاءِ
والآن عُدتَ إلى (الوصيِّ).. و(أحمدٌ)
فتَحَ الكِساءَ وقال: عُد لكِسائي
> Ben M:
يا (حمزةَ) الثاني لدينِ (محمدٍ)
يا ثالثَ (الحسنيين) ل(الزهراءِ)
دمُكَ الزكيُّ وُضوءُ فرضِ صلاتنا
في المسجدِ الأقصى مع الشُرَفاءِ
الإشارات الرمزية إلى الشخصيات التاريخية مثل حمزة علي و الحسين ليست مجرد أسماء عابرة، بل تحمل في طياتها امتدادا تاريخيا ومعنويا، فالشاعر يستدعي كل هذه الرموز لتأكيد أن الشهيد ينتمي إلى سلسلة من الرجال العظماء الذين شكلوا مسار الأمة وبنوا تاريخها بدمائهم.
النص يتصاعد في نبرته الحماسية ويزداد تأثيره في نفس القارئ، مما يخلق حالة من التأمل العميق في دور البطولة والشهادة في صياغة مصير الأمة.
الشاعر هنا لا يتوقف عند الحزن فقط، بل يجعل من هذا الحزن قوة دافعة للاستمرار والنضال (حزن تعاهدنا على تفجيره حمما) وبهذا يتجاوز الرثاء مفهومه التقليدي ليصبح دعوة للعمل والنضال، حيث تتحول مشاعر الفقد إلى طاقة متفجرة تقود إلى المقاومة.
كان الشاعر موفقا للغاية في اختيار القافية في قصيدته فالقافية لم تكن مجرد نهاية صوتية للكلمات، بل لعبت دورا أساسيا في تعزيز الإيقاع الداخلي للنص وخلق تدفق موسيقي متناغم يتناسب مع موضوع القصيدة. وبالتالي فإن القافية المختارة هنا تتمتع بقوة وثبات، مما يعكس صلابة الموضوع وعمق المشاعر المرتبطة بالشهادة والفداء كما انها تلائم السياق العاطفي والملحمي للقصيدة، حيث ساهمت في إضفاء شعور بالقوة والاستمرارية، وهو ما يتناسب مع مضمون النص الذي يتحدث عن الخلود والتضحية. إلى جانب ذلك، أتت القافية لتكمل النغمة الشعرية، ما أعطى النص تأ موسيقيا يرفع من وتيرة التأثر والإحساس بالبطولة.
هذا التوفيق في اختيار القافية يعكس براعة الشاعر في التحكم بالموسيقى الداخلية للنص دون التضحية بالمعنى أو الفكرة، وهو ما جعل النص قويا من الناحية الجمالية والمعنوية على حد سواء.
القصيدة في مجملها تتسم باسلوب يعيدنا إلى روح الشعر العربي الكلاسيكي، من حيث استخدام التكرار والرمزيات الدينية والتاريخية، لكنها تتجاوز هذا التقليد عبر صبغ الشخصيات التاريخية بصبغة حديثة تتناسب مع الواقع الحالي. إنها ليست مجرد مرثية لشخص، بل مرثية لأمة تعاني وتكافح من أجل الحفاظ على هويتها وكرامتها
هو من (رسول الله) نورٌ، رحمةٌ
بُشرىً، هُدىً، فضلٌ، بُحورُ عطاءِ
هو من فَمِ (الكرَّارِ) (نهجُ بلاغةٍ)
فيرى (الإمامَ عليَّ) فيهِ الرائي
هو من معارفِ (حيدرٍ) ما لم يُقَلْ
في (الشقشقيةِ) من رُؤىً غرَّاءِ
هو غضبةُ (الحسنِ) الشهيد لربِّهِ
هو حربُهُ لعصابةِ الطُلَقاءِ
وهو (الحسينُ السبطُ) أو قُل أنَّهُ
ما في (الحسين السبطِ) من آلاءِ
هو صبرُهُ، هو بأسُهُ، هو عزمُهُ
لقتالِ آلافٍ من الأعداءِ
هو درعُهُ في (كربلاء) ونحرُهُ
هو صدرُهُ المُلقى على الرمضاءِ
قصيدة معاذ الجنيد في رثاء الشهيد حسن نصر الله تتجلى فيها عناصر الحداثة والابتكار بوضوح، حيث يتجاوز الشاعر فيها الأساليب التقليدية في الرثاء إلى بناء نص شعري يتسم بالتجديد على مستوى اللغة والصورة والموضوع.
احد ابرز مظاهر الحداثة في هذه القصيدة هو استخدامه للرموز الدينية والتاريخية، حيث يربط بين شخصية الشهيد نصر الله وبين رموز مثل الحسين بن علي، علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب هذا الربط يمنح القصيدة بُعدا زمانيا ومكانيا ممتدا ما يجعل الشهيد جزءا من تاريخ طويل من المقاومة والبطولة
شيَّعتَ في حُبِّ (الحسين) بعصرنا
أُمَماً رأت بِك (سيَّدَ الشهداءِ)
فتركتَ ما ترَكَ (الحسينُ) حرارةً
بقلوبنا لا تنتهي برثاءِ
أيامُ عمرك للشعوبِ ملاحمٌ
تُروى، ومعراجٌ إلى العلياءِ
يا من كَبُرنا مُمسِكين رِداءَهُ
كتعلُّقِ الأبناءِ بالآباءِ
اللغة في هذه القصيدة جاءت مبتكرة ومتحررة من القيود الكلاسيكية إذ يمزج الشاعر بين لغة الدين والبطولة معا ليعبر عن الفقد والأمل في نفس الوقت
فمثلا استخدامه لصورة كسوة البيت الحرام وغار حراء يمنح النص بعدا روحيا عميقا بينما يتحول رثاء الشهيد إلى إعادة تأكيد على استمرارية النضال والجهاد.
من ناحية أخرى نجد أن الابتكار يظهر أيضا في التعامل مع موضوع الشهادة والمقاومة.
الشاعر هنا لا يكتفي بتأبين شخصية الشهيد فحسب، بل يخلق له مقاما خالدا في التاريخ والجهاد، محولا حدث الشهادة إلى ميلاد جديد للأمة والفكر المقاوم. هذه الرؤية تجعل القصيدة تتحرك بين الماضي والحاضر والمستقبل، ما يضفي على النص طابعا حداثيا عميقا.
في النهاية، يمكن القول إن قصيدة الجنيد تمثل نصا حداثياً بامتياز، يجمع بين التجديد الفني والابتكار اللغوي، ويعيد صياغة الرثاء ضمن سياق ملحمي ومقاوم، مبتعدا عن الأساليب التقليدية المألوفة في هذا المجال.
كما أن هذه القصيدة تمثل علامة فارقة في شعر الرثاء العربي الحديث، إذ أنها تدمج بين التاريخ والواقع، وبين الشخصية الفردية والرمز الجماعي، لتقدم لنا لوحة شعرية ملحمية تعكس عمق الألم وقوة الأمل في آن واحد .