أنس القباطي
تشعر السلطات التركية عاما بعد آخر بحجم الورطة التي وقعت فيها عندما شاركت في زعزعة استقرار جارتها سوريا، ورغم ان ما حصل من حرب في سوريا اعطاها الفرصة للتوغل في الاراضي السورية شرق الفرات، إلا ان ذلك التوغل اصبح عبئا ثقيلا على الجيش والاقتصاد التركي، وخلق ازمات متعددة في البلد.
باب رياح الشؤم
وخلال الثلاثة الاعوام الاخيرة بدأت الخارجية التركية بتحركات تهدف لمعالجة الازمة وآثار الحرب في سوريا، في محاولة من أنقرة لسد باب ما تزال تعبر منه رياح الشؤم، غير انها تصطدم بالاجندة الامريكية التي لم تعد مقتصرة على البلد العربي الجريح، وانما صارت تتمدد نحو الجارة التي شاركت في تعميق جراح جارتها.
محاولات في واشنطن
والسبت 21 سبتمبر/أيلول 2024 قالت وزارة الخارجية التركية في منشور عبر حسابها في موقع إكس، أن الوزير نوح يلماز التقى بالمبعوث الأممي إلى سوريا، جير بيدرسون في مدينة نيويورك التي تحتضن خلال الأيام المقبلة اجتماعات أعمال الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة، مبينة انه جرى خلال اللقاء بحث جهود الحل السياسي في سوريا استناداً إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، وأهمية استئناف انعقاد اجتماعات اللجنة الدستورية.
مرجعية تجاوزتها التطورات
وتسعى تركيا الى ان يكون القرار الأممي 2254 مرجعية للحل السياسي في سوريا، وهذا القرار أصدرته الأمم المتحدة في العام 2015، ويهدف إلى تشكيل حكومة انتقالية وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات، ويتضمن إجراءات بناء الثقة وتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات حرة ونزيهة.
وبموجب القرار تشكلت اللجنة الدستورية السورية رسمياً في العام 2019، من 150 عضواً بالتساوي بين النظام والمعارضة والمجتمع المدني، وعقدت 8 جولات في جنيف لإنجاز إصلاح دستوري، لم تسفر عن أي نتائج حتى الآن.
السعي التركي للحل في سوريا يبدو في الوقت الحالي، ووفق مرجعية القرار الأممي غير مجدي، نظرا للاحداث التي تلت اصداره، عوضا عن ان وضع النظام السوري في الوقت الحالي اصبح اكثر قوة من ذي قبل، وإلى جانب ذلك فإن مجمل الاحداث والتطورات الدولية والاقليمية قد اهالت التراب على القرار الاممي.
ورغم الجولات الثمان من المفاوضات بين النظام والمعارضة إلا انه لم يتم التوصل إلى اتفاق ولو مبدئي يمكن البناء عليه، ليكون بداية لمرحلة جديدة تمهد لمفاوضات الحل في سوريا، ما يعني تعقيد اي مساعي تركية للحل على اساس مرجعية القرار الأممي.
وضع حرج
وتبدو تركيا في وضع حرج، فقد صارت في أمس الحاجة لحل سياسي ينهي الازمة السورية، التي باتت تؤرقها، لكنها لا تستطيع ان تجترح مبادرة بعيدة عن القرار الأممي، لأن ذلك سيزعج واشنطن التي تبدو قابلة بالواقع على الارض السورية، كون ذلك حقق لها فرصة لنهب النفط من الشمال على الاقل، فضلا عن ان تركيا لا تريد ازعاج واشنطن اذا ما اعلنت عن مبادرة للحل في سوريا بعيدا عن مرجعية القرار الاممي، لان الازمات صارت تعصف بالنظام في انقرة، والولايات المتحدة الامريكية لم تعد راضية عن اردوغان ونظامه الذي فضل الحياد في الحرب الاوكرانية.
اندفاع
اندفع النظام التركي بغباء لضرب استقرار سوريا، ولم ياخذ في الاعتبار ان اشتعال العنف والفوضى في الجغرافيا المجاورة لن يكون بمنأى عنه، خاصة وان الحليف الامريكي يعتمد على حوامل محلية تصنفها انقرة بانها جماعات ارهابية.
وخلال السنوات القليلة الماضية اكتوت تركيا بنار ساهمت في اشعالها في الجغرافيا السورية المجاورة، فقد ضربت التفجيرات الانتحارية اراضيها بواسطة ادوات تستخدمها واشنطن في سوريا، وفي نفس الوقت تعادي تركيا.
ضغوط ومخاوف
وتبدو الدوافع التركية للحل في سوريا مرتبطة بضغوط ومخاوف أمنية، لم تأخذها في الاعتبار عندما ساهمت في ضرب استقرار جارتها، فضلا عن ضغوط سياسية محلية، ومشهد جيوسياسي أوسع.
وتبدو تركيا وهي تحاول وتسعى للحل في سوريا وعينها على التمهيد لمفاوضات تؤدي إلى معالجة تهديد وحدات حماية الشعب الكردية، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين الذين صاروا عبئا عليها مع تدهور الوضع الاقتصادي، وانهيار قيمة العملة الوطنية.
اشكاليات معقدة
تدرك تركيا في الوقت الراهن ان الاستقرار في سوريا اصبح متاثرا بشدة بروسيا والولايات المتحدة، في حين ترى انها لا تستطيع ان تتجاوز اشتراطات النظام السوري، الذي يؤكد دائما على تحرير كل الجغرافيا السورية، ما يعني انه يتعاطى مع تركيا باعتبارها محتلة لجزء من اراضي البلاد.
انفتاح وتعاطي
وتسعى تركيا نحو مزيد من الانفتاح مع النظام السوري، رغم اداركها تصلب موقفه فيما يتصل بتواجد قواتها شرق نهر الفرات، لكن تحاول التعاطي معه من كونه بحاجة للمصالحة معها باعتبار ان ذلك يساهم في تعزيز سيطرته على المشهد السياسي المستقبلي، وتحقيق التعافي الاقتصادي، لكنها تتحاشى في هذا الجانب اغضاب واشنطن اذا ما قررت فتح قنوات تواصل مع دمشق تفضي إلى مصالحة بعيدا عن الارادة الامريكية، لأن ذلك سيسبب لها مشاكل مزعجة، فالامريكان بامكانهم تحريك أصدقاؤهم الاكراد المناوئين لتركيا لخلق قلاقل امنية في الداخل التركي.
فقدان المقود
ويبدو ان تركيا بدأت تفقد مفاعيل حضورها في الملف السوري منذ سيطرة الجيش السوري المدعوم من روسيا وايران وحزب الله اللبناني على مساحات واسعة من جغرافيا البلاد، كانت تحت سيطرة جماعات ارهابية وجهادية تنطلق من تركيا، وزاد الطين بلة في العام 2019 بعد توصل الروس والامريكان الى تفاهم افضى لمنع التدخل التركي في سوريا.
وشكل ذلك التفاهم الذي لا تستطيع انقرة تجاوزه عائقا امام الهجمات التي كان كان يشنها الجيش التركي في الاراضي السورية ضد خصومه الاكراد، ما اعطى فرصة للمليشيات الكردية للتفرغ لبناء قواتها التي ترى فيها تركيا تهديدا لامنها القومي.
لحظة منتظرة
ورغم كل هذه المعضلات تحاول انقرة استغلال اي فرصة مهما كانت صغيرة لاحياء مفاوضات الخل في سوريا، لعل تظفر بلحظة تحقق من خلالها اختراق للجدار الذي نصب امام خصورها في الملف السوري.
ثلاثة أهداف
وتنطلق محاولات انقرة انقرة للحل في سوريا من ثلاثة اهداف، يتمثل الاول في تحجيم تهديد وحدات حماية الشعب الكردية، والثاني تسهيل عودة اللاجئين السوريين الى بلادهم، ثم ثالثا السعي إلى حل يضمن الاستقرار في سوريا.
وجاءت هذه الأهداف من مخاوف أمنية مرتبطة بالمليشيات الكردية، وتنامي المشاعر المعادية للاجئين السوريين في المجتمع التركي، خاصة بعد تنامي الازمة الاقتصادية.
ضغوط داخلية
ومع تراجع شعبية الحزب الحاكم والرئيس اردوغان مؤخرا تسعى انقرة لتخفيف السخط العام ضد الحكومة وتعزيز موقفها السياسي بتحقيق ولو أجزاء من الهدفين الاول والثاني، لأن ذلك سيعطيها نفس مناسب لضرب نفوذ المعارضة التي تزداد قوة.
وتواجه حكومة اردوغان ضغوط شديدة في معالجة أزمة اللاجئين، كما ان أي تفجيرات انتحارية تضرب سمعة النظام برمته ليس في اوساط مناصريه.
تخبط
وحتى تتمكن انقرة من تحقيق اختراق يساعدها في تحقيق اهدافها، نجدها تتخبط في تقاربها مع موسكو وواشنطن، فنجدها مرة تتجه نحو الشرق، واخرى تتجه غربا، ما يشير إلى انها باتت تتحرك بدون وعي تحت ضغوط داخلية اكثر، منها خارجية، دون ان تنجح في تحقيق تقدم يوصلها الى الاقتراب من الوصول الى اهدافها.
غياب الرؤية
ويمكن وصف التحركات الدبلوماسية التركية بأنها غير مدروسة، ورغم ان اهدافها الثلاثة التي تنطلق منها تبدو واضحة، إلا انها تحتاج الى وضوح في الرؤية التي تقربها من تلك الاهداف.
وينبغي على انقرة ان تتخذ اجراءات عملية تقربها اكثر من النظام السوري، وذلك لن يتم إلا من خلال معالجة عاجلة للوضع في شمال شرق سوريا، لكن يبدو ان مخاوفها الامنية تقف حائلا امام ذلك.
فقدان الأمل
والواضح ان تركيا فقدت الامل في أن تحل الولايات المتحدة مخاوفها الأمنية المتعلقة بقوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها وحدات حماية الشعب.
وبالتالي ليس امامها من خيار سوى اتخاذ خطوة عاجلة لمعالجة الوضع في شمال شرق سوريا، لأن خطوة كهذه ستقربها من النظام السوري، والذي رغم تحالفه مع روسيا، إلا انه يملك قدرا من القرار يمكنه من التعاطي مع تركيا، لكن تردد الاخيرة هو ما يعيقها لاتخاذ قرار هناك، وهو ما يجعل عملها على خيارات اخرى مجرد مضيعة للوقت.
البناء على تسريبات وزخم
ومما سبق يمكن القول ان التحرك التركي الاخير في الولايات المتحدة بالتزامن مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة ينطلق من محاولة للتعاون مع واشنطن في سوريا، ومواصلة المحادثات مع دمشق، خاصة وان هناك تسريبات تتحدث عن توجه امريكي للانسحاب من سوريا، تزامنا مع الانتخابات الأميركية المقبلة في نوفمبر/تشرين ثان 2024.
ويبدو ان انقرة تبني تحركها الاخير على الزخم الذي يميز علاقاتها في الوقت الراهن بواشنطن، وبالتالي تنشط دبلوماستها وكلها أمل أنقرة في تبني نهج مشترك، غير ان ذلك الامل قد يتلاشى اذا ما رفضت واشنطن التخلي عن وحدات حماية الشعب الكردية، واذا ما فشل هذا الامر، فإنها ستكون مرغمة للتعاطي مع روسيا بحثا عن خيارات جديدة، ولكن بدون وحود ضمانات لنجاحها.
السندان والمطرقة
والواضح ان تركيا وجدت نفسها غارقة في المستنقع السوري، الذي ترنو للخروج منه، غير ان وقوعها بين السندان الامريكي والمطرقة الروسية يزيد من غرقها يوما عن أخر، وما تعانيه نتيجة طبيعية لتهور النظام السياسي التركي بقيادة اردوغان في ضرب استقرار سوريا، التي تمثل الخاصرة الطرية للامن القومي التركي.